المفكر والروائى رؤوف مسعد: «أمي» نذرتنى للربّ كي أصبح قسّيساً.. والتحاقي بالشيوعية كان قمّة التمرّد على النذر
حاورته: سهير عبدالحميد
-
مازالت تجربة السجن تلعب دورها فى حياتى.. وتلاحقنى فى كوابيس
-
لم أشعر يوما بالاستقرار فى أى بلد عشت فيه.. نحن أسرة مهاجرة بطبيعتها
-
الجوائز العربية تلفيقية وتجعل «الميديوكر» هو السائد
-
لم أجد أى «بساتين للاشتراكية» لكنى وجدت أسوارا عالية وسجون
-
الدولة القوية التى ترتكز على قيم المواطنة والتسامح قادرة على درء مخاطر الإسلام السياسى
-
تحققت لى معظم أمنياتى منذ وعيت على الدنيا و فقدت الدرب أكثر من مرة
-
اسـتعرت من أهل التصوف عنوان الجزءين الأخيرين من كتاباتى عن نفسـى ومعاركى الأدبيــــــة والسياســــــية
-
عندما خرجت من سجن عبد الناصر ذهبت لأكتب عن السد العالى مع صنع الله إبراهيم وكمال القلش
رحلته الحياتية تتقاطع مع عدة مواطن جغرافية وتاريخية، فقد كان الترحال جزءا منها. أدخلته السياسة الزنازين، وترك السجن ندوبا عميقة فى نفسه. أخذته علاقته بحامد أبو زيد إلى آفاق الإسلام الرحبة، ثم عرجت به صداقته بالسفير الهولندى «نيكولاس بيخمان» إلى عالم التصوف بدروبه الممتدة بجذورها إلى الثقافة الشعبية المصرية القديمة. بدأت حياته من السودان التى بها ولد، فتولدت فيها ومضات الذاكرة الأولى ثم انتقل مع والده إلى مصر وتنقل كثيرا حتى وجد ضالته فى هولندا حيث فيها المتسع لجميع الأجناس والأديان.
ما بين المسرح والرواية والصحافة ولدت إبداعاته. وأسس دار نشر «المهاجرون» فى أمستردام ليطبع أعمال الكتاب العرب. ورغم الحنين إلى السودان ومصر، ومتابعته الجيدة لكل ما يحصل فيهما. إلا أنه قرر الحياة فى هولندا التى استطاعت أن تكون بلد.
«كوزموبليتان» يستوعب كل الأجناس والأديان.. إنها فضاءات الحرية التى لا يستطيع المفكر رءوف مسعد العيش بدونها.
عندما أرسلت له أسئلتى، رد على قائلا: هذه الأسئلة صعبة لأنها تغوص فى الماضى الذى أصبح «سحيقا» فأنا الآن عمرى خمسة وثمانون عاما.
ولأنى وُلدت بالسودان فلابد لى من الرجوع دوما إليه فقلت له حدثنى إذآ عن السودان التى تجسد الومضات الأولى فى ذاكرتك.. عندما أستعيد الذكريات، أحاول أن أتفهم سبب سفر والدىّ للسودان، حيث عمل قسيسا فى مدينة وميناء «بورتسودان» التى ولدت فيها. ثم انتقل إلى كنيسة أخرى فى بلدة «واد مدنى» الواقعة على النيل الأزرق القادم من إثيوبيا.
فى مدنى تعلمت بالمدرسة الابتدائية ثم التحقت بذات «الكلية» التى درس بها أبى «كلية أسيوط الأمريكية»، وهكذا تعرفت لأول مرة على مصر – كصبى بمفردى من خلال المدرسة الداخلية – تعرفت على النيل عبر باخرة السفر من أسوان إلى وادى حلفا كل عام جيئة وذهابا لمدة خمس سنوات فى العطلة الصيفية الطويلة.
مثلما تعرفت على النيل فى السفينة لمدة ليلتين أيضا، حيث كانت المعابد المصرية فى شهور الصيف والفيضان القادم من الحبشة ومن جبال القمر الأوغندية يغطى أجزاء كبيرة منها مثل معبد أبو سمبل فى مكانه القديم وكذا معبد فيلة. كأن الحياة تدور بى وأدور بها لأذهب مرة أخرى بعد الإفراج السياسى عنا من سجون ناصر إلى أسوان و أكتب مع زميلين لى تعرفت عليهما فى السجن كتابا عن «السد العالى» بعنوان «إنسان السد العالى».
كيف ألقت مراحل التكوين الأولى بظلالها عليك؟
قالت لى أمى وأنا أتأهب للسفر إلى أسيوط إنها نذرتنى للرب أن أصبح قسيسا مثل والدى، وشرحت لى كيف أن أولادها الذين ولدتهم قبل إخوتى الباقيين «أخان وأخت» كانوا يموتون وهم صغار. لذا نذرت للرب إن عاش لها أولاد ستكرس الأكبر ومن عاش منهم لخدمة الرب.
لكنها اعترفت لى بخجل أنها لم تستطع الوفاء بنذرها، وأبقت الأخ الأكبر «إدوارد» بجانبها كما أبقت الأخ الأصغر «رمسيس» أيضا إلى جانبها لكنها تخاف من الرب أن يعاقبها فنذرتنى له، وبذلك ألقت على كاهلى وفى «حجرى» حقا للرب حتى يواصل إخوتى الحياة. وبقيت مقتنعا بذلك الحق حتى بلغت من العمر الخامسة أو السادسة عشرة «حصلت على الابتدائية وعمرى 11 سنة» لكنى بالتدريج بدأت أراجع موقفى ولم تكن المراجعة سهلة.. لصبى مؤمن ابن قسيس يريد أن يتملص من حقوق الرب فى جسده وفى روحه.. هذا صراع صامت لم أبح به لأحد وكنت أيضا أيامها أعانى من «التهتهة» وقلت لنفسى لعل الرب يعاقبنى على أفكارى هذه.
لكنى واصلت أفكارى هذه «سرا و فى الكتمان حتى التقى بى «رفيق» سودانى مصرى «وأدخلنى بالتدريج إلى الشيوعية.. كنا قد استقرت بنا الأحوال فى مصر وأنا ما أزال فى الدراسة الثانوية بالقاهرة التى انتقلنا إليها من مدينة «شبراخيت» التى عمل بها والدى قسيسا فى السنوات الأخيرة قبل مرضه الذى لازمه حتى وفاته.
فى مصر عرفت أسرتى الفقر بمعناه الواضح خصوصا بعد مرض والدى وتقاعده عن العمل. واستقر بنا الحال فى شقة صغيرة أرضية بدير الملاك.
ثم انتقلنا إلى شقة أحسن قليلا فى شارع «منقريوس» ومنها ذهبت إلى الجامعة لأدرس الصحافة بجامعة القاهرة عام 1956 لأتخرج فى يونيو عام 1960 وتم إلقاء القبض على فى ديسمبر 1960 أيضا وبقيت فى السجن حتى ابريل 1964، لأذهب بعد العفو الشامل إلى أسوان لأساهم فى الكتابة عن السد العالى مع زميلين هما صنع الله إبراهيم وكمال القلش.
هذه مراحل التكوين. طفولة هادئة وهانئة ثم مراهقة مشتعلة قلقة تبحث عن أمان وعدل للناس ثم الهروب من نذر الرب والابتعاد عن بيت الرب وكنيسته والدخول فى معبد آخر جديد هو الشيوعية.. وأحلاهما مر كما يقال.
خالفت مذهب والديك الدينى والتحقت بتنظيم شيوعى، هل يمكننا القول إن التمرد شكل الجزء الأكبر من مسيرتك؟
أعتقد أن بذرة التمرد بدأت من رفضى الانصياع إلى «ندر» أمى للرب الذى لم تستشرنى فيه.. وكان التحاقى بالشيوعية قمة هذا التمرد، فالشيوعية تمثل كل ما هو نقيض للديانة المسيحية، لكنى سأكتشف أن ما جذبنى للشيوعية شيئان تحتضنهما المسيحية بحذر وخفاء «مبدأ العدل» و«مبدأ الاكتفاء» وكان المسيحيون الأوائل فى العصر الرومانى يعيشون بهذين المبدأين «باعتبار أن يوم الحساب قد اقترب للغاية وهم يستعدون له» وسأجد فى التصوف الإسلامى هذين المبدأين حيث يحاول أهل التصوف تطبيقهما عمليا، بينما تنادى الرهبنة المسيحية بالانكفاء عن العالم والهروب منه خلف أسوار عالية.
الشيوعية التى سجنت بسببها يوما. هل ترى أنها أضحت فى عالم اليوم لا محل لها من الإعراب؟
جاء وقت نفورى من الشيوعية بعد أن سافرت إلى بولندا وتجولت فى «بساتين الاشتراكية» فلم أر بساتين.. أو تطبيقات حقيقية للاشتراكية بل وجدت أسوارا عالية للسجون والإجراءات الأمنية البارانوية لقيادات الإدارات السياسية فى بلدان «المنظومة الاشتراكية» وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى والتى كان لابد من سقوطها جميعا لانتفاء وجود العمود الفقرى لأى نظام حاكم فى الدنيا وهو «الديمقراطية الحقيقية».
العيب الأساسى فى تطبيق النظم الاشتراكية وأنا قد عشت سنوات هناك هو أنها نظم شمولية.. وهذه نظم عفى عليها الزمن وتسقط عاجلا أم آجلا لأنها ضد الطبيعة البشرية.
تجربة السجن فجرت داخلك طاقات الإبداع الأدبى، فما الذى تركته فى نفسك أيضا؟
تجربة السجن واحدة من أقسى التجارب الإنسانية البشرية.. فالبشر اخترعوا السجون من زمن بعيد.. وكان السجن يمثل عقابا للمخالفين للقوانين «الإلهية» فى العصور القديمة ثم قوانين «حمورابى» لكن سجن المخالفين سلميا فى الرأى لبعض الأنظمة.. هذه قصة أخرى.. أؤكد على سلميا هنا مع أن محاكمات الشيوعيين أيام ناصر فى المادة تسعة وثمانين «أ» تقول محاولة قلب نظام الحكم القائم بالقوة.. وبالطبع لم تستطع النيابات تقديم سلاح واحد أبيض كدليل على استخدام القوة!!
هل فجّر السجن طاقات إبداعية عندى؟ لا أعلم بيقين ثابت فأنا كنت أحاول الكتابة «البسيطة» قبل السجن متأثرا بما أقرأه من قصص وأشعار وروايات.
وحتى فى السجن حينما كتبت مسرحية مستوحاة من مقتل لومومبا كانت بسيطة فلم تكن لى دراية بحرفة الكتابة لا المسرحية ولا الروائية ولا القصصية.. لعل وجود أقران يتخذون من الكتابة حرفة حقيقية شجعنى أن أدخل هذا المضمار الصعب والمتعب.. حتى الآن وأتساءل من وقت لآخر: هل كان هذا القرار الذى أعيش معه حتى الآن صائبا؟ وبالطبع ليست عندى أيضا إجابات شافية.
لكن من المؤكد أن السجن لعب دورا فعالا فى حياتى فى أكثر من مجال: فى المجال الجنسى وكتبت عن ذلك فى «بيضة النعامة».. وفى المجال الإنسانى وهذا ما جعلنى اترك مصر وأسافر إلى بولندا لأدرس المسرح ثم قرارى بعدم الرجوع إلى مصر لمدة اثنى عشر عاما.. وحتى الآن يلعب السجن أدواره فى حياتى وخصوصا فى مناماتى من كوابيس تلاحقنى عن أشخاص أو كائنات يريدون السوء بى.
تجربة السجن مثل الزواج هكذا اعتبرها مهمة لكنها ليست ضرورية ولا حتمية لكى يظهر على الملأ كاتب يكتب أدبا أو فكرا.
أنت ابن عدة بلدان ترك كل منها شيئا فى وجدانك، فما الذى تركه كل منها داخلك؟ لماذا كانت هولندا فى نهاية الأمر ملاذك الآمن؟
«الوطن البديل» تجربة إنسانية بشرية غاية فى القدم؛ فلم تتعمر أمريكا وأستراليا وجمهورية جنوب إفريقيا إلا بمهاجرين تركوا أوطانهم الأصلية وراحوا إلى بلاد أخرى يستقرون فيها والأسباب متعددة.
ولم أشعر أيضا يوما بالاستقرار فى أى بلد أقمت فيه حتى لم أشعر بالاستقرار فى هولندا.. نحن أسرة مهاجرة، فقد هاجر أخى الأكبر إلى أمريكا واستقر بها وهاجرت شقيقتى الكبرى إلى أستراليا واستقرت بها مع عائلتها.
واستقررت أنا «مؤقتا» فى هولندا لأكوّن أسرتى الصغيرة بعد إخفاق أكثر من مرة فى تأسيس أسرة لى.
لقاءاتك مع نصر حامد أبو زيد.. حدثنا عنها أهم النقاط التى استوقفتك فى شخصية المفكر الراحل؟
لقائى مع الدكتور نصر حامد أبو زيد مر بعدة مراحل: الأولى حينما حضرت من هولندا مع فريق عمل تليفزيونى لكى نصور ما يحدث له من محاكمة ومن تأييدات فى مصر.
بعد الحكم عليه بالردة، وتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس الأستاذة الجامعية.
المرة الثانية حينما قدمت له جامعة لايدن كرسيا لكى يقوم بالإشراف على طلبة الدكتوراه الذين يقومون ببحوث إسلامية وكنت أحضر محاضراته من وقت لآخر حتى أستفيد من تفسيراته الدينية والفقهية. والمرة الثالثة حينما قررت الاستعانة به فى كتاب لتبسيط الإسلام لابنى كنت أعنى ترجمته إلى الهولندية حينما كان ابنى المراهق الصغير يظن أننى مسلما لأننا أمه وأنا لم نوجه طفلينا إلى الديانة المسيحية بل تركناهما ليختارا ما يقتنعان به من دين، وبالفعل تحمس أبو زيد للكتاب وفكرته وتبسيط الديانة الإسلامية.. ونشرته بعنوان «الإسلام لابنى» فى الطبعة الأولى بالمغرب لصعوبة طبعه فى مصر آنذاك.
ثم طبعة ثانية فى مصر هذه المرة بعنوان محاوراتى مع أبى زيد.
ثم الإسلام المسلح فى الطبعة الثالثة.
وقد نفذت الطبعات جميعها.
تجربة العمل مع أبى زيد أدخلتنى إلى الإسلام من باب التأويل والتفسيرات الصحيحة.
هل تعتقد أن تيار الإسلام السياسى فى مصر انحسر بلا رجعة؟
لست مرعوبا من تطور الإسلام السياسى فى مصر لأن وجود دولة قوية وقادرة على تنفيذ قوانين المواطنة والتسامح الدينى «بدون الالتجاء إلى قانون ازدراء الأديان» يضع الأمور فى نصابها.. لأن دروس التاريخ وهى أقسى الدروس وأهمها فى تاريخ البشرية تؤكد لنا أنه لا يمكن استخدام قوة السلاح لفرض دين معين أو حضارة معينة.. ثم إن المصريين فى مجملهم شعب متسامح عدا أقلية متعصبة من الدينين وهذا موجود فى العالم كله.. لكن فى ظل دولة قوية من المؤكد أن تستقيم الأمور.
وان وجود جماعة «متعصبة» دينيا لا يعنى الوصول إلى طريق مسدود، ففى كل دول أوروبا المسيحية توجد جماعات مسيحية متعصبة دينيا وسياسيا مثل «النازية» وعرقيا مثل «الكو كلوكس كلان» لكن وجود دولة قوية تعلو بنفسها فوق الأديان والأعراق لتصبح دولة للجميع يجعل فهم وجود هذه الجماعات كجزء من التجربة الديمقراطية الغربية المحكومة بالقوانين المدنية.
ترجمت كتاب السفير الهولندى نيكولاس بيخمان وهو كتاب بديع عن الموالد والتصوف، لماذا هذا الكتاب تحديدا؟ كشخص ذى خلفية مسيحية هل تعتبر التصوف جزءا من الشخصية المصرية بمسلميها ومسيحييها بدليل ان الرهبنة اختراع مصرى صميم؟
إن تجربتى فى العمل مع السفير الهولندى الأسبق فى مصر «د. نيكولاس بيخمان»، والاتصال بأهل التصوف من مصريين وسودانيين أدخلتنى إلى عالم التصوف الذى وجدته قريبا إلى قلبى حتى إنى استعرت من أهل التصوف عنوان الجزءين الأخيرين من كتاباتى عن نفسى وذكرياتى ومعاركى الأدبية والسياسية بعنوان «لما البحر ينعس» نشرته عن فقرات من حياتى الشخصية والعامة.
إن تجربة علاقتى بالتصوف والمتصوفين المصريين وكذا الرهبنة المصرية؛ نبهتنى إلى «الديانة الشعبية المصرية» المنبثقة من ديانات الأسلاف الفراعنة فالثقافة المصرية الأصيلة مثلها مثل كل الثقافات العالمية هى طبقات متراكمة من ثقافات منبثقة من ديانات فوق بعضها البعض..
إذا أخذنا مثال «لما البحر ينعس» وهى تجربة يؤمن بها بعض المتصوفة إن «النيل» أى البحر ينعس من وقت لآخر وهو نعاس مثل «الرؤية» التى تصيب بعض المؤمنين من كل الديانات. حينئذ لو كان الرائى من المحظوظين لأدرك نعاس «بحر النيل» وتمنى أمنياته الخاصة فيحققها له «بحر النيل».
وأنا وعيت الدرس وفهمته وقد تحققت لى معظم أمنياتى منذ وعيت على الدنيا وفقدت الدرب أكثر من مرة لأرجع مرة أخرى إلى دروبى «المقدرة» على ومن «كُتبت عليه خطى مشاها».
هل لدينا فى العالم العربى حركة نقد أدبية جادة؟
النقد العربى بخير لكن لا نكاد نشعر به لإغراق السوق بمزيد من التفاهات.أحيلك إلى الدكتورة الناقدة السورية شهلا العجيلى التى لها دراسة دكتوراه جديدة بعنوان «الخصوصية فى الرواية العربية»، وكذا بعض المصريين مثل الدكتور يسرى عبدالله ومحمود الكفراوى وغيرهما.
لكن للأسف لا توجد مدرسة مصرية فى النقد.
ما تقييمك لوضع الرواية العربية.. وموقفها من الجوائز العالمية؟
الجوائز العربية «تلفيقية» وتحاول أن تجعل الميديكور الأدبى هو السائد إلا فيما ندر.