هل كان امرؤ القيس زير نساء ؟

(ثقافات)

هل كان امرؤ القيس زير نساء ؟

إبراهيم أبو عواد 

 

     إنَّ الإنسانَ يعودُ إلى ذكريات الحب الماضي باحثًا فيها عن بارقة أمل أو طوقِ نجاة . إنها العودةُ إلى ينابيع العشق الأُولى، والرجوعُ إلى النواة التاريخية الأصلية. وهذه العودةُ إلى الأصل إنما هي بسبب المعاناة في الحياة اليومية ، فالإنسانُ حين يُعاني من حاضره، لا بد أن يَهرب إلى الماضي، لعله يجد فيه الخلاصَ، والدفءَ العاطفي، وراحةَ الأعصاب .

     وفي حالة الشاعر امرئ القَيْس حدث العكسُ تمامًا. فهو يَعود إلى الماضي محترقًا نادبًا حَظَّه، وذكرياتُه المتمركزة في عالَم عشيقاته السابقات تزيده لوعةً وحُزنًا وأَلَمًا . ولم يجد في قصص حُبِّه الماضية سوى حطب جديد لنيران قلبه المحترق .

     يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

 

كَدأْبكَ مِن أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلها               وجارَتِها  أُمِّ  الرَّبابِ   بِمَأسَــلِ

 

     يخاطبُ نَفْسَه بكل حسرةٍ وألم، مقتنعًا أن غرامياته سلسلةٌ مُتَّصلة من الخسائر والخَيْبات والهزائم. يقول لنَفْسه: عَادَتُكَ في حُب هذه كعادتكَ من تلك. وبعبارة أخرى، قِلَّةُ حظِّكَ من وِصال هذه ومعاناةُ عِشقها، كقلة حظِّكَ من وِصالهما ومعاناتكَ عِشقهما. “قَبْلها” أي قَبْل هذه التي شُغفت بها الآن . “مأسَل” اسم جبل .

     إن هزيمة الشاعر في معركة العشق الحاضرة قد ذَكَّرَتْه بهزائمه الغرامية الماضية. وبالتالي، فإن الفشلَ في العِشق ليس جديدًا على الشاعر. وهذه المرأةُ _ التي يُعاني الوجدَ بها ويتعذب بسببها _ قد أعادت له ذكرياتِ العِشقِ المُرَّةَ التي مَضَت . وهذه العشيقةُ الحاليةُ قد ذَكَّرَتْه بأُم الحُوَيْرث وأُم الرَّباب، وهما عشيقتان سابقتان، عانا الشاعرُ معهما أشد المعاناة . إذن ، فالشاعرُ يَملك تاريخًا من الهزائم الغرامية ، الحالية والماضية، لذلك نجده غير متفاجئ بخَيْبته وقِلَّةِ حظِّه مع المعشوقة. فهذه المشاعرُ سبقَ وأن جَرَّبها في الماضي. إنها مغامرةٌ غرامية خاسرة تُضاف إلى خسائره الغرامية القديمة. وهكذا قد تحوَّلت قصصُ العِشق إلى عذابات مُتَّصلة مُخزَّنة في ذاكرة الشاعر المخدوشة، وأرشيفِ التاريخ المكسور، وسِجِل الأيام الحزينة. ويبدو أن الشاعرَ قد اعتاد على إخفاقاته مع العشيقات ، فَلَم يعد يَشعر بالصدمة ، ولَم يَسقط ضحيةً لعنصر المفاجأة القاتل .

     ويستعرض امرؤ القَيْس رُجولته وفُحولته أمام عشيقته، ويقدِّم دليلًا تاريخيًّا على قُوَّته العاطفية، ومدى تأثيره في النساء. وهو يَفتخر بسيطرته على عالَم النساء، بسبب ما يمتلكه من قوة روحية ومادية، وما لَدَيْه من مواهب تَجذب الجنسَ الآخر إليه. ويُقَدِّم نَفْسَه كعاشق محترِف له سَطوة على النساء، ولا يَقْدِرْنَ على الإفلات منه بأي شكل . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

 

فَمِثْلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ               فَأَلْهَيْتُها  عن  ذِي  تمائمَ مُحْــوِلِ

     يفتخرُ الشاعرُ بِذِكْر مغامراته العاطفية، ولا يَخجل من كشف أوراقه، وإظهار تفاصيل علاقاته الحميمة مع النساء. يقولُ: رُبَّ امرأة حُبلى قد أتيتُها لَيْلًا ، ورُبَّ امرأة ذات رضيع أتيتُها لَيْلًا . إنَّه يأتي إلى النساء لَيْلًا، تحت جُنح الظلام . فالليلُ حِجابُ ساتر يُخفي أسرارَ الناس وتحركاتهم وخُططهم. وقضيةُ العِشق حساسة للغاية، لأنها ذات أبعاد غرائزية واجتماعية، وتحتاج إلى غطاء كثيف. ولا يوجد أفضل من الليل الذي يُغطِّي أفعالَ الناس، ويَحميها من الانكشاف والظهور للعَلَن. لذلك، فالليل هو مملكةُ العشاق، والمجالُ الحيوي لحركتهم وخُططهم ، والوعاءُ الحاضن لسلوكهم الغرامي والاجتماعي. لا سِيِّما وأن القصص الغرامية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخُطَطِ الجهنمية ، والمؤامراتِ المحبوكة بعناية ، والخياناتِ المستترة البعيدة عن الأنظار .

     وفي هذا السياق الشِّعري ، تبرز الخيانةُ الزوجية بكل وضوح . فالشاعرُ العاشقُ يتحدث عن امرأة حُبلى وامرأة مُرضِع، وبعبارة أخرى، يَدورُ الحديثُ عن نساء متزوجات، وهذا يعني خيانتهن لأزواجهن، والوقوع في حبائل الشاعر،أي: تفضيل العشيقِ على الزَّوْج، وكسرُ رِباط الزوجية المُقدَّس من أجل نَزوة عابرة مع عابر سبيل، والغرقُ في مستنقع الخيانة، ونسيانُ التزاماتِ الحياة الزوجية وطهارتها.

     ويواصلُ الشاعرُ سَردَ تفاصيل مغامرته العاطفية. فهو لم يكتفِ بإتيان المرأة الحُبلى أو المرضِع لَيْلًا، بل أيضاً شَغَلَها عن ولدها الذي عَلَّقت عليه العُوذة (التميمة)، وقد أتى عليه حَوْل كامل (عَام كامل)، أو قد حَبِلت أُمُّه بغيره ، فهي تُرضِعه على حَبلها. وهو يُريدُ أن يقول إنَّه زِير نساء، يُفْسِدهنَّ، ويُلهيهنَّ عن الحَملِ والرضاعة .

     وذِكرُ الحُبلى والمُرضِع في هذا السياق الشِّعري ليس عفويًّا ، أو مِن قبيل المُصَادَفة. بل هو ذِكْرٌ يَحْمِل دلالاتٍ رمزية عميقة ، فالحُبلى والمُرضِع هُما أبعد النساء عن الغَزَل ، وأزهدهنَّ في الرجال ، وأقلهنَّ شَغَفًا بهم وحِرْصًا عليهم . وهذا ليس غريبًا ، فالحُبلى مشغولة بصحتها وحَبَلِها ، وكيفية الحفاظ عليه، وتعاني من الآلام والمشقة، ولا يعنيها العِشقُ أو الغزلُ أو الجِمَاعُ ، وكذلك المُرضِع فهي مشغولةٌ بِنَفْسها ورضيعها، وتُفَكِّر فيه ليلًا نهارًا ، وتهتم بقضاء حاجاته ، وتقضي وقتَها في رعايته . والمعنى الذي يَقصده الشاعرُ: خدعتُ مِثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما ، فكيف تتخلَّصين مِنِّي أيتها الحبيبة ؟ .

     هاتان المَرْأتان (الحُبلى والمُرضِع) مَشغولتان بشؤونهما ، وزاهدتان في الرِّجال . ولكنَّ امْرَأَ القَيْس نجحَ في دغدغة عواطفهما ، وحرقِ أعصابهما، وإعادةِ الشهوة والشبق إليهما، فصارتا كُتْلَتَيْن من نار العشق. وهذا يدل على قوة امرئ القَيْس العاطفية ، وقدراته الخارقة على الحُب والغَزل وإشعال نار الشهوة في النساء . وهذا النجاحُ الباهر لا يَفعله إلا زِيرُ نساء ، خبيرٌ بداء المرأة ودوائها ، ويَعرف مِن أين تُؤكَل الكتف .

     وقَوْلُه “فَمِثْلِكِ” يَحمل تشبيهًا لعلاقته الغرامية مع عُنَيزة ابنة عمِّه . أي : امرأة مِثل عُنَيزة في مَيل الشاعر إليها وعِشقه لها ، لأن عُنَيزة في هذا الوقت كانت عذراء ، غير حُبلى ولا مُرضِع .

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *