تسببتُ في أزمة دبلوماسية بسبب إحسان عبد القدوس

(ثقافات)

من الذاكرة:

تسببتُ في أزمة دبلوماسية بسبب إحسان عبد القدوس

د. لوتس عبد الكريم

وأنا عائدة في رحلة لي من فرانكفورت إلى القاهرة ، أتذكر كلمات صديقي إحسان عبد القدوس : ” تعيشين كل المتناقضات ، فمن طوكيو إلى أبي العباس المرسي في الإسكندرية ، ومن باريس إلى الشيخ عبد الحليم محمود …” ، حيث كنت أجلس في مواجهته على سيل من الأسئلة .

كما جال في ذاكرتي حوار مع مذيعة في تليفزيونية ألحت في معرفة ما كان يدور بيني وبين إحسان من حوارات .

لقد كنت أحكي لإحسان ماذا رأيت من غرائب الأسفار ، وما عرفت من معادن البشر ، ما يخفون وما يظهرون ، ما يقال وما لا يقال عن شعب معين اختلطت به كثيرا ، وكان إحسان عبد القدوس يلح ويحتد حتى أتكلم وأستفيض في السرد والشرح بتفصيل لا خلل فيه ، وتمر بنا زوجته ” لولا المهيلمي ” فتقول لي محذرة : ( حاسبي الريكوردر بيسجل ) .

كان إحسان كما تقول لي زوجته لا يكتم سرا ، كالأطفال لا يمل الحكي ، حيث كان يكتب من صميم الحياة التي يعيشها ويعرفها ، فكنا نجلس على شاطئ البحر في الإسكندرية صيفا ؛ ليرقب البشر ، ويشرد بخياله بعيدا ، ثم يلتفت حوله ويشير إلى فتاتين تسيران معا قائلا : انظري إن إحداهما في شدة الانفعال ، لقد صُدِمت في زوجها ، إنها تبكي وتسرد لصاحبتها ) ، ثم ( هذا الشيخ السائر منحنيا يحمل أثقال الدنيا على ظهره ، وهؤلاء الفتيان لقد سقطوا في الامتحان ، يتملكهم اليأس والهم ، وهم في حاجة ماسة إلى من يسري عنهم ) . وهكذا كان خياله الجامح يخلق القصص والحكايات ثم يسبغ عليها من أفكاره وعمق أحاسيسه بالحياة ، ثم يخلق منها قصصا شائقة .

وذات يوم تحادثنا وأشبعت فضوله إلى معرفة غرائب بعض الشعوب التي التقيت بها أثناء حياتي الدبلوماسية ، وكانت لولا تجلس جواره محذرة إياي من الاسترسال في سرد الأسرار .

وفي بعد أيام اتصل بي يوسف السباعي ثائرا صائحا ، وكان يرأس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام التي ينشر فيها إحسان ما يكتب من قصص وروايات : لقد سألت إحسان من أين أتى بهذه المعلومات فقال لي : إنها منك ، كيف يحدث هذا ، لقد سببت أزمة دبلوماسية ، فقد حضر إلي سفراء عدد من الشعوب التي تكلمتم عنها ليستفسروا عن أي شعب يعني إحسان في هذه الحكايات والقصص عن السلك الدبلوماسي ، ثم أوقف السلسلة التي كان إحسان سيواصل الاستمرار فيها ، وحذرني من الاسترسال في أي حوار يمس أي شعب أو شخص مع إحسان الذي لا يحفظ سرا .

وذات يوم التقيت عند إحسان ولولا بالكاتب أحمد رجب ، وكانت مجلة الشموع في بدء صدورها ، فإذا به يقول له : ” البت دي أعجوبة ، بتصرف فلوسها على الثقافة ، تصور بتقول بدلا من شراء خاتم من الماس أنشر كتابا ، وبدلا من شراء ثوب جديد أدفع ثمن مقال ، وربنا بيرزق ” .

يقول إحسان إن في رأسه وخلف جبهته تماما توجد آلتان للتصوير ، واحدة منهما لها عدسة مفتوحة باستمرار ، تلتقط صور المرئيات ، الأشخاص والمناظر والحوادث ، ثم تمحوها دون أن يبقى منها شيء ، إنها آلة تقوم مقام المصباح الكهربائي الذي ينير لك الطريق.

أما الآلة الثانية ، فعدستها ليست مفتوحة دائما ، لكنها تفتح في مناسبات ، وتحتفظ بالصور التي تلتقطها في ألبوم خاص في ذاكرته .

وقال إحسان إن هذا الألبوم الخاص لن يمحى أبدا من ذاكرته إلى آخر حياته ، وهو يفتح هذه العدسة الخاصة في مناسبات لا إرادية ، أي لا سيطرة له عليها ، كلمة سمعها ، أو لفتة ، أو خط في وجه امرأة أو فتاة ليست بالضرورة أجمل ولا أهم فتاة ، ولكنه بلا مناسبة يجد ألبوم الصور قد فتح ، وأطلت عليه صورة قد يكون احتفظ بها عشرات السنين ، هذا هو الباب الذي يفتح أيضا .

ويقول إحسان : عندما أسافر إلى الخارج في إجازة فإن معظم وقتي أقضيه على رصيف مقهى وحيدا ، أنظر إلى المارة ، وكأنني أنظر إلى زهور طبيعية نثرها الله على الأرض ، زهرة يثيرني جمالها ، وزهرة تثير عجبي ، وزهرة تثير إشفاقي ، ومع كل زهرة أتمتع بأن أترك خيالي يتصور لها قصة ، إن كل فرد بين ملايين البشر له قصة قائمة بذاتها تصلح للنشر ، وأتمتع بما يملأ عيني من مناظر الزهور البشرية ، وبما يملأ خيالي من قصص .

(عن صفحة الكاتبة في الفيس بوك)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *