جبال عُمان.. دهشة ملازم بريطاني بالجزيرة العربية
تيسير خلف
زار ملازم البحرية البريطاني جيمس ريموند ويلستد (1805 – 1842)، سلطنة عمان في العام 1835، في بعثة استكشافية هدفها مسح الساحل الجنوبي للجزيرة العربية، ووضع خريطة للمنطقة. وقد نشر نتائج رحلته الاستكشافية في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.
وبعد نهاية رحلته، عاد ويلستد إلى مومباي الهندية حيث كان مقر عمله، وأصيب بالحمى، وفي إحدى نوبات الهذيان أطلق على نفسه النار، فاستقرت رصاصة في فكه العلوي، لكنه لم يمت، ونقل إثر ذلك إلى لندن، وتقاعد من الخدمة في العام 1839، وقضى جزءاً من وقته بعد التقاعد في مصحة للأمراض العقلية، قبل أن يتوفى في الثامنة والثلاثين من عمره.
السلطان سعيد بن سلطان
بعدما نال إجازة من حاكم مومباي البريطاني توجه ويلستد إلى مسقط فوصلها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1835، وكان في استقباله السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي، الذي وعده بتقديم كل مساعدة ممكنة في مهمته، بل ورتب له مرافقة على الطريق الذي سيسلكه. كان عليه أن يبحر أولاً إلى ميناء صور، جنوبي مسقط، ثم يتوغل في البلاد التي يسكنها بنو بو علي، ويشق طريقه من هناك إلى الجبل الأخضر حيث وصفه بأنه “كان شامخاً ومثمراً ومزدحماً بالسكان”. وبعدما زار أكثر الأجزاء إثارة للاهتمام في عمان، كان يفكر في التحرر من مضيفه العماني لكي يتمكن من زيارة نجد قاصداً الدرعية.
في ديار بني بو علي
لاحظ رحالتنا في صور، وهي قرية صغيرة فيها ميناء جيد، وجود واد يشق الجبل، ويؤمن سرعة الوصول إلى البلدة الواقعة وراءه. وبعد رحلة استغرقت أربعة أيام، وصل ويلستد إلى خيام قبيلة بني بو علي، في نقطة سبق أن توغلت فيها القوات البريطانية عام 1821، لمعاقبة القبيلة على أعمال القرصنة، كما يقول.
وعلى الرغم من عدم قيام أي بريطاني بزيارتهم منذ ذلك الوقت، إلا أنهم استقبلوه بكل مودة، وذبحت له الأغنام، وأعدت وليمة فاخرة، وفي المساء تجمع جميع رجال المضارب، وعددهم 250، بغرض عرض رقصهم الحربي. وهكذا يصف ويلستد المشهد: “لقد شكلوا دائرة داخلها خمسة منهم، بعد المشي على مهل لبعض الوقت، تحدى بعضهم المتفرجين بضربة لطيفة، وفجأة قفز الخصم واندلع قتال تمثيلي. إنهم لا يحمون أنفسهم بالترس أو الدرع، ولكن يتفادون الضربات بالقفز أو الانكفاء إلى الخلف. يبلغ طول نصل السيف ثلاثة أقدام، وهو رفيع ذو حدين، وحاد مثل موسى الحلاقة. من خلال حركة غريبة للمعصم، يتسببون في اهتزاز السيف بطريقة رائعة للغاية، وهي طريقة لها تأثير مدهش”.
زيارة إلى قبيلة الجنبة
في المساء، حضرت مجموعة من عرب الجنبة من الصحراء برفقة أحد شيوخهم. وقد وافق الشيخ على أن يصحب معه ويلستد في رحلة قصيرة إلى منطقته، وانطلقوا في صباح اليوم التالي.
كان ذلك في شهر كانون الأول/ ديسمبر، وكان هواء الصباح بارداً وخفيفاً، كما يقول، وسار الركب بسرعة في السهول العريضة القاحلة والتلال المنخفضة المليئة بأشجار الأكاسيا، والقنوات الصخرية التي حملت فيضان موسم الأمطار إلى البحر. وبعد رحلة استغرقت أربعة وأربعين ميلاً، نزلوا بالقرب من بعض الآبار قليلة الملوحة. قال الشيخ لويلستد وهو يضرب برمحه على الأرض: “لقد تمنيت أن ترى بلاد البدو؛ هذه هي بلاد البدو”.
في اليوم التالي استضاف الشيخ ويلستد في مضاربه، حيث قدموا له القهوة والحليب والتمر، وعاملوه بكل كرم. ويقول إن قبيلة الجنبة تملك حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل؛ ينتشرون على مساحة كبيرة من جنوب الجزيرة العربية، وينقسمون إلى قسمين مختلفين، أولئك الذين يعيشون على الصيد، وأولئك الذين يتبعون المراعي. ويقول إن الجنبة لا يفرقون بين الرعاة والصيادين كما هو الحال في مناطق أخرى من الجزيرة.
كان يمكن لويلستد أن يتوغل إلى الجنوب أكثر، ولكنه كان يفكر بالذهاب شمالاً نحو نجد، ولذلك عاد إلى مضارب بني بو علي ومنها سافر لمدة يومين شمالاً، عبر منطقة متموجة من الرمال، تتخللها أحياناً نباتات الأكاسيا القزمة، إلى أن وصل إلى منطقة تسمى بيضا، تتكون من سبع قرى، كل منها تحتل واحة صغيرة من نخيل التمر.
ويبدي ويلستد دهشته من الانتقال السريع من وهج الصحراء إلى هذه القرى الخصبة التي تنتج محاصيل فاكهة وخضروات ويقول إنها بقعة تعج بالنباتات والأشجار بشكل كثيف، ويشير إلى هبوط مقاس درجات الحرارة الذي يحمله عشر درجات بين الصحراء المجاورة وإحدى هذه الواحات.
غرابة منازل إبراء
عند الاقتراب من مدينة إبراء الكبيرة الواقعة باتجاه الشمال، تصبح البلاد جبلية، كما يقول، وتزداد وديانها خصوبة. ويصف ويلستد المكان بقوله: “هناك منازل جميلة في إبراء؛ لكن أسلوب بنائها غريب تماماً عن هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية. والسبب هو تجنب الرطوبة ومنع أشعة الشمس من اختراق البيوت. يوجد حاجز يحيط بالجزء العلوي من الأبراج، والنوافذ والأبواب لها أقواس عربية، وكل جزء من المبنى مزين بزخارف من الجص بالنحت البارز، وبعضها ذو ذوق رفيع للغاية. الأبواب مغطاة أيضاً بالنحاس، ولها حلقات وزخارف ضخمة من المعدن نفسه”.
على بعد يومين من السفر شمالاً، وصل ويلستد إلى بلدة السميدة، حيث وجد مجرى جيداً من المياه الجارية. ويصف منزل الشيخ بقوله: “كان منزل الشيخ حصناً كبيراً، يتكون من قاعة فسيحة وشاهقة، لكنها تفتقر إلى الأثاث. وعلى الجدران علقت رماح بارزة وسروج أحصنة وأقمشة تخص الخيول والجمال. تم طلاء الأسقف بمواد مختلفة، لكن الأرضيات كانت من الطين، ومغطاة بشكل جزئي بالحصر. المصابيح المصنوعة من الأصداف تتدلى من السقف”.
عند عودته إلى خيمته وجد ويلستد كالعادة، حشداً غفيراً من الناس، وكان ثمة صبي يبلغ من العمر اثني عشر عاماً تقريباً يحمي تلك الخيمة. وكان ذلك الصبي يحمل سيفاً أطول منه، وأيضاً عصا، ويقول ويلستد إن العرب يتوقفون عن معاملة الأولاد كأطفال في سن مبكرة جداً، وبالتالي يكتسبون صفات الرجولة مبكراً.
منح وحصنها الغريب
غادر الضابط البريطاني هذه البلدة مصحوباً بعشرات المسلحين القبليين لمدة يومين ونصف اليوم، على اعتبار أن هذه المنطقة لم تكن آمنة. مر بالعديد من القرى الصغيرة التي تفصل بينها مساحات صحراوية، ثم وصل إلى مدينة منح، بالقرب من سفح الجبل الأخضر. يقول: “تختلف مينا عن غيرها من المدن بزراعتها ذات الحقول المفتوحة. وكانت ثمة أشجار اللوز والكباد والبرتقال، التي تعطي رائحة لذيذة للمكان، لقد أصبت بدهشة كبيرة من هذا الجمال، هل نحن فعلاً في الجزيرة العربية؟ حقول الحبوب وقصب السكر الممتدة لأميال أمامنا. مجاري المياه، التي تتدفق في جميع الاتجاهات، تتقاطع مع طريقنا؛ كما أن مظهر المزارعين السعيد الممتلئ بالرضى يساعد على رسم صورة باسمة لهذا المكان. الجو مبهج بشكل كبير؛ وبينما كنا نسير بفرح، ونرد التحيات والترحيب، كنت أتخيل أننا وصلنا أخيراً إلى أرض العرب المباركة، التي كنت أظنها موجودة فقط في قصص شعرائنا”.
ويشير رحالتنا إلى أنه سمع بأن منح مدينة قديمة، لكنه يشير إلى أنها لا تحتوي، كما هو الحال مع المدن الأخرى، أي دلائل على العصور القديمة؛ فبيوتها شاهقة، بحسب رأيه، لكنها لا تختلف عن تلك الموجودة في إبرا أو سميد. ويقول يوجد فيها برجان مربّعان، يبلغ ارتفاعهما حوالي مائة وسبعين قدماً، في وسط المدينة تقريباً؛ مذهلان بالنظر إلى خشونة المواد وإذا أردت المراقبة عليك أن تصعد عن طريق سلم صعب، تم تشكيله عن طريق وضع قضبان من الخشب ثنائي الاتجاه، في أحد الجوانب الجانبية للبرج.
حصن نزوى
ويتوجه ويلستد إلى مدينة نزوى المهمة، الواقعة في الجهة الغربية للجبل الأخضر، ويقول إنها رحلة قصيرة ليوم واحد من منح. وهناك، استقبل حاكم المدينة ويلستد بطريقة ودية، وأقام، للمرة الأولى منذ مغادرته مسقط، في منزل كبير. وسُمح له بزيارة القلعة التي تعتبر أمنع ما في تلك المنطقة. ويقول إن للقلعة باباً حديدياً قوياً جداً، وقد صعد عبر ممر مقبب إلى قمة القلعة. ويضيف أن شكل حصن القلعة دائري، ويبلغ قطره حوالي مائة ياردة، ويرتفع تسعين قدماً. ويشير إلى وجود سبعة أو ثمانية آبار تزود القلعة بإمدادات وفيرة من المياه، ويلفت النظر إلى وجود جدار يحيط بالقمة بارتفاع أربعين قدماً، ما يجعل الارتفاع الكامل للحصن مئة وخمسين قدماً. ويعلق على ذلك بقوله: “إنه إنجاز غير عادي، ومن مظهره يحتمل أن يكون ذا قيمة كبيرة في العصور القديمة”.
ويقرر ويلستد القيام برحلة إلى الجبل الأخضر، فيعبر سلسلة من التلال شديدة الانحدار في مسار ضيق جداً لدرجة أنه بدا في بعض الأحيان معلقاً على منحدرات غير معروفة العمق. في اليوم الثاني وصلوا إلى قرية سيق. يقول: “نزلنا بدرجات من الجانب الأشد انحداراً من واد ضيق، بعمق حوالي أربعمائة قدم. مررنا في طريقنا على بيوت مبنية على هذه الجروف شديدة الانحدار. هذه المساكن الصغيرة والمريحة والمضغوطة، أقامها السكان الأصليون واحداً فوق الآخر، بحيث يبدو منظرها من قاع الوديان معلقاً كما لو كانت تطير في الهواء، ما يعطي صورة رائعة مثيرة للاهتمام. هنا صادفنا مجموعة كبيرة ومتنوعة من الفواكه والأشجار: رمان، لوز، جوزة الطيب، جوز عادي، مع شجيرات البن والكروم. في الصيف، تعطي هذه العناصر مجتمعة رائحة زكية للمكان؛ ولكن نحن الآن في فصل الشتاء، والأشجار عارية بلا أوراق. تتدفق المياه في أماكن كثيرة من الجزء العلوي من التلال، ويتم استقبالها في الأسفل في خزانات صغيرة، عندما يتم توزيعها في جميع الأنحاء”.
الشريجة وبنو ريام
في الليل توقفوا في قرية تدعى الشريجة، في قلب الجبال، أعلى قممها يصل ارتفاعها إلى ستة آلاف قدم فوق سطح البحر. ويقول إن سكانها ينتمون إلى قبيلة تسمى بنو ريام، ويشير إلى أنهم يزرعون العنب بغرض صنع النبيذ. في اليوم التالي تركه البدو المرافقون له، حيث وجد صعوبة كبيرة في العودة إلى نزوى عبر طريق آخر كان ينوي أن يسلكه للبدء برحلة إلى وسط الجزيرة العربية، ولكن الأموال التي كان ينتظرها لم تصل من مسقط، حيث كان لدى المعتمد البريطاني هناك رفض لتقديم ما يلزم من الأموال. ولم يكن منه إلا أن تقدم بطلب مباشر إلى السلطان سعيد للحصول على قرض، وأثناء انتظار الإجابة، قام برحلة إلى الصحراء، على بعد خمسين ميلاً إلى الغرب من نزوى. ولكي يتعرف إلى عادات البدو وحياتهم المنزلية، اختلط معهم خلال هذه الرحلة، حيث عاش ونام في أكواخهم وخيامهم. وحضر جميع المناسبات، وكان يعامل بلطف.
وعلى الرغم من أن سلطان مسقط وفر له الأموال اللازمة للمضي في رحلته، إلا أن إصابته بالحمى الشديدة منعته من التوغل في الصحراء. وفي 22 كانون الثاني/ يناير 1836، غادر نزوى متجهاً إلى ميناء السيب الصغير، حيث وصل بعد رحلة بطيئة استمرت ثمانية أيام.
محاولة فاشلة
أمضى ويلستد أربعة أسابيع في السيب إلى أن استعاد صحته، ليعاود محاولة السفر إلى قلب الجزيرة العربية، ولذلك تقدم بطلب إلى السلطان للحصول منه على مجموعة مرافقة إلى واحة البريمي، وهي أول مدينة كانت خاضعة للوهابيين، كما يقول، خارج الحدود الشمالية لعمان. أرسل السلطان دليلاً، لكنه لم يتعهد له بضمان سلامته، حيث وصلت الأخبار للتو أن الوهابيين كانوا يستعدون لغزو أراضيه.
وبعد ذلك توجه ويلستد إلى ميناء السويق حيث استقبلته زوجة الحاكم السيد هلال الذي كان غائباً، وقد حظي بضيافة مميزة ووصف وليمة دعي إليها بأنها تكفي لثلاثين أو أربعين شخصاً، ولاحظ وفرة كبيرة في الأواني الخزفية الزرقاء والمذهبة، والأطباق الزجاجية، وأوعية الشربات.
بعد عودة السيد هلال أصبح ويلستد يقضي السهرات معه، وفي إحدى المرات كان ثمة حكواتي محترف، يحب الشيخ حديثه، ويبدو أنه كان يقرأ القصة مغناة، إذ يقول ويلستد: “بسبب النغمة المتكلفة التي رددت بها القصة، لم أتمكن من متابعة خط الحكاية، وبعد أن ذكرت ذلك للشيخ، أرسل لي المخطوطة التي استفاد منها الحكواتي”.
في عبري
غادر رحالتنا ميناء السويق وتوجه إلى مدينة عبري، وهي آخر مدينة في الشمال تعترف بنفوذ مسقط، كما يقول، وكانت رحلة لمدة يومين؛ اليوم الأول عبر واد واسع بين تلال هرمية، والثاني عبر سهول رملية، ما يشير إلى اقترابه من الصحراء. ويقول إن “عبري هي واحدة من أكبر المدن وأكثرها اكتظاظاً بالسكان في عمان. يكرس السكان أنفسهم تقريباً للزراعة، ويصدرون كميات كبيرة من النيلة والسكر والتمور”. وعند وصوله، ذهب فوراً إلى منزل الشيخ، الذي وجده شخصية مختلفة تماماً عن الشيوخ الذين التقى بهم حتى الآن. فقد طلب منه شيخ عبري عدم تضييع الوقت في ترك بلدته، لأن ألفين من المقاتلين الوهابيين قادمين. وهكذا أحبطت آماله للمرة الثانية في الوصول إلى الدرعية. وقد اضطر ويلستد إلى العودة إلى السويق، حيث نجا بأعجوبة من كمين للبدو، قبل أن يعود إلى الهند.
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
قصيدة النّثْر العربية*محمد الزهراويخاص- ( ثقافات )قصيدة النثر العربية لاتختلف عن اخْتها العالَمِيّة حيْث تمْتدُّ جذورُها في…
-