*سليمان الخليلي
لم يحظ شاعر ما حظي به المتنبي، فقد كتب عنه المحبون له والكارهون، أبو الطيب المتنبي كما يكنى واسمه (أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي)، فالمتنبي كما هو معروف شاعر معتد بنفسه لدرجة الغرور، ومزهو بشخصيته حتى وصل طموحه إلى تولي الإمارة التي لم يحظ بها، ربما كغيري من المعجبين بشدة لهذا الشاعر العملاق، نؤمن بأنه عاش قصة حب ألهمت أجمل أشعاره، وعاشت تلك الحبيبة خفيه بين أبياته وقصائده، بالرغم أن سيرته لم تذكر قط بشكل مباشر قصة حب للمتنبي أو الحبيبة التي عشقها قلبه بجنون، فحياته التي استمرت اثنين وخمسين عاما حيث توفي في سنة 354 هـ، خلد لنا أشعاراً لن ينساها التاريخ التي تحولت مضرباً للأمثال والحكم.
للإجابة على السؤال الأهم هنا، هل كان المتنبي عاشقا؟، من خلال الكتب الخاصة بسيرة حياته وشرح دواوين أشعاره التي لم تؤرخ بشكل مباشر عن قصص حب له، إلا أن هناك (شكا تاريخيا) في قصة حب محتملة عاشها المتنبي مع خولة أخت سيف الدولة الحمداني، والذي لازمه قرابة عشرة أعوام في بلاط الدولة الحمدانية بإمارة حلب، وكان لأشعار المتنبي في مدح سيف الدولة السبب الأقوى لتخليد ذكراها كأمير عربي ذاع صيته في محاربة الروم، ولذلك سمي بشاعر السيفيات لقصائده الكثيرة في مدح سيف الدولة الحمداني حيث تمتاز أشعاره بأسلوب الفخر والحماسة، (الشك التاريخي) في علاقة حب المتنبي بخولة لا يؤكده الكثيرون من الباحثين، وبخاصة لم تذكر في سيرة أبي الطيب المتنبي بشكل مباشر حول علاقته بخولة، إلى جانب قلة المعلومات حول شخصية خولة وشح المعلومات عنها إلا ما ندر، فكل ما يعُرف عنها بأنها أخت سيف الدولة، ولكن هناك من يؤكد قصة الحب بينهما فمثلا الباحث والكاتب المصري الراحل الأستاذ (محمود محمد شاكر)، وإنكار مسألة حب المتنبي لخولة بأنه لم يعلنها صراحة ولم يأتِ على ذكر اسمها في أحد أشعاره وهذا ما يدل عليه المشككون في قصة الحب المزعومة.
المتنبي كأي شاعر أنشد أشعار الحب للمرأة، وتغزل بها وهذا أمر عام لكل الرجال في عشقه بالمرأة بشكل عام والشعراء بشكل خاص، وثمة قصائد عشق في صباه كمثل الأبيات التالية:
كَتَمْتُ حُبّكِ حتى منكِ تكرمَةً
ثمّ اسْتَوَى فيهِ إسراري وإعْلاني
كأنّهُ زادَ حتى فَاضَ عَن جَسَدي
فصارَ سُقْمي بهِ في جِسْمِ كِتماني
وهنا، يفسره الواحدي (بأنه كتم الحب إكراما للمحبوب لأنه رجل شهم)، ونلاحظ من أشعاره حيث يعتز بالرجولة والشهامة كونها من شيم العرب، وقد نتساءل هل الشيم والرجولة والاعتزاز بالشرف العربي عند المتنبي سبباً تجعله لا يظهر حبه لخولة إلى جانب حبه لسيف الدولة.
كما أشار المتنبي في صباه إلى أنه كان يعير بعذل من يهيم عشقاً حتى ذاق مرارته، وأحس بوجعه وآلامه، حتى يصل به الأمر إلى الاستغراب من يموت ولم يعش العشق والحب في حياته، لننظر إلى البيتين التاليين حيث يقول:
وعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ
فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني
عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
نجد أن عاطفة الحب والعشق القوية لدى المتنبي ظهرت بشكل قوي خلال وجوده في الدولة الحمدانية، فأبيات العشق والحب في قصائده لم تكن حاضرة بكثرة قبل التحاقه ببلاط سيف الدولة، ومعروف بأن أغلب قصائده مدح ورثاء وهجاء بعض الأحيان لمن يعادونه، لكن برزت أبيات حب ذات عاطفة جياشة أثناء وجوده في حلب إمارة سيف الدولة الحمدانية وتواصلت تلك العاطفة بألم الفراق والشوق بعد مغادرته بلاط سيف الدولة، ويظهر في مقدمات قصائده وجود حب متوقد في قلب المتنبي، وتظهر جلياً لذة الحب وشوق العشق التي تكشف عن حالات حب ولو كانت بصورة سريعة ومختصرة، ويظهر العشق لدى المتنبي في الأبيات التالية التي تبين لوعة الحب تضرب مداها في قلبه الولهان:
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي
وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه
وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ
الأبيات السابقة تشير إلى أن المتنبي لا يسمح لقلبه بالعشق ولكن حينا وقع به عاش مهالكه، هذه القصيدة قالها في مدح سيف الدولة الحمداني حينما طلب رسول ملك الروم الفداء لابي الهيجاء، فبالرغم أن القصيدة في مدح أمير حلب لكن كانت البداية غزلا واضحا ورسالة إلى الحبيبة، فعيون الحبيبة دوما هي بداية سحر العاشق لمعشوقته، وذكر الواحدي في شرحه لديوان المتنبي بانه لا يحب الغزل ولا يميل إلى العشق ولكن جفون حبيبته فتانة لناظرها ويعشقها من يبصرها، كما يؤكده أيضا شرح البرقوقي الذي يذكر أنه يعزف عن النساء ولا يميل إلى الغزل والعشق ولكن جفون عيني حبيبته فتانة لمن يراها، ويضطر من لم يعشق إلى العشق.
هل كان المتنبي عاشقا لخولة؟
(خولة)،، تلك الفتاة التي رثاها المتنبي بقصيدةٍ مشهورةٍ تدُمع القلب لها، لم يذكرها التاريخ كفاية لنعرف أكثر عن شخصيتها، المعلومات حولها قليلة جداً، فقط نعلم بأنها اخت سيف الدولة الكبيرة مع اختها الصغرى التي توفت قبلها ورثاها المتنبي بقصيدة، بجانب إنها كانت محبة للشعر والأدب ولها مجلس صالون أدبي يجتمع فيها الشعراء والأدباء، ولا غرابة في ذلك، حيث عرفت الاسرة الحمدانية إلى جانب الإمارة والحكم كانت عائلة بها شعراء نوابغ كأبي فراس الحمداني وأبو العشائر وغيرهم.
البحث عن جواب السؤال صعب للباحثين والدارسين ومحللي دواوين المتنبي، حيث لا يوجد أي إعلان مباشر وواضح بوجود حالة حب للمتنبي لخولة، لذلك لا بد من يؤيد بوجود هذا الحب استخدام حدسه لإثباته، والذين يؤيدون فكرة حب المتنبي لخولة سيجد في رؤية الأستاذ( محمود محمد شاكر) ما يطفئ حدسه، حيث آمن بشدة بوجود هذا الحب، فنجد في كتابه (المتنبي.. الطريق إلى ثقافتنا) فصل خاص حول حب المتنبي لخولة، مؤكداً ومستشهداً بأن حدس الحب كما ذكر في مقدمة الكتاب في التمهيد لهذا الفصل بأن كان لديه ذلك الشك التاريخي بوجود علاقة الحب، وشاءت المصادفة أن يلتقي بالكاتب اللبناني الفريق الطبيب(أمين باشا فهد المعلوف) الذي كان لديه نفس الإيمان في فترات سابقة وكان يطمح إلى كتابة مقال، وبالتالي أعطى نقاط البحث التي ارتكز عليه حدسه إلى (محمود محمد شاكر) لتكن نقطة الانطلاق للبحث عن هذا الحب. ويؤكد الأستاذ محمود في كتابه من خلال المرثية التي أنشدها المتنبي في موت خولة يعزي بها سيف الدولة الحمداني.
الأستاذ( محمود محمد شاكر) فتح الباب لنقاش الشك التاريخي في حب المتنبي لخولة، وبالطبع واجه مؤيدين لفكرته ومعارضين، حيث استشهد بالمرثية التي قالها المتنبي في وفاة خولة التي توفت في عام (352 هـ) مستندا إلى القصيدة وما تحمله من مشاعر فياضة، وهذه المرثية كانت الدليل الذي اسُتند إليه بحب المتنبي لخولة لما لها من فاجعة عاشق بمصيبة أصابته، والتي شملت 44 بيتا شعريا، بخلاف المرثية التي رثى فيها الأخت الصغرى لسيف الدولة، وكان موتها قبل ثمانية أعوام من موت خولة، وفي مقارنة بين مرثيات اختي سيف الدولة نجد الدليل، فهنا مسألة تثبت الفرق بين المرثيتن، الأخت الصغرى والاخت الكبرى(خولة) أولا نجد بأن المتنبي في أبيات رثاء الأخت الصغرى يرثيها ويقول لسيف الدولة مفاضلة بأهمية بقاء الأخت الكبرى، ربما هنا إشارة يرسلها قلب المتنبي بأنه حمدالله بأن الموت لم يصبها وأصاب أختها الصغرى، وكذلك إدخال خولة في هذه الأبيات وتفضيلها على أختها، لم تأتِ من فراغ وإنما من قوة الحب والغرام والعشق. فكان حب مشترك بينهما كما قال محمد شاكر ، حيث أوضحت المرثية صفات ومكارم يتضح منها بأنهم في لقاء وتواصل، ومن الممكن اعتبار رثاء المتنبي لخولة تصريح وإعلانه بحبه لها، القصيدة التي كانت مطلعها
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبٍ كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَسَب
أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسمى مُؤَبَّنَةً وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَب
———
غَدَرتَ يا مَوتُ كَمْ أَفنَيتَ مِن عَدَدِ بِمَن أَصَبتَ وَكَمْ أَسكَتَّ مِن لَجَبِ
———-
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلًا شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
———
فَعلَةَ) لَم تَملَأ مَواكِبُها دِيارَ بَكرٍ وَلَم تَخلَع وَلَم تَهِبِ)
———–
أَرى العِراقَ طَويلَ اللَيلِ مُذ نُعِيَتْ فَكَيفَ لَيلُ فَتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنُّ أَنَّ فُؤادي غَيرَ مُلتَهِبٍ وَأَنَّ دَمعَ جُفوني غَيرُ مُنسَكِب
——–
وَمَن تَفَكَّرَ في الدُنيا وَمُهجتِه أَقامَهُ الفِكرُ بَينَ العَجزِ وَالتَعَبِ
أظهرت القصيدة مشاعر قوية اتجاه خولة تدل على حب صادق اشتعل في قلب المتنبي، فكيف يصف الليل في العراق بالطويل وفؤاده الملتهب، فثمة شوق في قلبه لم ينطفِ نتيجة ترك حبية القلب في حلب ورحل عنها إلى مصر، بالإضافة إلى أوصاف خولة التي ذكرها المتنبي في قصيدته، حيث لم يذكر أوصاف أشخاص رثاهم بأوصاف دقيقة كأخلاقها وعلو النفس والهمة منذ نشأتها وروعة ابتسامتها، وهذه كافية للدلالة على معرفته بـ(خولة)معرفة صحيحة تبرهن لقاءات، وللمتنبي قصائد رثى فيها عدد من النساء منهم أم سيف الدولة وأخته الصغرى وأم عضد الدولة ولم تظهر تلك العاطفة كما ظهرت في رثاء خولة، وهنا دليل قوي بأن المتنبي كان يكن عشقا كبيرا لخولة.
كيف كان اللقاء؟
لم يحدد الاستاذ(محمود محمد شاكر) اللقاء الأول بين المتنبي وخولة، ولكن هل ثمة نظرية ممكن طرحها حول أول لقاء بينهما كان، ربما رأى المتنبي خولة أول مرة حينما التقى بسيف الدولة في (أنطاكية) التي كانت تحت إمرته، وكان ابن عمه ابو العشائر (الحسن بن علي بن حسن بن حمدان ) والياً عليها، هل بالإمكان طرح نظرية وجود خولة في انطاكية تلك الفترة، وبخاصة كان معروفا لدى الأمراء أنهم يحملون معهم بعضا من أهلهم وحريمهم في ترحالهم، هل لمح المتنبي خولة لأول مرة وعشقها هناك من أول مرة، القصيدة الأولى التي ألقاها المتنبي لسيف الدولة في انطاكية، في عام (337 هـ) نكتشف بين هذه الأبيات ثمة حب كتم إكراما له:
وَفاؤكُما كالرَّبْع أشْجاهُ طاسمه
بأنْ تُسعِدا والدّمْعُ أشفاهُ ساجِمُهْ
وما أنَا إلاّ عاشِقٌ كلُّ عَاشِقٍ
أعَقُّ خَليلَيْهِ الصّفِيّينِ لائِمُهْ
وقَدْ يَتَزَيّا بالهَوَى غَيرُ أهْلِهِ
ويَستَصحِبُ الإنسانُ مَن لا يُلائمُهْ
قِفي تَغرَمِ الأولى من اللّحظِ مُهجتي
بثانِيَةٍ والمُتْلِفُ الشّيْءَ غارِمُهْ
وما حاجةُ الأظعانِ حَوْلَكِ في الدّجى
إلى قَمَرٍ ما واجدٌ لكِ عادِمُهْ
إذا ظَفِرَتْ منكِ العُيونُ بنَظرَةٍ
أثابَ بها مُعيي المَطيّ ورازِمُهْ
في البيت (قِفي تَغرَمِ الأولى من اللّحظِ مُهجتي بثانِيَةٍ والمُتْلِفُ الشّيْءَ غارِمُهْ) يشدو إلى نظرة ثانية بلهف شديد، كم ان البيت التالي( وما حاجةُ الأظعانِ حَوْلَكِ في الدّجى إلى قَمَرٍ ما واجدٌ لكِ عادِمُهْ ) حيث يشبهها بالقمر والإظغان بالنساء، فما حاجة النساء للقمر وانت القمر نفسه، ربما هنا يصف خوله ومن معها بالنساء حولها، فبكل تأكيد لن يصف إمراة إلا وأنها أغرم بها، كما أشار الواحدي في شرح في البيت (إذا ظَفِرَتْ منكِ العُيونُ بنَظرَةٍ أثابَ بها مُعيي المَطيّ ورازِمُهْ) قائلا ((كأن المتنبي يستجدي بنظرة ثانية فقد أشار بأن نظرتها تتحدى حتى الابل في معياها)).
واستنادا إلى الفرضية السابقة بوجود(خولة) في أنطاكية، ورأها لأول مرة وانولد الحب في قلبه، في قصيدة (أيَدري الرَبعُ) التي أنشدها المتنبي في حلب (338 هـ)بعد عام من لقائه بسيف الدولة في انطاكية، نجد في هذه القصيدة أبياتا ربما يستحضرها المتنبي لشعور خالجه حينما غادر سيف الدولة أنطاكية إلى حلب وانشده حينها قصيدة (رُويدكَ أيهّا المَلكُ الجَليلُ) وحينها أيضا غادرت خولة معه، فتلك العاطفة التي مرت على قلب المتنبي يستحضرها الآن في هذه القصيدة، وخصوصا هذه الأبيات تحمل في طياتها شوق الحبيب، ويشير الواحدي في مطلع القصيدة ((يقول هذا الربع هل يدري ما فعل من إراقة دمي وحمل قلبي على الشوق وهذا استفهام إنكار واستعظام لما فعله الربع من قتله بشوقه إلى أحبته، وذلك أن الربع هيج له شوقاً وجدد له ذكر الأحبة)).
أيَدري الرَبعُ أَيَّ دَمٍ أَراقا
وَأَيَّ قُلوبِ هَذا الرَكبِ شاقا
لَنا وَلِأَهلِهِ أَبَداً قُلوبٌ
تَلاقى في جُسومٍ ما تَلاقى
وَما عَفَتِ الرِياحُ لَهُ مَحَلّاً
عَفاهُ مَن حَدا بِهِمِ وَساقا
فَلَيتَ هَوى الأَحِبَّةِ كانَ عَدلاً
فَحَمَّلَ كُلَّ قَلبٍ ما أَطاقا
نَظَرتُ إِلَيهِمُ وَالعَينُ شَكرى
فَصارَت كُلُّها لِلدَمعِ ماقا
وَقَد أَخَذَ التَمامُ البَدرُ فيهِم
وَأَعطاني مِنَ السَقَمِ المُحاقا
في البيت ( لَنا وَلِأَهلِهِ أَبَداً قُلوبٌ تَلاقى في جُسومٍ ما تَلاقى) ربما هنا، أراد أن يصف المتنبي بأن هناك قلوبا نشترك في حبها، ويقصد نفسه وسيف الدولة في حب خولة، حب الأخ لأخته وحب الحبيب لمحبوبته، وهما يلتقيان معا في حب هذا الشخص، وفي البيت (نَظَرتُ إِلَيهِمُ وَالعَينُ شَكرى فَصارَت كُلُّها لِلدَمعِ ماقا) حيث يصف لحظة مغادرة الحبيبة، حيث قال الواحدي)) أي نظرت إلى الأحبة عند ارتحالهم والعين ممتلئة بالماء))، كأن المتنبي يصف مشهد مغادرتهم أنطاكية، فينظر إلى الحبيب ورحيله عنه، ومسألة المسير نجدها في هذا البيت ( وَما عَفَتِ الرِياحُ لَهُ مَحَلّاً عَفاهُ مَن حَدا بِهِمِ وَساقا).
وخلال نفس العام أي عام (337هـ) من وصول المتنبي لحلب مدح سيف الدولة باستنقاذه أبي وائل تغلب بن داود بن حمدان من أسره بقصيدة كان مطلعها:
إلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ وَلا رَأى في الحُبِّ لِلعاقِلِ
يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم وَتَأبى الطِباعُ عَلى الناقِلِ
وَإِنّي لَأَعشَقُ مِن عِشقِكُم نُحولي وَكُلَّ اِمرِئٍ ناحِلِ
وَلَو زُلتُمُ ثُمَّ لَم أَبكِكُم بَكَيتُ عَلى حُبِّيَ الزائِلِ
أَيُنكِرُ خَدّي دُموعي وَقَد جَرَت مِنهُ في مَسلَكٍ سابِلِ
أَأَوَّلُ دَمعٍ جَرى فَوقَهُ وَأَوَّلُ حُزنٍ عَلى راحِلِ
وَهَبتُ السُلُوَّ لِمَن لامَني وَبِتُّ مِنَ الشَوقِ في شاغِلِ
في هذه القصيدة ثمة رسالة شوق إلى عشقه قلبه، تظهر الأبيات المشاعر التي يعيشها الشاعر في الحب وربما هنا يوضح بأن يريد نسيان تلك الفتاة التي عشقها في أنطاكية حينما علم بأنها أخت سيف الدولة ولكن قلبه طبع على حبها، فزاده الأمر ألماً فهو يعلم بأنها صعبة المنال، ومطلع القصيدة ينتقد المتنبي العاذل الذي يرجع عن الحب، كما يقول الواحدي في شرحه (بأن الحب يقع اضطراراً لا اختياراً والعاقل لا يقع في الحب برأيه واختياره).
هل ثمة رسائل حب خفية بينهما؟
لم تكن خولة تلك العشيقة الظاهرة في أبيات المتنبي، لكنها تمثل تلك الحبيبة السرية والخفية بين أبيات الغزل والحب في قصائده، فحتما ثمة رسائل يرسلها لها خفية بين أبياته مطلع كل قصيدة مدح لسيف الدولة، وتعلمها هي فقط، فهي تعتبر من عائلة تهتم بالأدب والشعر، فحتما سمعت أشعار المتنبي، كما أنها متذوقة للشعر حتما فتدرك مغازي تلك الرسائل، ولعلها تجسدت شخصية خولة في شخصية سيف الدولة التي أبدع فيه المتنبي في أجمل قصائد المدح حوله، وحتما توجد رسائل لا يدركها غير خولة، فهل أسر الهوى المتنبي وجعله رهين العشق والحب، فمقامه ليس بمقام بقية الشعراء من يبكي الحب بدموع، المتنبي أكبر من ذلك فاعتداده بنفسه لا ترضى أن يبكي في عشقه فيظهر كالضعيف أمامها، وشخص كالمتنبي بشخصيته المعتدة والمزهوة بنفسها، حتما لن يعشق إلا فتاة ذات مقام عالٍ جداً ترضي طموحه، في مطلع القصيدة التالية:
إِذا كانَ مَدحٌ فَالنَسيبُ المُقَدَّمُ
أَكُلُّ فَصيحٍ قالَ شِعرًا مُتَيَّمُ
لَحُبُّ ابنِ عَبدِ اللهِ أَولى فَإِنَّهُ
بهِ يُبدَأُ الذِكرُ الجَميلُ وَيُختَمُ
أَطَعتُ الغَواني قَبلَ مَطمَحِ ناظِري
إِلى مَنظَرٍ يَصغُرنَ عَنهُ وَيَعظُمُ
تَعَرَّضَ سَيفُ الدَولَةِ الدَهرَ كُلَّهُ
يُطَبِّقُ في أَوصالِهِ وَيُصَمِّمُ
البيت الثاني ذكر (لَحُبُّ ابنِ عَبدِ اللهِ) في المقابل البيت الرابع ذكر اسم سيف الدولة، وأكلمه في البيت الثاني بانه كان يرغب بالنساء وبعد لقاءه بسيف الدولة صغر مقامهن أمامه، ولا أعتقد بأن رجلاً اعتاد قلبه الهيام بالنساء بأن يغير مقامهن لأجل رجل مهما كان مقامه، فالمقصور هنا بكل تأكيد (خولة).
أما قصيدة (عواذل ذات الخال) التي قالها المتنبي لسيف الدولة حينما قصد خرشنة لكن أعاقه الثلج للذهاب إليها، في الابيات الأولى تظهر تلك العاطفة للحبيبة حيث قال:
عَوَاذِلُ ذاتِ الخَالِ فيّ حَوَاسِدُ
وَإنّ ضَجيعَ (الخَوْدِ) منّي لمَاجِدُ
يَرُدّ يَداً عَنْ ثَوْبِهَا وَهْوَ قَادِرٌ وَيَعصي
الهَوَى في طَيفِها وَهوَ راقِدُ
متى يَشتفي من لاعجِ الشّوْقِ في الحشا
مُحِبٌّ لها في قُرْبِه مُتَبَاعِدُ
إذا كنتَ تخشَى العارَ في كلّ خَلْوَةٍ
فَلِمْ تَتَصَبّاكَ الحِسانُ الخَرائِدُ
ألَحّ عَليّ السّقْمُ حتى ألِفْتُهُ
وَمَلّ طَبيبي جانِبي وَالعَوائِدُ
مَرَرْتُ على دارِ الحَبيبِ فحَمْحمتْ جَوادي
وهل تُشجي الجيادَ المعاهدُ
البيت الأول جميع شروح ديوان المتنبي اتفقت بأنه يقصد فتاة جميلة ذات خال والمقصودة شامة في خدها، وكلمة (الخود) تعني الفتاة الخنساء في المقابل يرمز اسم (خولة) في معناه إلى الفتاة الحسناء أيضا،كما يصف نفسه من البيت الثاني حتى الثالث بالنزاهة مع الحبيبة بكونه قادرا على ملامستها إلا أنه يمتنع عن ذلك لأنه رجل شهم ، وحتما في هذا الوصف إذن يصف فتاة ذات مقام وليس مجرد جارية كما فسرها البعض من المفسرين لديوان المتنبي، بل إنه يتجنب حدوث العار في فترة الخلوة وبذلك يقصد اللقاء بينهما فهو رجل شهم كما وصف نفسه بالماجد، وفي البيتين التاليين ثمة سلوك عاشق ولهان حيث يتحدث عن السقم الذي اعتاده حتى مل طبيبه منه، ومروره بدار الحبيب حيث يؤكد بان جواده أصبحت تعرف موقع الحبيب، فالشوق يجذبه إلى مكان الحبيب وهذا سلوك عاشق بلا منازع، والمعاهد تطلق على ديار الأحبة فبدون شك من يتعود على المرور بدار الحبيب يملك عاطفة قوية جداً (مَرَرْتُ على دارِ الحَبيبِ فحَمْحمتْ جَوادي وهل تُشجي الجيادَ المعاهدُ).
هل عرفت الاسرة الحمدانية بعلاقة الحب؟
من المحتمل، قصة الحب ذاع صيتها داخل الاسرة الحمدانية وحدها دون ظهورها للعامة، وواجهت معارض وانتقادات وعلم بعض رجال الأسرة ومن بينهم سيف الدولة الذي وعد المتنبي بالزواج منها دون معلومة مؤكدة وفقا بما أشار إليه الاستاذ محمود محمد شاكر، كما أن أحد الأسباب التي خلقت العداوة بين المتنبي وابو فراس الحمداني هو علاقته بخولة، والتي كانت ابنة عم ابو فراس فرأى بأن المتنبي لا يزن مقامها إلى جانب حقده بتفصيل سيف الدولة للمتنبي عنه، وحادثة تدبير قتل المتنبي التي نفذها غلمان أبو العشائر لها دلالات كثير، حتما الحب بين المتنبي وخولة لا يرضي رجال الاسرة الحمدانية، وبالرغم أن المتنبي مكانته كبيرة لدى سيف الدولة وأبو العشائر ويعرفون تماما ما يتم حياكة المكائد له، إلا أنه لم تشفع له هذه المحبة الكبيرة لمصاهرة هذه الأسرة، ولذلك هذا السبب الحقيقي كما أشار إليه محمود محمد شاكر وليس تفسير طه حسين حيث ذكر بأن أبو العشائر أرسل غلمانه لقتله بسبب ابتعاده عنه وهجره عن مدحه، هذا احتمال بعيد كل البعد عما يقول الأديب الكبير، فعلاقة المتنبي قوية مع أبو العشائر كونه هو سبب دخوله بلاط سيف الدولة وعلاقته الحسنه به حيث مدحه في أكثر من موضع، بل أنشد المتنبي قصيدة لما علم بأنه المدبر يعذر فيه هذا التصرف ولم يعاتبه أو يهجوه، وهذا خلاف لعادة المتنبي حيث يهجو كل من يترصد به، فبدون شك الحب أشجى القلب بالعفو، ومسألة عدم مدح المتنبي لأبو العشائر هذه مسألة أخرى، حيث إن سيف الدولة بنفسه طلب من المتنبي عدم مدح أحد غيره، وهذه النقطة يدركها تماما أبو العشائر، بجانب انه ليس من الذين يستمعون إلى الحساد وأصحاب المكائد فهو يعلم ما صاحب المتنبي في مسيرة حياته من مكائد وتُهم.
ويتضح جلياً وجود توتر علاقات بين المتنبي وبلاط سيف الدولة وبالأخص رجال الأسرة الحمدانية، فبعدما أنشد المتنبي قصيدة (واحر قلباه) وغادر مجلس سيف الدولة تبعه غلمان أبو العشائر لقتله، ولعل هذا كان فعلا مرتبا بين أبو العشائر وأبو فراس الحمداني وبعض رجالات الاسرة الحمدانية غير الراضين لعلاقة الحب بين المتنبي وخولة، وربما لم يكن سيف الدولة على علم بهذه المؤامرة، لكنه في نفس الوقت لم يلم رجال عائلته على فعلهم ولم ينصف المتنبي في ذلك، وربما هذه أحد الأسباب التي جعلت المتنبي يترك بلاطه ويتجه إلى مصر.
قصيدة (واحر قلباه) والتي تسمي (الميمية) ويقال بأنها آخر ما انشده المتنبي أمام سيف الدولة، بعض أبياتها:
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبًّا قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِه
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
—————-
يا أَعدَلَ الناسِ إِلا في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةٍ
أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ
——————-
يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أَن نُفارِقَهُمْ
وِجدانُنا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ
هل نسى المتنبي خولة بعد رحيله؟
واضحاُ بأن حب المتنبي لخولة ظل متقدا حتي وفاته، فالمرثية التي رثى فيها خولة دليل قوي على حبه لها ، حتى بعد مغادرته لحلب، فحالة الشوق غلبت عليه، فثمة ابيات واضحة لحالة العشق واشتياقه إلى خولة وسيف الدولة، وقد ذكر محمود محمد شاكر عدد من مواضع الابيات الشعرية التي قالها في مصر يحن قلبه إلى خولة، فمثلا في قصيدة (لا مجد في الدنيا لمن قال ماله) والتي قالها في مدح كافور الاخشيدي بمصر والتي كان مطلعها:
أَوَدُّ مِنَ الأَيّامِ ما لا تَوَدُّهُ
وَأَشكو إِلَيها بَينَنا وَهيَ جُندُهُ
يُباعِدنَ حِبًّا يَجتَمِعنَ وَوَصلُهُ
فَكَيفَ بِحِبٍّ يَجتَمِعنَ وَصَدُّهُ
أَبى خُلُقُ الدُنيا حَبيبًا تُديمُهُ
فَما طَلَبي مِنها حَبيبًا تَرُدُّهُ
وَأَسرَعُ مَفعولٍ فَعَلتَ تَغَيُّرًا
تَكَلُّفُ شَيءٍ في طِباعِكَ ضِدُّهُ
رَعى اللهُ عيسًا فارَقَتنا وَفَوقَها
مَهًا كُلُّها يُولى بِجَفنَيهِ خَدُّهُ
بِوادٍ بِهِ ما بِالقُلوبِ كَأَنَّهُ
وَقَد رَحَلوا جِيدٌ تَناثَرَ عِقدُهُ
المتنبي يشكو للأيام في فراق الاحبة والبعد عنهم، فحسب شرح العكبري بأن (( نصف (بينا) مفعولا به لا ظرفا، والضيمر في (جنده) للبين، وذلك تأتي كلمة (جنده) كونها تمثل تعود للأيام للفراق))، الملفت بأن(جنده) على وزن فعله بنفس وزن اسم (خولة)، يعود فراقه لحلب بسبب عشقه لخولة، ولذلك فهذه الابيات تؤكد بأن المتنبي تجتاحه شوق كبير للأحبه الذين فارقهم.
إجابة للسؤال الإساسي ((هل كان المتنبي عاشقا؟؟))، حتما المتنبي كان عاشقا لخولة وليس مجرد شك تاريخي، وقد واجه هذا الحب الكثير من التحديات والصعاب، ولعل شخصية أبو الطيب المتنبي بعلو النفس واعتزازه بالنخوة والشرف العربي جعلته لا يذكرها علانية في أشعاره، أكراماً لها واحتراماً لأخيها سيف الدولة حتى في رثائها لم يذكر اسمها صريحا بالرغم هذه القصيدة خصت في رثائها واستبدل اسمها بكلمة (فعلة) على نفس وزن (خولة)، وربما أيضا حاربت الاسرة الحمدانية هذا الحب لعدم ظهوره للعلن كونها ترفضه قطعياً، فما طرحه ((الاستاذ الكاتب محمود محمد شاكر في كتابه ( المتنبي.. الطريق إلى ثقافتنا) الكثير من النقاط التي تؤكد بوجود هذا الحب الذي ظل مخفيا في أبيات المتنبي.
________
*جريدة عًمان