اختلاف بسيط ..(قصة قصيرة)

(ثقافات)

اختلاف بسيط (قصة قصيرة)

*عدي مدانات

لا يخفى على أحد من قراء الصحف المتتبعين مقالاتها، ملاحظة أن سعيد أبو سعيد، سائق سيارة الأجرة، تعس الحظ والحالم على الدوام، غير سعيد أبو سعيد الكاتب المرموق، حتى وإن تطابقا في الاسم، فكاتب المقالة اليومية، لا بدّ أن يكون معروفاً على نطاق واسع، وأفضل حالاً على جميع الأصعدة، أما الآخر فلا يزيد معارفه على حفنة من المغمورين، ولا يحصل من عمله على أكثر مما يسد رمق أسرته في أحسن الأحوال. يستطيع أي كان ملاحظة الفرق من النظرة الأولى لهيئته، بشعره الأشعث وعينيه الكابيتين، وبنطاله الجينز. غير أن الرجل الهرم المنعزل ضمن مساحة لا تزيد على أربعة أمتار، والمعتمة حتى في وضح النهار، محاطاً بالقليل من السلع الغذائية الرخيصة وربما الفاسدة، وبعض اللوازم المدرسية البسيطة وعلب التبغ، إلى جانب قذارة الأوعية والرفوف الخشبية والقاطع، سها عن هذه الحقيقة.

وسعيد أبو سعيد هذا واسمه عائلته التنكنجي، وهي كنية جد جده، جامع التنك الفارغ، من النفايات وأرصفة الشوارع، وبحكم عمله الذي يفرض عليه التجوال في المناطق السكنية بحثاً، عن الركّاب، افتقد علبة تبغه وأراد شراء أخرى، فأوقف سيارته لشراء واحدة من الدكان التي لا يكشف بابها الضيق عن أنها مكان بيع سلع من أي نوع، ولولا الصحف المعلّقة خارجها على حامل معدني، لما لفتت انتباهه. وقف بباب الدكان ورأى البائع الهرم يمسك بصحيفة ويقرأ، فنهض ما إن رآه، ووضع الصحيفة على القاطع، وسأله عن حاجته. ألقى عليه تحية الصباح وطلب علبة تبغ، وفيما كان البائع يدير له ظهره ليتناول طلبه، وقع نظره على الصفحة الأخيرة من الصحيفة المتروكة على القاطع، وقرأ في الزاوية العليا منها اسم كاتب المقالة “سعيد أبو سعيد”، فأخذه العجب كل مأخذ، لتطابق اسمه مع اسم الكاتب، فهو مثله في هذا الشأن، لا يضيف اسم عائلته في تعامله مع الآخرين، وهو ما يصنع الفرق، ولم يكن يعرف أن اسمه يتطابق إلى حد كبير مع اسم كاتب مرموق، لأنه لا يقرأ الصحف، وإلاّ لأضاف اسم العائلة إلى اسمه منعاً للّبس. قال للبائع مفاخراً:

– اسمي أنا الآخر سعيد أبو سعيد.

ثم تناول علبة التبغ ودفع ثمنها، وهمّ بترك المكان، إلاّ أن البائع ذا النظارة الطبية استوقفه وقال:

– قرأت مقالتك، وفي الحقيقة أنا لم أضحك كالعادة.

استغرب سعيد أبو سعيد كلامه، ورأى أنه أخطأ فهم ما قال فصوّبه:

– تقصد المقالة في الصحيفة.. أنا لم أقرأها كذلك، أنا لا أقرأ الصحف.

لم يأخذ البائع كلامه على محمل الجد، ولم يلحظ أن الذي يخاطبه غير كاتب المقالة، وأنه مجرد سائق سيارة أجرة، بدلالة سيارته التي أوقفها أمام الدكان، فقدم له مقعداً بلاستيكياً، لا يقل قذارة عن المتجر ومحتوياته واستمر في الحديث:

– يشرفني أن ألتقي بك في دكاني المتواضعة. أنا لا أستغرب أن لا تقرأ مقالتك، فصانع الشيء الماهر لا يعيد النظر في ما صنع، أنا أيضاً لا أنظر لما أفعل، غير أن إعادة النظر أسلم. أقول لك كيف. كنت في الوظيفة أكتب ملاحظاتي للمدير وهو يعتمدها، وهذا كان يحدث مرات عدة في اليوم الواحد على مدى سنين، وحدث ذات مرة أن كتبت ملاحظة تخص معاملة أخرى دون انتباه، والمدير وقّع هو الآخر دون انتباه، غير أن المحاسب انتبه وأطلع المدير على الخطأ فاستدعاني وأنّبني، ربما لو أنك تقرأ مقالتك الآن لوجدتها لا تُضحك.

 نظر سعيد أبو سعيد إلى المقعد الخالي، وأدرك أنه وُضع له ليجلس عليه، فقد أحضر البائع مقعداً آخر لنفسه وجلس. جلس هو الآخر، ولكنه كان مغتم البال، لأنه لا يريد أن يقرأ، ولأن الجلوس يعطله عن العمل. تناول البائع الصحيفة وقدمها له، فاعتذر منه وقال:

– اعذرني، لأنني لا أميل للضحك، أميل للأحلام أكثر، فهي تبعدني عما يزعجني ولدي منه الكثير.

هزّ البائع رأسه وقال:

– للأسف لدينا كلنا ما يزعجنا ولكل منا أسبابه، فأنا أنزعج من جلوسي في هذا الركن الضيق الكابي ولا التقي بمن أحب أن أحدثهم، لأن متجري لا يغري أحداً بدخوله، أما لو كان لدي مال، لملأته بكل ما يحتاجه الناس، خصوصاً الأطفال منهم، فهؤلاء يحبون أن ينفقوا ما يحصلون عليه في الشراء، وبذلك أسترد قيمة ما اشتريه لمتجري وأربح، ولكنني لا أملك المال، والأطفال لا يقتربون من متجري، وأنا أحب الأطفال، أحب أحفادي على وجه الخصوص، غير أن أبنائي ابتعدوا في سكنهم وحرموني هذه المتعة، وهكذا بقيت وحدي مع أم الأولاد، هي تنشغل عني في النهار بأعمال المنزل وبالعناية بابنتي المعاقة، وأنا أجلس هنا. وماذا أفعل حين أجلس برأيك؟ أنا لا أحلم، فعهد الأحلام فات. لا يبقى لي سوى قراءة الصحف، أنا لا أفقه في الحقيقة معظم ما أقرأ، لا أجد في ما يكتب ما ينفعني، أنا رجل عجوز، متقاعد وراتبي محدود وثابت، ونفقاتي مرتفعة بسبب إعاقة ابنتي، أما الأسعار، فهي على ارتفاع، والسبب برأيي جشع التجار ولا أحد يحاسبهم، ولكن أين الحكومة؟ لماذا لا تتدخل وتضع حداً لجشعهم؟ أفكر بحل وأقول: لو أن الناس يكفّون عن الشراء لعاقبوا الجشعين، ثم أقول لنفسي، كيف يمتنع الناس عن الأكل والكساء؟، هذا الأمر غير ممكن، ثم أفكر وأقول: لو أن الناس يخرجون إلى الشوارع كما يحدث في بلاد أخرى، ويطالبون بخفض الأسعار لتنبهت الحكومة، ثم أفكر أن الحكومة ستفرّقهم بالقوة، وربما تعتدي بالضرب على عدد منهم. هذا يحدث، أليس كذلك؟ ولو كنت أحد هؤلاء لما تحملت ضربة واحدة، فأنا عجوز، ثم أفكر وأقول، إن الكتّاب يخافون مما أخاف منه، ولذلك يتجنبون الحديث في ما قد يزعج الحكومة. لا تأخذ كلامي على أنه موجه إليك، فأنا لا أقصدك بالذات، فأنت على الأقل تكتب لتضحكني وهذا أمر جيد، فأنا أحب ما يضحكني.

 كان سعيد أبو سعيد يستمع باهتمام، وكان ولديه ما يقوله في هذا الصدد، وقد تأكد ذلك من غضون جبينه واتساع عينيه وحركة يديه، غير أنه في طريقه للعمل وقد تأخر عن مباشرته هذا الصباح، فعدل عن الكلام ونهض، ثم وقال وهو حاني الرأس:

 – كلامك شيّق، ولكنني للأسف الشديد مضطر للعمل، ينبغي أن أقوم للعمل، فقد تأخرت هذا الصباح، وزوجتي السبب في هذا التأخير، فقد أيقظتني من النوم وهي تئن من شدة الألم، فأخذتها إلى المستوصف القريب من البيت وحصلت لها على دواء، ثم أعدتها إلى البيت وخسرت ساعتّي عمل، وصاحب السيارة لا يرحم، يريد حصته من غلة السيارة.

هَمّ بالانصراف، غير أن البائع الهرم المتوحد، أخذ كلامه على أنه مجرد طرفة، فأمسك بيده ودفعه للجلوس وقال:

– لو أنك وضعت وزير المال هذا الموضع وجعلته جابياً، في مقابل رئيس الحكومة الذي يطالب بغلة الحكومة كاملة من أرزاق الناس، أفلا يدفع الوضع القارئ للضحك؟

لم يفهم سعيد أبو سعيد شيئاً مما قال، فنهض من جديد وقال:

– ما شأني أنا بهذا كله، أنا مجرد سائق واسمي سعيد أبو سعيد التنكنجي، ولست كاتب المقالة، ولا أحب القراءة والكتابة، فهي للمنعمين وأنا مهزوم وتعب.

اضطر البائع للوقوف، هو الآخر، ثم قال:

– أدرك أنك تكتب عن المهزومين، وهذا هو السر في نجاحك، فماذا لو جعلت الوزير يعيش حالة مهزوم ليوم واحد، كأن لا يملك المال الكافي للأطباء، فيخرج ليستدين ويعاني جراء ذلك.

اشتد ضيق سعيد أبو سعيد وقال:

– أنا أخذتها لمستوصف حكومي، وكان الواقفون أكثر من الجالسين، فلم أوفق برؤية طبيب، مما اضطرني للاستعانة بممرض، جاري في السكن. أحضر لي دواءً، فأخذته وأعدتها إلى البيت وأنا لا أعرف إن أفادها الدواء، أم إنها ما تزال تتألم، فهل يحدث هذا مع الوزير في أسوأ حال؟

فكر البائع وقال:

– أنت محق.

ثم صمت من جديد، وألحق سعيد أبو سعيد برجاء قبل أن ينصرف:

– لي رجاء، أن تضمّن مقالتك الجديدة حوارنا هذا، وقد تخدمني لو أشرت لدكاني، فمن يدري.. قد تجلب الانتباه لي.

 

*من مجموعة لعبة الفجر (٢٠١٢)

(الصورة للطفلة فرح حفيدة الأديب عدي مدانات)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *