القوى العليا

(ثقافات)

القوى العليا

تأليف: نورس خويلدي

كانت تركض كسهم انطلق من قوسه في شارع المدينة التي تقطنها في وضح النهار، توقفت لحظات تلتقط أنفاسها ناظرة إلى التراب حتى رأت ذلك الظل الأسود الغريب وقد ارتسمت له عينان مخيفتان فصرخت من هول المشهد ناتفة شعرها.

فتحت أثير عينيها وكان جسدها الهزيل يرتجف فوق فراشها، فمسحت العرق المتصبّب من جبينها واستيقظت لتستعد لهذا اليوم ثمّ ذهبت إلى المعهد بعدما ودعت أمها… ما إن بلغت الباب حتى نزعت ربطة شعرها الأسود تاركة إياه ينسدل على كتفيها وحيّت صديقتها “منتهى” التي كانت تنتظرها أمام المعهد وخاطبتها قائلة:

ـ تبدين شاردة اليوم يا أثير، هل أنت بخير؟

كانت تشعر أن هناك خطبا ما وقد كان هذا الإحساس يعانقها منذ أيام لكنها لم ترد أن تثير الفزع في قلب صديقتها فقالت:

ـ ربما انخفض معدل السكر لديّ، ألم ندرس هذا في حصة العلوم؟

أخرجت منتهى من حقيبتها قطعة الشكولاتة وقدمتها لأثير فتناولتها شاكرة ودخلت كلاهما القسم، وحين انتهت الدروس توجهتا إلى مطعم قريب لتتناولا الغداء، وقد ذهبت منتهى لتشتري ما ستأكلانه في حين بقيت أثير تنتظرها أمام المطعم، ثم نظرت إلى الأرض فهالها أن رأت ذلك الظل ذي العينين، أمعنت النظر إليه، لم يكن ظلها ولا ظل أي شيء آخر في الأرجاء، خمنّت أنّها ربما قد أصيبت بالجنون فلا يبدو كأنّ أي من المارة يرى هذا الشيء ولو رآه لفزع كما فزعت هي الآن. شعرت بأنها قد رأته سابقا وحاولت أن تتذكر متى، حتى باغتها صوت يقول: القوى العليا .. انصاعي للقوى العليا..

أدارت رأسها باحثة عن مصدر ذلك الصوت لكن بلا جدوى، فقالت لنفسها: أيّ هلوسات أشعر بها أنا الآن.. ثم انطلقت تركض هربا من كل شيء..حتى بلغت آخر الطريق، وقالت في نفسها: لا يهم فلأتغيب على الحصص المسائية لكن على هذه الهلوسات أن تنتهي..

لم تعلم إلى أين تهرب، فأينما ولّت طاردها ذلك الظلّ، أغمضت عينيها علّها تتخلص منه ولكن دون جدوى .. و فجاة سمعت صراخا،ظلت تتبع مصدر الصوت حتى رأت قطة بصدد الولادة…  وحين اقتربت منها بدت كأنها لم تكن تلد قطا، وهنا سمعت القطة تقول:

ـ لقد تظاهرت بالولادة كي أجلب انتباهك، امسكي المطرقة واضربي مكان الظل يا أثير وإلا فان القوى العليا ستحاصرك، لا تنصاعي إليها..

وهنا صرخت من تلقاء نفسها، لا يمكن لهذه القطة أن تتكلم، لا بدّ أن هذا كابوسا،  ولكنها ما لبثت ان سمعت القطة تقول:

ـ تعلمين أنني محقة. افعليها ليس لك خيار آخر..

لم تفهم أثير  شيئا مما يحدث لكنها أمسكت المطرقة الملقاة وجلست القرفصاء وطفقت تضرب الظل ذي العينين الجاثم على الأرض بكل قوتها حتى اختفى..

سمعت صوتا يشهق فرفعت رأسها لترى صديقتها منتهى تصرخ قائلة:

ـ ماذا تفعلين؟ لماذا تطرقين الأرض؟

احتارت أثير في داخلها فهي تعلم أنها لو أخبرتها الحقيقة ستظن أنها مجنونة، لكن كل شيء كان حقيقيا: الظل والقطة التي تتكلم، فلن تتكبّد عناء تبرير ما تفعله، ولذلك صمتت.

ازداد هلع صديقتها حتى بلغ المنتهى فأمسكت هاتفها بيد مرتجفة واتصلت بالإسعاف، أما أثير فانتفضت من مكانها صارخة:

ـ كلا لا تأخذيني إلى المستشفى.. أنا بخير.. لست مجنونة أقسم أن كل شيء حقيقي..

ربتت منتهى على كتفيها بودّ قائلة:

ـ إذن أجبينني لم تفعلين هذا؟

اغرورقت عينا أثير بالدموع وقالت بنحيب:

ـ إن لم أفعل هذا سأنصاع للقوى العليا أرجوك أعيدي لي المطرقة، ودعيني أكمل ما كنت بصدد فعله.

لم تصدق منتهى ما سمعته ثم أمسكت يدي صديقتها وقالت بصوت خنقته العبرة:

ـ الإسعاف قادم، سأتصل بأمك.

حركت أثير رأسها نافية وطفقت تصرخ:

ـ أقسم لك لست مجنونة .. أنا لست مجنونة..

وصلت سيارة الإسعاف بعد دقائق آخذة أثير إلى الداخل عنوة وقد كانت تصرخ وتقاوم وصعدت منتهى إلى جانبها وهي لا تكاد تصدق  ما يحدث، صحيح أن صديقتها كانت تتسم  بالغرابة في الأيام الأخيرة لكنها لم تتوقع أنّ نهايتها ستكون على هذا النحو .. ولم تلبث ان انسكبت الدموع على خديها مراقبة هلوسات “أثير” عن القطة التي تتكلم بنظرة منكسرة.

بعد نصف ساعة، التحقت الأمّ بالمستشفى وهي تجري بهلع واتجهت إلى الغرفة التي تقبع فيها ابنتها وعانقتها بشدّة سائلة عن حالها لكن “أثير” أجابتها:

ـ القوى العليا انصاعي للقوى العليا..

كانت أثير مستلقية على الفراش تراقب المكان مشدوهة وكأنها جثة هامدة لا تستجيب إلى صوت ولا نداء، فشعرت الأم بقلاع قلبها تنهار من هذا المشهد وحاولت أن تمنع نفسها عن البكاء كي لا تشعر ابنتها بالغرابة ولا ترى حزنها فنظرت إلى الطبيب بأعين حائرة وقالت:

ـ ما الذي يحدث لها؟ لقد كانت هذا الصباح فقط على ما يرام.

خرج الطبيب من الغرفة داعيا إياها للحاق به فمضت الأم خلفه متسائلة:

ـ هلا تخبرني ما الذي يحدث لهذه الفتاة عن أيّ قوى عليا تتحدث؟

فأجابها بمرارة:

ـ أنا آسف، لكن ابنتك أصبحت مصابة بانفصام في الشخصية.. سنتخذ كل التدابير لننقلها إلى قسم الأمراض النفسية والعقلية.

فاضت عينا الأم بالدموع وقالت:

ـ لكن يوجد علاج أ ليس كذلك؟

أومأ بأسف:

ـ سنعطي ابنتك أدوية تخفف الأعراض وعقاقير مهدئة لكن هذا كل ما نستطيع فعله.

وهنا بدأت الأم تبكي وتولول: آه يا فلذة كبدي.. ابنتي الوحيدة.. لقد كنت على ما يرام.. من بعد أبيك الذي تركني، كيف أخسرك أنت كذلك؟

حاول الطبيب تهدئتها لكنها دخلت الغرفة وضمت ابنتها بقوة وهي لا تزال تبكي بكاء تنقطع له نياط القلب.. وابنتها لا تزال تقول:

ـ القوى العليا .. انصاعي للقوى العليا.

كانت منتهى تراقب المشهد وهي جالسة على إحدى المقاعد أمام الغرفة، وهي تمتم: لقد كانت فتاة عادية.. ما الذي حصل يا ترى؟

استيقظت من مكانها وخرجت من جناح المستشفى كي تستنشق الهواء ثم بقيت شاردة تنظر إلى الأرض حتى رأت ظلا غريبا أصبح له عينان. كادت ستفزع لكنها طمأنت نفسها وأدارت ظهرها عائدة للجناح ربما هي بالفعل متعبة من كلّ ما حصل اليوم مع أثير وتحتاج إلى قسط من الراحة.

* كاتبة من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *