رواية “إحدى عشرة دجاجة”: اللغة البصريّة والتّلقّي

(ثقافات)

اللغة البصريّة والتّلقّي البصري في رواية إحدى عشرة دجاجة لمحمد حسن العمري

* مجدي دعيبس

 

ما لفتني خلال تحضير مادة هذه المقالة أنّ بعض صفات اللغة مشتقة من خلفيّة أو بيئة علمية كأن نقول لغة فيها انزياح -والإزاحة مفهوم رياضي وفيزيائي معروف- أو نقول لغة مسطّحة أو مقعّرة أو عمودية وهي لغة الثرثرة التي لا تفضي إلى شيء مهم، وعكسها اللغة الأفقية التي تعتمد على الأحداث المتتالية وخطف أنفاس المتلقّي. ربّما يكون السبب وراء هذا الاتّكاء أو الاستعانة أنّ اللغة لها كينونة وظيفية مرتبطة بتراكيبها وبنائها، وأنّ اللغة العلميّة بمفرداتها الصّارمة غير المنزاحة أقدر على التعبير عن المفاهيم الدقيقة التي تحتاج حدودًا واضحة.

لم تكن هذه المقدمة سوى للتأكيد على أن اللغة هي العجينة التي تشكّل العمل وتعطيه من سماتها وصفاتها، وفي أحيان أخرى تطغى على العمل نفسه وتأتي في المكان الأول قبل الجنس الأدبي. في رواية إحدى عشرة دجاجة للروائي محمد حسن العمري تستوقفنا العبارة التالية: رواية للصغار يقرأها الكبار، وهو استهلال موفق لا يدركه القارئ إلّا حينما ينتهي من القراءة. ولكن ماذا لو كانت رواية للكبار يقرأها الصغار، خاصة وأنّ مستوى اللغة أعلى من اللغة الميسّرة التي تناسب الصغار؟ ماذا سيتغير في هذه الحالة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحيلنا إلى موضوع مهم أحبّ أن أشير إليه في هذه الوقفة القصيرة.

لو نظرنا في الفقرة التالية وهي من صفحة (7): «سندس صاحبة العرف البنيّ المنسدل على يسار رأسها، ذات الريش الأزرق الجميل الفارع مثل ريش طاووس على جنبيها، فيما تُظهر كثافته الخفيفة بعض جلدها وبعض جذور الريش الساقط». وأيضًا الفقرة التالية من الصفحة عينها: «اعترضت راما وهي الدجاجة السوداء التي يميّز لونها عن لون الشتاء، ريشتان بيضاوان تنغمسان بين الأجنحة على نحو أنيق». وفي صفحة (8) نقرأ الفقرة التالية: «فجأة تبدّت لهم لحن، الدجاجة السمينة ذات العرف الأحمر مثل لون الدم، صاحبة الريش المموّج بين البنّي القاتم والأحمر العنّابي والذيل الأسود المنتصب».

إنّ مثل هذا الوصف يتسارع في البداية ثم يتباطئ، وهذا أمر طبيعي لأنه مرتبط بتقديم الشخصيّات وهي الدجاجات الإحدى عشرة في الرواية. هذا التفصيل الذي يعتمد على اللون وإيحاءاته، يرسم شخصية سندس بعناية بعرفها البنيّ ولون ريشها وهيئته وكثافته وجذوره في البقع الخالية من الريش، ويحيلنا إلى ألعاب «البزل» التي يستمتع الصغار بتركيبها، وأقول هنا شخصية سندس، وشخصية باقي الدجاجات أيضًا، لأن الوصف الخارجي مدخل إلى الوصف الداخلي في كثير من الأحيان. نستطيع أن نتخيّل سمات الشخصية من هيئتها العامة الظاهرة علينا. لو أنّ الشخصيات من البشر وليست من الدجاج لكانت حدود اللغة ومداراتها مختلفة بطبيعة الحال، وهذا ما يجعلها رواية للصغار يقرأها الكبار وليس العكس لأن هناك اشتغال لغوي مقصود لتحريك المياه الراكدة في رأس الصغير.

هذه اللغة البصريّة أضافت للرواية بعدًا مهمًا وهو تدريب الصغار على تحويل اللغة اللفظيّة إلى لوحة فنيّة مرسومة ومعلّقة على الجدار، وأيضًا، توسيع مخيّلة الصغير ليهضم المفردات من حوله، بطريقة صحيحة وخيال منطلق؛ يستوعب الألوان والأصوات والحركات بلغة بصريّة وصوتيّة وحركيّة لدفع خياله وإجباره على تحدّي الحواجز. الاشتباك مع اللغة والتّلقّي البصري للمشهد حالة متقدمة من الخيال اللغوي الذي يحفّز الأطفال للقراءة ويضع أقدامهم على العتبة الأولى من عتبات الشغف؛ يغمض عينيه فيرى سندس باللون الأزرق وراما بريشها الأسود وفجر بعنقها الجميل وسمسم بلونها البرتقالي ولحن الدجاجة السمينة وصبر بذيلها الأصفر وقمحة صغيرة الحجم ورمادية اللون وزرعة البيضاء والهزيلة وأم فروة بريشها القصير المصفرّ وهناك أيضًا قرقة وشمس.

محمد حسن العمري

اللغة البصريّة ليست مجرد ألوان متداخلة أو متمازجة في هيئة ما تحرّك في المتلقّي مشاعر دفينة وتجعله يستجيب ويتفاعل كما في اللوحة، بل هي حالة تعبيريّة مختلفة يشتبك فيها اللون مع موروث شعبي وربما أممي له علاقة بدلالات الألوان النفسيّة والاجتماعية. تمتزج اللغة باللون والدلالة بتناغم مريح فتجري الصور الملوّنة بتدفق سريع حتى تذوب المفردات في المشهد اللوني الذي يشتدّ سطوعه أكثر وأكثر.

أدب الطفل وأدب اليافعين أدب معقّد ويحتاج لخيال يوازي خيالهم، أي أنك لا تستطيع أن تكتب أدبًا جيدًا لليافعين بخيال الكهول أو الشيوخ. يجب أن تتحرك في المساحات التي تهمّهم وتثير اهتمامهم لغة وبناء وأسلوبًا. لكن المشكلة أن الجميع يجرّبون في هذا المجال فيتعرّض الأطفال للصالح والطالح وننسى أنّهم أبناؤنا وليسوا عيّنات عشوائية لأدب فج. السؤال المهم هنا؛ كيف نقف عند الحدود التي يستوعبها اليافع ولا نتجاوزها إلى ما هو معقّد وغير صالح. برأيي أن التّعقيد أو التبسيط ليسا من مفاتيح الحل بل إثارة الاهتمام هو الفيصل في هذا الأمر.

ويبقى أن نقول إنّ الروائي محمد حسن العمري حاصل على بكالوريوس في الصيدلة وصدر له روايتان (وهن العظم مني) عام 2008، ورواية (من زاوية أنثى) عن الآن ناشرون وموزعون عام 2020.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *