الحضور البريختي في رواية “الغميضة”

 (ثقافات)

الحضور البريختي في رواية “الغميضة”

د.هويدا صالح

إن السرد الروائي منذ نشأته  يراوغ في تشكلاته الجمالية،  ويميل إلى التجريب ويسترفد روافد معرفية وأجناسا أدبية متعددة؛ ليفيد منها في صنع عالم روائي مغاير ومفارق لما هو مألوف. ولعل من أهم الروافد الأدبية التي أفاد منها الروائيون في نسج فضاءاتهم السردية هو المسرح،  بتقنياته وثيماته الجمالية.

وأتصور أن هذا الوعي هو الذي تمثله الروائي والمسرحي المصري وليد علاء الدين في روايته “الغميضة” التي صدرت عن دار الشروق بالقاهرة.

وقصدت وصفه بالروائي والمسرحي رغم أنه يمارس كتابة أجناس أدبية أخرى مثل الشعر والمقالة الأدبية لأكثف الضوء على شرعية التداخل الإجناسي في”الغميضة” التي أفادت من التقنيات الجمالية المسرحية، لكنها أبقت على النفس السردي الروائي، وهذا التداخل بين الرواية والمسرح تمثله الكاتب منذ التصدير الأول الذي صدر به للرواية:” هذه ليست رواية، إنما مسرحية خبأتها في جسد رواية، يمكنك أن تقرأ لتكتشف ذلك بنفسك أو انزع هذه الصفحة واهدِ الكتاب لصديق تمنيت خداعه” إذن مراوغة القارئ ليست فقط في الثيمات الجمالية التي ارتحلت من المسرح إلى الرواية إنما منذ البدء يراوغ الكاتب قارئه الافتراضي ويكشف له عن التداخل الإجناسي في النص.

الحضور البرختي في “الغميضة”

 أفاد بروتولد بريخت (B.Brecht)من الرواية في نظريته عن المسرح في عدة ثيمات منها:  حضور الراوي، تصدير الحكاية، استثمار الوقائع التاريخية، حينما أزاح قواعد الشعرية الأرسطية وفي مقدمتها رفضه لمفهوم (التطهير)، وحديثه  عن مفهوم (التغريب)،حيث يمكننا ـ وفقا لبريخت ـ أن نعتمد الزمن الماضي في عرض الأحداث، لنُمكِّن الجمهور من اتخاذ مسافة مما يعرض أمامهم، ومنعهم من الاندماج؛ مما يوحي بعدم حتمية المعروض أمامهم، ولعل هذا ما فعله وليد علاء الدين الذي اتخذ من أحلام “الطفل” وسيلة للعودة إلى الماضي/ التاريخ؛ مما مكنه من طرح أسئلة الحاضر عن الواحدية والتعدد والأصولية والحداثة والمدنية والمواطنة وغيرها من أسئلة فلسفية تعبر عن رؤية للعالم قادرة على طرح أسئلة الحاضر والمستقبل عبر مساءلة الماضي واستنطاقه.

يفتتح النص بمشهد لطفل وطفلة تصادف وجودهما في محل لعب للأطفال،حيث استهل الراوي الحدث بوصف لساحات كبيرة وشوارع وبيوت، لكن الحقيقة ليست كذلك، فما نراه هو في الواقع مجرد محل للعب الأطفال مقسم على هيئة شوارع وساحات انتظار، وأرفف مقسمة بدورها على هيئة مبانٍ سكنية بنوافذ وشرفات. حينما يجد الولد والبنت نفسيهما وحيدين في هذا المحل/ المسرح  غير العادي يتفقا على لعب “الغميضة” التي يختفي فيها أحدهما والآخر يبحث عنه وفقا لقانون اللعبة ولا يفتح الباحث عينيه ويبدأ البحث عن المختفي إلا بعد أن يقول المختفي”خلاويص” كإشارة  صوتية لانطلاق عملية البحث. وبعد أن يملا من اللعب يقترح عليها الولد أن يحكي لها عن أحلامه، وفجأة ينزاح ستار المسرح عن عالم الحلم، ليدخلا فيه ويبدأ السرد. ونسمع مع صوت الراوي عن أحداث من التاريخ الرسمي والشعبي ليسقط من خلالها الكاتب رؤاه على الواقع، ومن هنا ينكسر الجدار الرابع ويصير المشاهد/ القارئ جزءا من سير الأحداث وتقاطعاتها الفكرية والفلسفية؛ فيحقق وليد علاء الدين رؤية بريخت لكسر الحواجز بين الدراما والسرد، وينتصر لفنون الحكي ويعطيها الأولوية في روايته الممسرحة التي تروي  الحدث وتسرد تطوراته أكثر مما تجسده وتحاكيه، لينتقل بالمتفرج من مستوى الانفعال بالحدث، إلى مستوى المتفرج المتأمل والناقد، الذي يترجم مواقف وسلوكيات. يستهل الكاتب فصوله التي تشبه فصول المسرحيات باستهلال وصفي يكشف عن رؤيته للعالم، ثم تبدأ الحوارات المطولة بين الشخصيات فيما يشبه الحوارات المسرحية.

ثيمة القناع المسرحي

يمثل القناع في المسرح ثيمة رئيسية حيث يعطي فرصة التماهي بينه وبين الشخصية التي يمثلها، ومن هنا اتخذه وليد علاء الدين تكأة فنية ليعرض لنا شخوصه التي تحمل رؤاه وأسئلته، فمنذ البدء يرتدي الطفل صاحب لعبة “الغميضة” من وجه المهرج قناعا يختفي وراءه، لكن الطفلة تخشى القناع وتصرخ، فيحاول تهدأتها ويخلع القناع، ويحدثها عن أنواع كثيرة من الأقنعة التي نتخذها وسيلة لإخفاء مشاعرنا وهواجسنا وهلعنا وغضبنا من العالم، فلما يشتد انفعالها رفضا للقناع يأخذها إلى حلمه الذي يتحول إلى نفق زمني حيث يقابلا فيه أقنعة ووجوها كثيرة ويهدما من خلال رؤيتهما الواعية الأبنية الاجتماعية الهشة والمتداعية والمتخفية وراء الأقنعة، ولعل أبرز قناع هو قناع “المزدوج” الذي يمثل التلاعب والنفاق.

يمثل الراوي أهم تيمة أكد عليها بريخت في مسرحه الذي لا يقف عند المستوى الحكائي، حيث يرى، بريخت، أنه”يقوم مقام المونولوج، فهو يعبر بالكلام عن صراعات الشخصيات الداخلية في لحظات اتخاذ القرارات”:كان على الشيخ وائل أن يستمر في لعب الدور، لقد ركب الخشبة وسخن الجمهور ولم ير سوى بقعة الضوء عليه، والأعين خارجها سوداء مظلمة، لكن التصفيق والتصفير والأنفاس والضحكات تحمله كأنها خيوط خفية تحركه”.
وتَمَثُّل ثيمات المسرح في الرواية لم يتوقف عند الراوي فحسب، بل تعدى ذلك إلى شخوص الرواية فالطفلة التي فزعت من “الغميضة” تقترح على الطفل الشريك في رحلة الحلم أن يلعبا لعبة تكسر بها ثيمة الأقنعة التي أفزعتها، لعبة”وشي في وشك” لنكتشف أوراق اللعبة التي تكسر ثيمة التقمص في المسرح الأرسطي:”في الساحة الكبيرة التي هي في الأصل ـ كما اتفقناـ محل ألعاب …قال الولد: “تيجي نلعب استغماية؟”، فطلبت البنت منه إغماض عينيه. أغمضهما بحماس… فتح الطفل عينيه فوجد عزة مبتسمة بوجه لا تغطيه الألوان، احتضنها: “برافو عليك، كنت فاكرك هتسمعي كلامهم وتستخبي
.أنا متشكر قوي إنك علمتيني لعبة”وشي في وشك” …ستار”.

وهكذا يصير المسرح نصا فاعلا في الرواية بداية من التصدير، ثم الإهداء لتوفيق الحكيم صاحب مسرح العبث والمسرواية وانتهاء بالثيمات المسرحية.

لكن ربما يرى قارئ ما أن التمويه الذي مارسه الكاتب في المدخل، حينما “جنّس” الرواية باعتبارها مسرحية إنما هو هروب من صفاء النوع الأدبي ، أو التجنيس الصريح للعمل، في حقيقة الأمر هذا وعي جمالي يثري التجربة التي تتداخل فيها الروافد الجمالية منتجة دلالة كلية تضع المتلقي موضع المساءلة لا موضع التلقي الأدنى والكاتب موضع الإرسال الفوقي.

فالغميضة ليس مجرد:” لعبة يمارسها جماعة من الأطفال، قائمة على أن تُغمض عينا طفل ويتنادون عليه من كل جهة، ويحاول أن يقبض على أحدهم، وعندما يمسك به يحل محله، وهكذا دواليك” بل تصبح نصا متبصرا يبحث فيه اللاعبون عن مستويات أخرى من التأمل والتوقف أمام الماضي والحاضر واستشراف المستقبل.

النصوص الغائبة/الحاضرة

تحتفي “الغميضة” بالنصوص التراثية وتتمثلها كنصوص فاعلة تجادل النص الماثل وتقيم معه جدلا فكريا، فيحضر التاريخ المصري بشخوصه وحكاياته، كما يحضر نص ألف ليلة وليلة، ليس على مستوى الحكاية،إنما على مستوى البنية الحكائية، فتحضر الثيمات السردية لنص الليالي كما تحضر لغته التراثية، لتجادل القارئ وتنقله ليس في دهاليز حلم الصغير، بل في دهاليز التاريخ المصري، فتحضر حتحور وإيزيس وحورس، وتحضر الثقافة العربية بطبقاتها المختلفة، إنها محاولة جمالية للاشتغال على طبقات الهوية الثقافية التي يتداخل فيها ما هو مصري قديم وما هو عربي وما هو عالمي تجمعهم المشتركات الإنسانية مستفيدا من تقنية القناع المسرحي :” ورغم رؤوس الحيوانات والطيور التي تُطل من كل مكان، تدرك سريعًا كعادة الحكايات أن الأمر على خلاف ما يبدو؛ فالأصل أنهم بشر يرتدون أقنعة. أقنعة كثيرة على أجساد بشرية كثيرة تتجول في كل الأرجاء في أزياء أبطال كل أساطير الكون وحكاياته، في ملابس الفراعين والرومان واليونانيين، والمماليك، والعثمانيين والأحباش والعرب والأفارقة والبدو”.

كما تحضر ثيمة الراوي الشعبي المتأصل في وعي الجماعة الشعبية. إنه نص يحتفي بالتراث بشتى تجلياته.

ورغم أنه نص يسترفد التراث ويحاوره، فهو يسقط على الواقع ويناقش قضايا محايثة ويكشف خطرها  على الهوية الثقافية، يقول على لسان الراوي الذي يكسر حاجز التخييل التام لدى القارئ:” قبل أن يحتدم الموقف سوف نستخدم صلاحياتنا التي تخلينا عنها لفترة طويلة، ونجعل السيد “س” يتحرك من كرسيه أمام المقهى، بعد أن جعلنا صوته ينطلق في الفضاء بلا وسيط. تحرك “س” بزيه
المقتبس من الحلم الفرعوني الشفيف على جدران المقهى، وقف في منتصف الطريق نحو الشيخ وائل وجماعته، مصحوبا بموسيقى إشعار الفيس بوك. لم يكن في نية السيد “س” أن يحتد على وائل، هو مؤمن بأن التنوير رسالة يجب ألا تنزلق إلى مهاوي الغضب”.

إنها رواية  تحتفي بالمعرفي والجمالي وتراهن على الكثير من مساحات التجريب.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *