ألفة يوسف *
علّمني التّحليل النّفسيّ أن أبحث عن بعض وجوه خطاب اللاّوعي بصفتها معبّرة عن جوهر الذّات، لا يشذّ في ذلك الكتّاب والمثقّفون العرب اليوم. في الخطاب الظّاهر الواعي، تجد جلّ المثقّفين العرب يندرجون في مجال الفكر الحداثيّ، لا من حيث الحداثة في بعدها الزّمنيّ ولكن أساسا من حيث الحداثة في بعدها الفكريّ اندراجا في القيم الإنسانيّة الكبرى واحتفاء بالفرد وحرّيته الجوهريّة.
على أنّ النّاظر المتأمّل يلمس في ضروب الخطاب لدى عدد من المثقّفين العرب بعض رواسب التّصوّرات التّقليديّة يحاول القلم أن يخفيها فتراوغه وتخاتله وتظهر غصبا عنه في تمظهرات مختلفة ومتعدّدة.
ولئن كانت هذه التّمثّلات التقليدية اللاّواعية تظهر في أصناف من الخطاب الثقافي شتّى، فقد اخترنا أن نعرض لبعضها في مجال الرّواية أساسا، لأنّ الرّواية بصفتها قصّا وتخييلا يختفي فيه الكاتب ظاهرا إنّما هي، في مفارقة عميقة، تعدّ أكثر الأجناس الأدبيّة تعبيرا عمّا ينقال ضمنيّا.
وقد وجدنا أنّ صورة المرأة في الرّواية العربيّة معبّرة أشدّ التّعبير عن المخيال الجمعيّ التّقليديّ لأنّه من المعلوم أنّ اكتساب المرأة لقيمة المواطنة وتصوّرها شخصا مساويا للرّجل هو مفهوم حديث. وقد ارتأينا أن نتناول صورة المرأة من منظور التّحليل النّفسي كاتبة ومكتوبة في الرّواية عسانا نتبيّن بعض وجوه ظهور المخيال التّقليديّ في الرّوايات العربيّة. وقد نعود في مقال قادم بإذن الله إلى وجوه الفكر التّقليديّ لدى المثقّفين من سوى المبدعين.
المرأة الرّوائيّة كاتبة
ما زال كثير من الكاتبات العربيّات يطرحن مسألة الكتابة النّسائيّة ويتساءلن عن إمكان وجود فرق بين كتابة الرّجل وكتابة المرأة. وما زالت كثير من النّدوات تقام هنا وهناك لتباحث دور الجندر (gender) في نوع الكتابة. والطّريف أنّ كثيرا من الكاتبات النّسويّات يشاركن فيها ويقررن أنّهنّ أصبحن يكتبن الرّواية أسوة بالرّوائيّين الرّجال الكبار وأنّهنّ أصبحن صنوا لهم. ومن هنا هل يمكن أن نتصوّر أنّ كتابة المرأة العربيّة عموما وكتابتها الرّواية خصوصا اشتهاء لموضوع يمتلكه الرّجل رمزيّا أو ربّما امتلكه الرّجل تاريخيّا؟ ويبدو من منظور التّحليل النّفسيّ أنّ اشتهاءنا أيّ موضوع يمتلكه الآخر ليس اشتهاء محضا للموضوع في ذاته وإنّما هو اشتهاء لاواع لمتعة مفترضة يحقّقها ذلك الموضوع للآخر. ألا نرى الطّفل ـ ذلك الّذي لم تقو رقابته الاجتماعيّة بعد ـ يفتكّ من أخيه أو صديقه لعبة لا لأنّه يشتهيها في ذاتها لكن لأنّه يتصوّر أنّها تُمتع أخاه. وألا نرى العاشق ـ ذاك الّذي يخفت صوت العشق رقابته الاجتماعيّة ـ يفتكّ من آخر شخصا لا لأنّه يريده في ذاته ولكن لأنّه يتصّور أنّه مصدر متعة للآخر.
إنّ ما تشتهيه الرّوائيّة العربيّة ليس الموضوع ذاته أي كتابة الرّواية ذاتها، ولكن المشتهى هو موضع الآخر، موضعٌ من المفروض أنّه يحقّق لها متعة منشودة. تقول الروائية أحلام مستغانمي على لسان إحدى شخصيّاتها في «فوضى الحواس»: «أثناء تفكيري جاء النّادل وسألني ماذا أريد، لا أدري لماذا أجبته على غير عادتي: «قهوة»، ربّما لأنسيه أنوثتي ما دام الرّجال يطلبون عادة قهوة» (فوضى الحواس، ص 66).
هل تطلب المرأة قهوة؟ وهل تكتب المرأة الرّواية لتتمتّع بما تتصوّر أنّه أمتع الرّجل عبر التّاريخ؟ هل تكتب الرّوائيّة العربيّة مشتهية موضع الرّجل؟ هل تصرّح بعض النّساء بأن لا فرق بين كتابة الرّجل وكتابة المرأة
سعيا نحو امتلاك القلم الّذي هو صنو رمزيّ (… ذكوري) (phallus) يخطّ على الورق كلمات تنتسب إلى الكاتب؟ هل تكتب الرّوائيّة العربيّة لتعارض الجاحظ الّذي يرى أنّ «كلام الرّجل أعزّ عليه من أبنائه»، فيكون كلام المرأة أعزّ عليها من أبنائها، وتستطيع المرأة أخيرا أن تنسب إليها قولا هو ابن يحمل اسمها خلافا للابن البيولوجيّ الّذي لا ينتسب إليها تسميةً؟
..والمرأة مكتوبة
أما بشأن المرأة مكتوبةً من قبل المرأة الرّوائيّة: تكتب المرأةُ المرأة بين حقلين دلاليّين إثنين كبيرين هما المرأة الخاضعة المقهورة من جهة والمرأة الثّائرة من جهة ثانية.
فمن صور المرأة الخانعة ما تعبّر عنه إحدى بطلات مستغانمي، أيضا، إذ تقول: «أنا المرأة الجبانة الّتي لم تبادر يوما رجلا بالكلام، كيف لي أن أشاغبه؟» (فوضى الحواسّ، 67). ومن صور المرأة الثّائرة ما تقوله إحدى بطلات غادة السّمّان: «في الأفلام الجماهيريّة لا يتسلّل رجل إلى غرفة أنثى إلاّ ليغتصبها أو ليطارحها الغرام في مشهد تسيل فيه بعض الدّموع وتتمزّق بعض الملابس… وها نحن في فيلم الحياة، والرّجل يتسلّل إلى غرفة المرأة لأنّه خائف، وهو حتما عاجز عن امتلاك أيّه امرأة إلى ما بعد ستّة أشهر من الرّاحة على الأقلّ. والدّموع قد سالت ولكنّها دموعه هو… ما أشدّ ما يظلم الفنّ الرّخيص المرأة… والمأساة أنّ المرأة هي المشجّع الأوّل لهذه المهازل بإقبالها على هذه الأفلام وذرفها الدّمع طوال فترة العرض. متى تكتشف المرأة ذاتها؟ متى يكفّون عن تعهير الحياة وتزييفها؟» (كوابيس بيروت، 212).
«متى تكتشف المرأة ذاتها؟»… وأيّ ذات؟ بين شخصيّة مستغانمي المقهورة ظاهريّا وشخصيّة السّمّان الثّائرة ظاهريّا، بين اثنتين هما في واقع الأمر واحدة منشطرة ممزّقة. بطلة مستغانمي الّتي تثبت واقع القهر وتريد الخروج منه: «كيف لي أن أشاغبه؟»، وبطلة السّمّان الّتي تثبت لغةً رغبةً في الخروج من القهر فإذا باللّغة ذاتها تعيدها إلى التّصوّرات الذّكوريّة التّقليديّة لا أشدّ تجسيما لها من عبارة «امتلاك المرأة»، وهي عبارة ذكوريّة تستعملها السّمّان دون شعور كاشفة بذلك عن كوامن اللاّوعي.
ليست المأساة (وفق عبارة السّمّان) أنّ «المرأة هي المشجّع الأوّل لهذه المهازل»، لكن المأساة في بعدها النّفسيّ العميق هي أنّ بعض الرّوائيّات العربيّات ممزّقات بين تمثّل تقليديّ يحمله المخيال لاوعيا وبين صورة حديثة يسعين إلى تصويرها كتابة. فكأنّ لسان حالهنّ يقول: كيف يمكن الخروج من التّصوّر التّقليديّ، ذاك الّذي استبطنته حدّ الأقاصي، ذاك الّذي يحمله اللاّشعور وشما في الذّات في حين أنّ الوعي والثّقافة يرفضانه؟ ولكن ثورتي على القهر ليست إلاّ تأكيدا لعمق إحساسي به بالضّبط مثلما تكون كلمات الكره أقصى تعبير عن الحبّ، ومثلما يكون الموت أقصى ما تطمح إليه الحياة…
المرأة والرجل الروائي
وبالنسبة إلى المرأة مكتوبة من قبل الرّجل الرّوائي: لا يخرج الرّجل الرّوائيّ في بعض كتاباته عن تجسيم التّصوّرات والرّؤى التّقليديّين. فهو يكتب المرأة بين صورتين إثنتين كلاسيكيّتين، صورة الأمّ وصورة العشيقة، بين صورة أمينة في ثلاثيّة نجيب محفوظ وصورة الغانية في عدد كبير من الرّوايات العربيّة، بين موضوع يحضر حبيبا ويغيب شريكا جنسيّا هو الأمّ أو المرأة الّتي تمثّلها من جهة وموضوع يحضر شريكا جنسيّا ويغيب حبيبا من جهة أخرى…
يقارن بعض المحلّلين النّفسيّين بين العاشق والسّكران مؤكّدين أنّ السّكران لا يشبع من الخمر بل يطلب المزيد دوما في حين أنّ العاشق عادة ما يبتعد عن موضوع شوقه ما أن يتحقّق الوصال. فكأنّ هناك شيئا في طبيعة العلاقة الجنسيّة يمنع تمامها ويمنع انصهارا مطلقا بين العاشق والمعشوق (1).
وربّما لهذا السّبب، يعمد كثير من الرّوائيّين العرب إلى صورة ساحة الوغى رمزا للجنس، ولا أفضل مثالا على ذلك من رواية «موسم الهجرة إلى الشّمال» للطّيب صالح. ولكنّ هذه الصّورة تتواتر في روايات عديدة أخرى منها رواية التّطليق لرشيد بوجدرة أو رواية عبدالرّحمن مجيد الرّبيعي في: «خطوط الطّول وخطوط العرض».
إنّ استعارة الحرب بما تحيل عليه من صورة هازم ومهزوم وغاز ومغزوّ وفاتح ومفتوح تعبّر عن التّمثّل التّقليديّ اللاّواعي للعلاقة الجنسيّة ودور كلّ من الرّجل والمرأة فيها. ولكنّها ليست الصّورة الوحيدة بل إنّك إذ تنظر في جلّ كتابات الرّجال عن المرأة تجدهم يعرضون لصورة نمطيّة قائمة على عدد كبير من الكليشيهات. ولن نتبسّط هنا في الأمثلة ونكتفي بالصّورة التي اعتمدها ياسين رفاعيّة في «الممرّ»: «ذئب جائع ينهش لحمها…» وبالإقرار الّذي يثبته الصّادق الرّزقي في «فتاة البحر» إذ يشير إلى «مواعيد النّساء الكاذبة وجمالهنّ الاصطناعيّ» وبالحكم الّذي يقدّمه نجيب محفوظ في «الكرنك»: «لذلك رفضتُ التّظاهر بحياة الشّرفاء وقرّرت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة».
إنّ الرّوايات الّتي أحلنا عليها لا تمثّل هدفا في ذاتها وإنّما هي مجرّد أمثلة بل نماذج لمفارقة نفسيّة بشريّة لا ننشد نقدها بقدر ما ننشد الإشارة إليها ولفت الانتباه لطرافتها ولطفها. هذه المفارقة تمثّل ما قد يوجد من مسافة (تضيق وتتّسع) بين الإقرار النّظريّ بالانتماء إلى التّمثّلات الحديثة والدّفاع عنها من ناحية وبين احتضان الإبداع الكتابيّ لتصوّرات ورؤى تقليديّة. وهذه المفارقة ليست عيبا ولا ذنبا ولكنّها تكشف عن التّعارض الموجود لدى الإنسان بين ما يحمله لاوعيه نتاجا للحوض الثّقافيّ الّذي نشأ فيه في سنواته الأولى، وهي سنوات تكوّن الشّخصيّة، من جهة، وبين ما يتراكب على هذا الجوهر النّفسيّ من ثقافات ومعارف قد تعبّر عن مخيال حديث مناف بل مقابل أحيانا للمخيال التّقليديّ.
يقول أوسكار وايلد: «خلق الإنسان اللّغة ليخفي بها مشاعره»، وأعتقد، في مقابل ذلك، أنّ اللّغة هي الّتي تصنع نفسيّة الإنسان لتكشف بعد ذلك عن أعماقه. إنّ اللّغة كالأفق تحاصرنا لا يمكن الخروج من قضبانها، لذلك لا تتعجّبوا إذ تجدون لغة أقصى «التّحرّريين» أو «التّقدّميّين» أو «الحداثيّين» تكشف عن جوهرهم الشّرقيّ التّقليديّ الشّائع.
هامش:
1 ـ يقول لاكان: «ليس هناك علاقة جنسيّة»: Il n’y a pas de rapport sexuel، لا بمعنى غياب الفعل الجنسيّ طبعا ولكن بمعنى غياب الانصهار المطلق بين الجنسين.
________
*الاتحاد