قراءة في رواية ” سيمياء الحب ” لسامية الحاجي

(ثقافات)

قراءة في رواية ” سيمياء الحب ” لسامية الحاجي

* محمد مالك حموده

 

. الشعر خيمياء الكلمات : ” ارثر رامبو”

هل كان حادث الطائرة ، قدرا لا بدّ منه في مصير ” حمامة سيراج” ، حتى تكتشف كينونتها الشعرية ، في أعمق قاع من بحيرتها الروحية الساكنة . في واقع الأمر لم يكن سقوط الطائرة إلا انحرافا بلاغيا مذهلا للعودة إلى الشعر و البدائية و التصوف معا . و التحول من السطح إلى القاع العميق للكينونة الروحية سوف يلقي ” بحمامة سيراج” إلى الضفة الأخرى من الوعي لتكتشفها . تمنحنا الاقدار هذه الفرصة المشبعة بالدراما احيانا حتى نتذكر القوى الصامتة التي في اعماقنا الغريبة و الموحذشة و الموصولة بأبعد حلم للابدية التي بدأ بها الكون . حتى نستطيع أن نهاجر ابعد من سطحية التفاصيل اليومية و غباوة المؤسسات التي تستنزف مصيرنا و شهوتنا المادية و قيود الارقام و تلوث المصانع الخانقة و ابعد من هذا الانتفاخ العدمي لهشاشة الكائن التي لم تعد تشحتمل ، على حد تعبير ” كونديرا” . يمثل العثور على الشعر طقس عبور من الطمأنينة إلى الجنون و من الثقافة الي الروح ، و من الحضور الجسدي في التاريخ إلى السباحة في فضاء التصوف و السياحة في وحشة الغابة البرية . هذه الرواية التي هي الاندفاعة الثانية المكملة لسرد رواية سابقة للبطلة نفسها ” حمامة سيراج” مبنية على هذا التناغم بين الثقافة و الطبيعة و بين البيت و الغابة و بين العقل و التصوف . و تشكل الرواية مرأة متأرجحة بين عالمين الوعي و الذاكرة . و من خلال هذه الحكاية المتقلبة تقلّب الارجوحة تعثر البطلة الراوية على الفاكهة الحقيقية للروح من خلال صدمة الحادث و تعيد ترتيب نظامها الروحي و مدخرات ذكرياتها الذاتية و الابوية و الوجودية. ” فحمامة سيراج” التي تعيش قصة حب رائعة و زواج ناجح مع “أبي علي ” السوري و هو وجه اخر من حلمها الابوي الشرقي تبدو متيمة بفكرة الحفر في الاصل من أجل العثور عن معنى لوجودها. و رغم ان حلمها بمعانقة ” الشرق ” و ” القضية” و ” الذاكرة ” من خلاله، فإن تفاصيل الحياة اليومية المحيطة بهما ربما لم تكن كافية لشدة سطحيتها لاكتشاف ذلك الانفجار الشعري الباطني في أعماق الكينونة . و هو ما وجداه فيما بعد في ادغال الغابة و في متاهة الروح التي تهب إلى ” حمامة سيراج” مفترقات طرق ، هي وجوه بشرية أخرى تشتعل بالاشراق : ” ابن عربي” ، “الحلاج” ، ” رابعة عدوية ” ، “جلال الدين الرومي ” ، ” شمس تبريز ” ، “عبد القادر جيلاني ” و الصوفي الهندي ” اوشو” معلم التأملات الباطنية و” البسطامي” الذي أضاع وجده عندما عثر على الله . ان وحدتها مع الطبيعة سوف تتوج بالوحدة مع ” أبي علي” كأنها قد حققت وحدة الوجود من خلاله لم يكن ” ابو علي ” قرينها فقط بل كان أيضا ” توأم الروح” و المعلم الباطني و الشيخ الروحي الذي يقود ” حمامة سيراج ” عبر صراطها الشعري ممسكا بشبكة خيوطها الروحية الني تعيدها إلى بدء الكون . لم يكن عالم الطبيعة العذرية ما وراء الحادث” تلك العشوائية الطبيعية التي صنعها الخلاق ” و روائح الجنات و رؤى الملائكة ” ص 84. بل كانت أيضا الحب و السلام الداخلي و إدمان التأمل .فقد ذكرها هذا ( الماوراء السور ) ص 82 بالاسترخاء الروحي في عالم الذبذبات و الانصات إلى لغة النحل و الحق في لاستنشاق و الحنين إلى القيم المتناثرة على الطرقات و الازقة و القلوب المشعة و من خلال الذكر و التبتل تطوف ” حمامة سيراج” محلقة بين أحضان ” ابو علي ” كما يطوف الدراويش الاتراك من اتباع “جلال الدين الرومي” و هم يحاكون سباحة الكواكب و المجرات الدائرية و يُسْتهلكون في النور الأول من خلال الغيبوبة يقول الحلاج : ” انا من أهوى و من أهوى انا نحن روحان سكنا بدنا فإذا رأيتني رأيته و اذا رأيته رأيتنا.” “ان الشعر هو الطيران ” كما يقول “بشلار” و الشعر هو الابن الحقيقي للدهشة كما جاء على لسان ” سان جون بيرس” و من خلال اختراق هذا الممنوع ” هل هذا كفر ” ص 119 كما تسأل ” حمامة سيراج” “الكفر اللذيذ ” كما تسميه” إليف شفاك” في مواثيق العشق الأربعون “تعثر البطلة على السلام و المصالحة بين الروح و الجسد من أجل الفناء في العناية الالاهية ” لقد دأبت على التسبيح للتقرب إلى الله و لكني ها إني هذه الليلة أشعر و كأنة يكتب عوض عني ، ربنا اكون هو ، و هو ربما انا ” ص119.

و بما ان العثور على الله هو الوصول إلى سفينة النجاة فإن ” ابو علي ” يصرخ قائلا : ” الإنسان لا يولد مرة واحدة فقط في حياته ” ص136. يعتقد المتصوفة ان الانسان يولد مرة ثانية عندما يعرف الله. ف”سيمياء الحب” هي ان تتحول الذات الترابية الى” تبر” و هو اصل الذهب . اي ان تشرق شمس الحقيقة الذهبية فوق جبال الروح . تستدعي هذه الرواية نصوصا أدبية خالدة كثيرة ، ” زوربا ” ” لكازان زاكي ” مثلا و” مواثيق العشق الأربعون ” ” لاليف شافاك” ، ” موت صغير” لأحمد حسن علوان” . كما يذكرنا اختفاء “ابو علي ” ثم عودته المفاجأة كعودة المسيح ، بغيابات أخرى كثيرة في الرواية العربية لعلى اهمها اختفاء ” وليد مسعود ” “لجبرا ابراهيم جبرا” و اختفاء ” سعيد ابي النحس المتشائل” لأميل حبيبي ” إضافة إلى اختفاء “مصطفى سعيد ” الشهير في “موسم الهجرة الى الشمال ” و تحمل كلها احائية المجهول التي تحيط بالوجود العربي المعاصر و هو ينتظر إعادة بعث الكينونة من رمادها . تستلهم هذه الرواية أيضا الأدب الصوفي العظيم من خلال هذا المزيج اللغوي في الخطاب السردي الشعري ، يتجلى في التراتيل و الأدعية و الآيات القرآنية اما صهر المفاهيم الاحيائية العميقة لعناصر المعراج و الصلاة و السفينة و الولادة و الصراط و الحساب و العقاب و ادم و حواة فقد منح الرواية كل عمقها الصوفي الشعري المتوحد. التقيت ” بحمامة سراج” ، عفوا ! ” بسامية الحاجي ” في الشتاء الغريب الماضي . كانت هناك غيمة رحيمة أمام الباب و نحن ندخل إلى بيتها الصغير . و بدى لي ذلك المناخ الصوفي الذي يغطي أوراق الرواية ، أضحى يغشي العالم الاستوائي الشفاف للبيت و تحول المنزل إلى عش يكاد يطير فالريح ، و نحن نتحدث عن تجربتها الروحية و نحتسي عصير البرتقال الحلو بكثير من الحذر و الهمس مراعاة لأمها المريضة ” بالكورونا ” في الغرفة المجاورة. في ذلك البيت كدت استمع إلى ما يشبه حفيف أجنحة طيور ” فريد الدين العطار ” . اصغيت إلى تجربة ” سامية الحاجي ” الروحية و عزلتها الغنية مع ما وراء العالم ، قبل أن ينبهني هذا الأمر إلى خصال بعينها في الرواية و هل ان ما قرأته هو فعلا “رواية” او “سيرة ذاتية” او حالة إبداعية أخرى في منتصف الطريق بينهما و تساءلت اذا ما كانت الهوية الاجنسة للخطاب الروائي هو حيلة من حيل التخفي و تأجيل هوية الراوي ، لما تتطلبه السيرة الذاتية احيانا من تعرية للذات و تضحية بالاسرار تفرض على الكاتب الراوي نوعا من اللعب اليقظ مع الهوية و الحقائق و اللغة و عندما يتداخل اسم الكاتبة مع هوية الراوية يختلط الواقعي بالمتخيل على نحو عميق الكثافة و التكتم عبر حلم يقظة شاعري و غنائي . تلحّ هذه الرواية على الحاجة الضرورية للشعر le droit de” poésie ” كما يقول ” محمد بننيس ” الشاعر المغربي من أجل انقاذ الكينونة العارية و الملوثة . ان الشعر هو موهبة الممكن و قوة مجيئ المستقبل لا تمنح هذه الرواية فرصة التلذذ بالادبية فحسب ، و لكنها تغني انتظارات القارئ بالأمل في بلوغ الثروة الروحية الخفية .  .

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *