مع الخامس من حزيران في الزمان والمكان

(ثقافات)

                      مع الخامس من حزيران في الزمان والمكان

                                                                                                            إفلين الأطرش

ولكل زمان تواريخه التي يحفظها، ولكل مكان ذكرياته التي يحفرها. أعود إليهما في ترابطهما الحَدثي، فلا يطغى أحدهما على الآخر، فالتمازج الراسخ بينهما عاطفي بامتياز. أما إذا كانا عامين  فلن يطغى على الذاكرة الجمعية إلا تواريخ الزمان، فيصير المكان خاصا قد يشبه غيره أو يختلف عنه، فهو دلالة عيش تجربة خاصة .

                                          ****************

أنتظر مع زميلاتي تخرّجنا من معهد معلمات رام الله الحكومي العام 1967 بعد انقضاء عامين دراسيين تبعا امتحان الثانوية العامة (التوجيهي). فقد عُيّن له شهر حزيران، ولم يحدّد تاريخ يومه. وعلينا التدرب ّ للحفل الرسمي الكبير الذي سيقام بهذه المناسبة. لم نكد نحفظ قَسَم التخرّج، ليطلب إلينا العودة إلى منازلنا، وإخلاء المبنيين السكنيين قبل أسبوع من انتهاء شهر أيار، على أن يتمّ إبلاغنا بموعد عودتنا الجديد. وما علينا إلاّ تحضير الطقم الأبيض الرسمي الذي اختير للتخرّج.

كان كلّ شيء يغلي، وبدأنا نسمع قرع طبول على خفوت لا يزال. والمعهد يضمّ طالبات ومعلمات من مدن كثيرة شرقيّ النهر، عمان والسلط وإربد والكرك ومعان، كما نابلس وجنين والخليل والقدس ورام الله وما حول كل منها غربيّه. كانت الأرض تمور بما يبيّت لها. نستمع لإذاعاتنا العربية فلا يصلنا وعي بحقيقة ما يبيّت، ونحن معهم في غيّنا سادرون، فالأرض لنا وتحريرها بات قريبا، وسنرمي الأعداء في البحر ليعودوا من حيث أتوا. فقد أُشبعنا كلاما حدّ التخمة.

أطلب من الجندي الأردني على الخط الفاصل بيننا وبينهم، فيما يسمّى “المنطقة الحرام” كخط هدنة أقيم عام النكبة، الاقتراب من السياج أكثر لرؤية أحدهم. فلن تتاح لي فرصة ثانية. يطلب إليّ الانتظار ريثما يحضر “الدربيل”، المنظار المكبر، لأراه أوضح. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها هذه التسمية، ولاعتقادي أنها قطعة سلاح، أصابني الخوف. تلك الحادثة حصلت مصادفة حين رافقت أختي ليلى لمدرسة تُدرّس فيها في “الثوري”، أحد أحياء القدس الشرقية، لانتظارها ريثما تسلّم علامات صفوفها. وأقطع وقت الانتظار بالمسير، قبل التوجّه برفقتها إلى شارع صلاح الدين، الأهم في القدس، لشراء قطعة القماش الأبيض لتكون طقم تخرّجي.

في الخامس من حزيران  بدلا من استعداد لتخرّج سيكون إعلانا لبناء استقلاليتي ومستقبلي، تبدأ ما سُميّت حربهم ونكستنا. أجد نفسي فجأة، وأنا لم أتخطَّ عتبة التاسعة عشرة إلا قبل شهرين، أكبر أخواتي وأخوتي، بعد توجّه “ليلى” إلى عمان في اليوم السابق فقط، حيث ستكمل رحلتها إلى بيروت لتأدية امتحانات الجامعة التي انتسبت إليها. تُقطع الطرق وتتوقّف حركة الانتقال بين الضفتين، فتنضمّ لأختي “اليزابيت” التي تدرس  في كلية الأميرة منى للتمريض، وتنظر تخرّجها هي الأخرى.  فأنا تكبرني ثلاث شقيقات، وتصغرني اثنتان وشقيقان، ابتعدت عنهم لعامين في قسم داخلي في المعهد، أعود إليهم لأقل من أربع وعشرين ساعة عطلة نهاية الأسبوع، بالكاد تكفي للقيام بالتزاماتي الخاصة .

بدأت المعارك ذاك اليوم بعيدة نسبيا إذ تدور رحاها على مشارف القدس الشرقية، وبلدتي بيت ساحور إلى الشرق من بيت لحم جنوب هذه المدينة. نلتحق نهارا بمركز الدفاع المدني الذي أُنشئ على عجل، في عرين الكشافة والمرشدات، الارثوذكسي العربي، غير بعيد عن منزلنا. أعلن مقرّا لقيادة الجيش الشعبي، بعدد أفراد قليل وبأسلحة قديمة لن تردّ عنا الأذى حين رأيناها. وتجوالهم الدائم للتأكّد من إعتام النوافذ والمنازل، وضمان توجّه الأهالي إلى ما سمّي بالملاجئ. ونحن نستجيب ، فلن يطول الأمر.

نهجر بيوتنا ليلا لنحشر في مغارة كبيرة ، نصل إليها أول مرة في حياتنا، تتسّع لكل أهل حارتنا وسط البلدة. وإذا ما جاء النوم فهو بكامل الملابس والأحذية، وبالتناوب. فالهدوء التام والظلمة الحالكة سيّدا يوم مكان اسمه بيت ساحور، إلاّ ما تقطعه صافرات الشرطة المتقطّعة للتنبيه بعدم التحرّك، أو أصوات أفراد الجيش الشعبي الزاجرة لمن تجرّأ وخرج للاطمئنان على عائلة، ابن أو ابنة. ولا أخبار إلا من بعض تسريبات لمن بحوزتهم أجهزة ترانزستور، تعمل على البطاريات ادّخرت لمثل هذا الوقت وما بعده. وأبي من هؤلاء. لكنه لا يعطي إجابة شافية على أسئلتنا الملّحة لمعرفة الحقيقة. يسوق حججا وتبريرات مثيرة للشك. صار يمضي النهار في المنزل، ويطلب إلينا البقاء مع أمي في ذلك الملجأ المخيف من بداية اليوم الثالث للحرب. يُفرض منع التجوال النهاري بقسوة، فلا نصل بيت أختي الكبرى للاطمئنان عليها وعلى أطفالها وعائلتها، إذ بإمكاننا قطع المسافة بدقائق معدودة ما بين المنازل.

في اليوم السادس صباحا نرى الجنود المنسحبين دون أسلحة أو غطاء رأس أو أشرطة رتب، في الأراضي الوعرة المقابلة. يقترب أحدهم من أبي الذي التحق بنا، مع بقائه أمام ذاك الملجأ، ليطلب جرعة ماء. يعطيه ويسأله عن الأحوال ليردّ بأن الجيش العراقي قد أخذ أمكنتهم. هذه المرّة نطق أبي بغضب لا يوازيه أي وصف “خلصت، احموا بناتكم”. بالرغم من سؤالنا له، عندما كنا نسمع كلمة “خلصت”، طيلة الأيام الثلاثة الأخيرة تتردّد من هذا وذاك، يلوذ بالصمت أو يسوق الحجج المعتادة عن ضعف الإرسال أو نفاذ بطاريات المذياع.

احتُلّت القدس، منذ يومها الأول تقريبا، مع إكباري لكل من سقط شهيدا على ترابها، وباقي تراب فلسطين في كل زمان ومكان. بقي عليهم تنظيف ما حولها بتهجير أكبر عدد من السكان، بعد تهجير من يستطيعون منها، وبخاصة أهالي المخيمات الفلسطينية، فانهالت القذائف على تلك التجمّعات. هرب الكثيرون باتجاه الشرق. يلاحقونهم بالقتل بطائراتهم التي ترمي قنابل النابالم المحرّمة، أثناء وصولهم النهر. وكذلك الآليات العسكرية المُنسحبة. وكم تُروى قصص شهود عيان لهول ما عاشوه أو رأوه. أما المدن والبلدات، فقد كان قصفها أقلّ من المخيمات حيث في مخطّطهم تحويل أهاليها، مرحليّا، إلى عمال لديهم، لبناء تلك المستوطنات، وجلب المزيد من اليهود المهاجرين.

تسقط عدّة قذائف مدفعية، ملاحِقة لآليات الجيش الأردني المتجهة إلى معسكر في الطرف الشرقي من البلدة. تصيب إحداها الأستاذ الياس رشماوي، عازف الأكورديون الوحيد الذي يشارك المدارس جميعها أنشطتها. يستشهد ويُدفن على عجل، قبل حلول الظلام وبدء سريان مفعول حظر تجوال كامل، فرضه الاحتلال هذه المرّة بعد الطلب من الجميع رفع الرايات

نُحشر من جديد في غرفة أخويّ. خمسة على سريرين بكامل ملابسنا وبأحذيتنا. بحراسة أمي وأبي لنا في الصالة الأمامية ينتظران قتلهما قبل اقتراف أي فعل بشع فينا. فالذاكرة مليئة بكل ما ارتكب. نحبس أنفسنا طوعا في المنزل شهرا كاملا حدادا، وقهرا وذلا، وكفرا بأمة عربية آمنا بها فألحقت بنا ضياعا جديدا، لم يرد حتى في كوابيسنا. تشظّت الأسر والعائلات والعلاقات، بإغلاق الطرقات وجسور التواصل. أضحى الافتقاد لمن ليس في كنف أهل، لأسباب لم يتدخّل مطلقا بوعيه لإيجادها، فقط لعيش حلم تكشّف أنه سراب خادع، هو العيش الجامع الأوحد.

إذن زلزال، الكبير بدماره، أماد الأرض تحت أجساد الجميع. لا يزال يكبر وتعلو أصوات انهياراته  حتى اليوم…

       * كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *