اللغة في رواية تواشيح الورد لمنى بشلم



د. رابح طبجون*


( ثقافات ) 

من الكتابة بالجسد إلى الكتابة باليقين 
تتنفس منى بشلم الحروف والكلمات ، وتمر من مدينة قسنطينة كما مرت الجميلات أحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق ونجية عبير تحمل صخرة بروموثيوس نحو الحقيقة التي تدفع ثمنها من أريجها ورحيق شبابها وأحلامها وحياتها.
في لغة متأنقة تقترب إلى حد بعيد من لغة اللوحات الزيتية ،ومنمنات عمر راسم ،تسجل بصمتها في صمت ، وتؤسس لغد يمتزج فيه المخيال باللغة المتأنقة العازفة على أشواق الروح في سنفونية عذبة يملؤها الإيمان ونواياها الطيبة.وحينها تتجاوز المألوف وتعري اللغة المحنطة وتكشف أسرارها، وتحثها على التناغم و التماهي في قالب جديد يستوعب العالم باعتبار الرواية اختصارا للعالم.وبحثا عن التجربة الوجودية التي تهم الناس جميعا.
تحاول تشكيل رؤية جديدة تعبر عن الإنسانية انطلاقا من الذات ،تعكس في رؤيتها الصراع الأزلي بين قيم الخير التي عانقتها وتشربتها وآمنت بها وقيم الشر التي واجهتها واصطدمت بها ولاحقتها دون مبرر لهذا الغدر والعدوان. تتشظى أوجاعها وتنفتح في النهاية على أوجاع الكتابة لتشارك الحلاج وابن عربي والمكزونالزنجاري ألم المخاض.بعيدا عن الثرثرات النسائية، التي تطرح مكبوتاتها وبعض الطابوهاتوالجنس لذاته.
وفي رواية تواشيح الورد أطياف قزحية من الألوان وفيها طاقة عجيبة من التفاؤل تعكس حالة الأنثى في صفاءها وهديرها ،في حلمها ويقظتها ، في وداعتها وجنونها .
وفي لغة الرواية اليقين وهو في اعتقادي مشروع الرواية الأول ،يقين في انتصار الإنسان ، وفي انتصار الذات الخيرة ،في انتصار الربيع وورده.إنه إقبـار لمرحلة العبث الوجودي أو التمرد البوهيمي.
وفي الرواية مشاهد للنساء اللواتي يبحثن عن حب غير انتهازي، ويقبلن فكرة الحب الشرقي (عكس الغربي)الذي تصور فيه المقولات الاجتماعية الرجل كالملاك الحارس، ويقبلن الضعف الذي يعني البحث عن الدفء، الذي لا يعني الخضوع، لكنهن غير مستعدات لذبح الحب على مذبح الشهوة أو الانتهاك أو اللذة التي تختزل المرأة في مشروع غنيمة، بل هنّ نموذج امرأة تبذل نفسها أمام قوة الرجل، لكنها لا تتنازل عن دورها في المجتمع.


– التشخيص الفني لمستويات اللغة 



1- اللغة الواقعية :


تتلاشى لغة الواقعية في رواية تواشيح الورد لتترك الفرصة للتجريب وتوثيق الأحداث وتفتح أفق اللغة على التأويل بلغة المرأة عن الرجل .إن الرواية مشحونة بتوظيف مستويات اللغة الروائية مما يجعلها مدونة خصبة لمثل هذا التمثل الذي تصنف به أدبية الرواية المعاصرة.
هي إذن تنشد تعرية الحقيقة في روايتها بلغة أشبه باللعبة في محاصرة الرمز واستباحة المسكوت عنه باللغة ،وبعبارة واحدة الكتابة عندها لحظة اقتناص لمن يريد تكلم لغة أخرى لغة تمور بالرمز لتسمح بالتأويل. وبينالبوح والصمت تتوزع لغة “تواشيح الورد”أحيانا تصرخ وأخرى تبوح.
أما الواقع في الرواية فإنه يتمظهر من خلال اللغة،فهو واقع ملفوظ متخيل من خلال السرد الروائي،حيث استطاع السارد خلق واقع يعيشه مع قارئه في فضاء الرواية،واقع مختلف عن الواقع المعيش،واقع بلغة روائية،لأن الرواية هنا لا تنقل الواقع بشكل آلي وإنما تعيد تشكيله وتعيد صياغته انطلاقا من زاويته ومن رؤيته إلى العالم ،فالرواية بهذا المعنى ليست نصا بنيويا معزولا عن الواقع ولا واقعا معزولا عن بنية النص، إنها تنتج واقعا مفقودا يشتاق إليه القارئ.وهنا تتقاطع المضمرات الخفية و المشتركات الثقافية بين الروائي والمتلقي.
“قالت أني شفق من غسق العمر،وأني وردة نداها نبض الفؤاد.
وأني… قالت المستقبل من عمرها ، والآتي 
وصدقتُ.. صدقتها ،جادلت النفس وما جادلتها،وحاصرتْ نار الهوى قلبي ونارا أشعلته،آذار كان الشاهد والقنطرة وسيدي راشد…
والخطو.. والدمع.. “ص9.
فواقع اللغة الروائية ليس هو واقع الواقع،إنه واقع من نوع خاص،واقع تتحكم فيه اللغة وتضبط آليته، حيث تصبح اللغة ولادة تخلُق واقعها بنفسها تخلُق واقعا ثالثا،ليس هو الواقع المعيش ولا واقع الرواية وإنما هو واقع يتسم بشعرية الواقع،يمزج بين الزمان و المكان،كما أنه واقع مشخصن،فهي شفق وهي وردة ندية وآذار كان الشاهد، والخطو والدمع.


2- اللغة الشعرية :


الرواية مكونة من مقاطع ومشاهد روائية ،كل مقطع يعتبر رواية في حد ذاته، يختزل العالم ويروي رواية،وما يجمع هذه المقاطع هو المرأة، وعلاقتها بالرجل، ونظرة هذا الأخير إليها وعلاقته بهاانطلاقا من ذاتها.
تحاول الرواية توظيف اللغة الشعرية في المنجز الروائي، و البحث عن اللغة الشعرية يسير بموازاة مع السرد الروائي،ويصبح السارد في هذه الرواية يلعب على الحبلين حبل الإبداع بلغة الشعر وحبل الكتابة الروائية،فهو من جهة يبحث عن شعرية الكلمات، ومن جهة أخرى يبحث عن روائية الرواية،فالروائي يبحث لنفسه عن نمط معين في الكتابة الروائية،أو تجريب ما يمكن تسميته تجاوزا بالكتابة الشعر-روائية،أو كما قال الدكتور حليفي في المقدمة :”هي اللغة الشعرية التي كسرت رتابة النثري”وهي التي تقدم للمتلقي متعة الشعر وجمالية السرد الروائي القائم على الحكي .
إذن نحن هنا أمام كتابة روائية تسير بشكل متواز تجمع بين الشعر و الرواية، لأن طبيعة الموضوع الذي تعالجه الرواية هو موضوع مرتبط بذات الإنسان في علاقته الغيرية ، و السارد يعتمد في سرد أحداثه على ضمير المتكلم لكنه لا يتحدث عن نفسه وإنما يتحدث بلسان البطلة،بحيث يظهر السرد الشفاف الذى يجعل الأحداث تسرد نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الوسيط السردي.باعتبار أن السارد صانع العالم التخييلي في عالم الروية كما يقول كايزرKayser.
ولهذا فإنه من حين لآخر ينسحب السارد ليترك المجال للقارئ ليملأ الفراغات التي تتخلل الحوارات داخل فضاء الرواية.
“الورد لا يناسب الأطباء … “ص184.
– الورد للورد…
فالمشهد الروائي هنا انزاح إلى لغة الاستعارة التي تجلب اهتمام القارئ وتثير فضوله،فالجملة هنا استعارة مكنية شخصن فيها المرأة وجعلها وردة بكل ما في الورود من رقة وهو كناية على شدة الحساسية ورهافة الحس .
و الجملة هنا تستفز القارئ وتدفعه إلى التأمل بدوره في هذه الورود ومصيرها وكيف تعامل ولماذا كل هذا الحقد والإيلام ،حيث تصبح اللغة الروائية الممزوجة بلغة الشعر أكثر حركية ودينامية،إلى درجة أن السارد أصبحت له القدرة على سماع الأنين الذي يتأجج داخلها من شدة ما أثارته فيه هذه المرأة من معاناة إنها محاولة الإنسان لالتماس خيط رفيع من النور يلتمس فيه طريقا للخلاص.
“أقوم إلى غرفتي قبل أن أرتدي ثيابي ،أعاود استخارتي ،أدعو ولا ينقطع الدعاء من على شفتي تتوالى المطالب أمام الرب الكريم.لا أختمها إلا وأنا أستشعر قربه ورعايته….”ص142.
وأيضا”
أنحو ببصيرتها إلى مواضع عميقة جراحها،إني غارقة لا مراسي حولي ولا ملاجئ قربي،يتيمة الأبوين متبرئ مني الأخ ، مغتصب لموردي الوحيد،ودونه الحياة هيام على الوجه بالشوارع ……………………”ص151.
وهنا السارد يبدو أنه واع بوظيفته داخل الرواية ويعرف كيف يسير حال شخصياته ويدبر أمورها.
وهكذا يصبح المتلقي مجبرا على التماهي في الرواية و استيعاب أحداثها ولغتها التي تنهض على لغة الشعر في شقه السريالي،حيث إن لغة الرواية تعرف مجموعة من الانزياحات، انزياحات على مستوى المضمون حيث لا يمكن الفصل بين هاتين البنيتين بنية الداخل”الشكل”وبنيةالخارج”المضمون”.
وهكذا يجد القارئ نفسه أمام لغة من نوع خاص قريبة من لغة التشظي،لكن ليس التشظي بمفهومه السلبي وإنما التشظي من أجل إعادة بناء اللغة،إنها عملية خاصة خاضعة لقانون الجدل عند هيجل Hegelالذي يعتمد على الهدم من أجل البناء.
“المواضع دامية نزيفها ما يزال دافقا،تريث فقد تخمد ثورة النفس وما يتراءى اليوم فجيعة قد يظهر مجرد ابتلاء علاجه الصبر …”ص48.
فعملية الهدم و البناء تتم من خلال مستويين،مستوى التخيل ومستوى الواقع، كل هذه المعطيات تمكن الروائي من ضبط آليات اشتغاله يتداخل فيه الفني و الجمالي ،هذا الكلام يقودنا إلى مقولة ماركوزMarcuseفي الهدم والبناء. من هنا يأتي تركيز ماركوز على عملية الهدم في الكتابة الثورية، هذا الأمر فيه مغامرة في الجوهر، حيث يتوارى ويتلاشى المتخيل ليترك فسحة لدخول الواقع،وتتلاشى ظلال المرأة لتبقى المرأة الكيان و الجسد.
“أجالس خوفه أحاول زراعة بعض السكينة بالقلب،لكنه بفقد ألواح تحكمه، وتكتئب التقاسيم، وما يعود من مفر من الاستسلام لمواساته في غير جد، لا يقدر على إخراج حرائق الرجولة من داخله، ولا هو قادر على كتمانها…..”. ص50.
وهكذا تجد روايةتواشيح الوردروائيتَها في قدرتها على المزج بين الشعري و الروائي دون الإغراق في الشعر،في الوقتنفسهدون السقوط في رتابة السرد الروائي التي تتبع الشخصيات وكيفية تقديمها لأدوارها في فضاء الرواية.
ولهذا فإننا نلاحظ بأنها رواية يغلب عليها الطابع الأسلوبي الذي يرجح الوصف على السرد و اللغة على البناء.
“…أقتني لطفلي ما تعشق العين ،ملابس الأطفال فاتنة،تسحر العين . وسحر من لون أرق وأبهى كان ينبعث من الداخل، من حيث أنهما ،إنه وجودهما ،أشعر بأنهما معي،يرافقانني يقتسمان هذا العالم معي ،بدأت أتعلم العيش معهما كلاهما….”ص 159.
فالذي يغلب على هذا المشهد هو الوصف وليس السرد،فالسارد يأخذ وقته لوصف ملابس الأطفال في رحلة ممتعة بين الألوان وعواطف الأمومة ومبلغ السرور والبهجة التي تدخل في نفوس الصغار ومدى إحساسهم وبهجتهم بجمال ألوانهم وتذكر التفاصيل بكل دقة فالتفاصيل كما ذكرت الرواية هي خاصية نسائية ،وهكذا يكون الوصف دائما قويا أكثر من قوة السرد، بل يعطي للقارئ فرصة واستراحة لتدارك سرعة السرد الذي تعرفه الكتابة الروائية.


3- لغة الحوار:


يميز النقاد الغربيون بين كلام الأشخاص في الحياة العادية ، و بين كلام الشخصيات الروائية و المسرحية ، حيث استعملوا مصطلح(محادثة ) للكلام في الحياة العادية ، و مصطلح ( حوار ) لكلام الشخصيات في الروايات والمسرح ، و قد أشار إلى ذلك ( هرمان أولد)HermanAuldو استعمل هذا الاصطلاح بقية النقاد و في هذا التفريق إدراك واع للدور الذى يقوم به الحوار في نمو العمل ، و رسم الشخصيات ، فالسرد مهما أجاده المؤلف ، يبقى تقريراً لأمور غائبة عن المتلقي ، لكن جملة أو كلمة في الحوار تستطيع أن ترسم صورة الشخصية ببعديها الظاهر و الباطن ، و تظهر الموقف أمام خيال المتلقي رأي العين و لهذا فإنه يستحيل إنشاء محادثة طبيعية تماماً ، إذا كان لابد ، أن تسهم كل عبارة منها في تطوير الرواية ، و إذا كان يلزم أن تكشف كل عبارة ، و كل كلمة عن المعالم الجوهرية و العميقة في الشخصية .
وتزداد الرواية توترا عندما يدخل السارد في حوار مباشر مع يحي
“جئت أخبرك تنفيذا لأمره تعالى.
-ولكنك لم تلتزمي أمره بأن تقضي عدتك في بيتك.
– أنت أخرجتني..
-وأعدتك واعتنيت بك وغدرتي بي وغادرتني…” ص144.
فالحوار هنا يورط القارئ في الرفع من مستواه التأملي الذي يعطيه القدرة على تمثل هذه اللحظة الحميمية،وتكون له القدرة على إنتاج لغة موازية للغة الرواية المشحونة بالجمل و المقاطع الشعرية،لأن الحوار مفتوح على كل الاتجاهات،حوار مستفز يورط كل من قرأ الرواية ويشترك في تأثيث فضائها.


خاتمة:


وفي النهاية نقول بأن تواشيح الورد رغم انزياح لغتها من لغة السرد الروائي إلى لغة الوصف الشعري، وانزياحها من تقنية السرد إلى تقنية الوصف،فإنها تبقى رواية حافظت على روائيتها،كما أنها بالرغم من اعتمادها على الوصف فإنها حافظت على أصوات مختلفة عبرت عن الشخصيات التي أدت أدوارها بفعالية،كل شخصية حسب موقعا في فضاء الرواية الذي هو في الأول وفي الأخير فضاء المجتمع.
وتبقى المرأة في النهاية هي البؤرة التي تدور حولها كل الأنظار أنظار الشخصيات الورقية المديرة للحوارات، و الشخصيات القارئة المتلقية للخطاب الروائي حيث تكون المرأة حاضرة بقوة في مخيال السارد كما هي حاضرة في مخيالالقارئ،تحتل مكانا بارزا على مستوى عتبة الغلاف الذي يقدم للقارئ شكلا سميائيا لظلال امرأة متوشحة بالوردوردة في شكلها ووردة في روحها،وكذلك على مستوى اللغة الواصفة لمعاناة الجسد و عذابات الروح.وهي إدانة كاملة للمجتمع الذي يعيش فيه الورد أقسى أيامه ولياليه.
وأخيرا تبقى رواية تواشيح الورد مفتوحةً على آفاق التأويل وسلطة القراءة.وأمليأن تكون هذه القراءة المستعجلة قد لامست عالم منى بشلم الروائي واستطاعت أن تخترق حجبه ، فاتحةً الطريق أمام قراءات أخرى أعمق وأشمل من هذه ، أو على الأقل مكملة ما اعتراها من نقص.
* ناقد واكاديمي من الجزائر

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *