أيام رواق البلقاء للفنون 2022

(ثقافات)

أيام الرواق للفنون

* حسّان بورقية (المغرب)

 

لا شك في أن الزائر المُتَنَبِّه وغير المتعجل في زياراته وفي أحكامه، لمرسم البلقاء، بالفحيص ( الأردن ) ” أيام الرواق للفنون، ” من 24 إلى 30 أبريل 2022….، قبل يوم افتتاح المعرض الذي ضم مجموعة من فنانات وفناني العالم العربي، وشاهد هؤلاء وهم يشتغلون كما لو كانوا في مراسمهم الشخصية، دون حرجٍ، لأن بعضهم كان يعرف البعض، أو سبق أن عرض معه، أو اشتغلا في إقامات فنية، في هذا البلد أو ذاك.. سيتأكد هذا الزائرُ من أنه ليس للصباغة سوى لحظة واحدة غير قابلة للتجزيء تقريبا؛ لحظة تعود إليها كل العناصر والتفاصيل التي شكَّلَتْ هذا الملتقى من أوله إلى آخره. سيلاحظ أيضا أن البعض قد حافظ على ” أسلوبه “، أو ما يمثل ” هويته الفنية “، لأن الوقت غير كاف لاستنباط “فكرة عظيمة” ستتطلب مجهودا وتفكيرا ومغامرة وزمنا أطول.. لكنها مع ذلك، كانت لحظة “دهشة” كبيرة تآلفت فيها الصباغة، المواد، الصداقات الجديدة، المحبة، الأسئلة المُعْلَنة وتلك التي بقيتْ في الفؤاد..كما تآلف فيها الرسامون مع الزوار والأطفال والسفراء في لحظة عشق قلّ نظيرها في الأماكن التي تفتقر إلى جوٍّ عائلي مشوبٍ بروح الفنِّ والإنسانِ.. إذا حصل هذا التآلف ” الموسيقي ” سيصل العمل الفني إلى مُطْلَقِه الذاتي شبهِ النهائي الذي لا يعود فيه مُفتقِرا إلى شيء آخر خارجي.
لماذا؟ لأن اللوحة المُؤلَّفَة في هذا المناخ، هي مجرد جزءٍ من كلٍّ منغلق، لا تراها بمفردها، إنما داخل هذا السياق العام، وفي تفاعلها السري والمتبادل مع هذا الكل، الذي تكتمل فيه اللوحة وراء اللوحة، تكون شرنقةُ ” أبَدِيّةٍ ” خاصةٌ قد بدأت تكبر وتكبر وتكبر حتى تصير فراشةَ ذاكرةٍ، عما قليل ستخترق الجو َّ الجميلَ في أديم بلدة الفحيص، وستصير الأزمنة الثلاثةُ، ماضيها، حاضرها ومستقبلها، زمنا واحدا ليس بحاجةٍ إلى مستقبلٍ.. هكذا تراءتْ لي تلك اللوحاتُ، كلُّ لوحةٍ تمنحُ نفسَها للنظر، بلا ما قبلَ الإنجاز وبلا ما بعدَه.. تماما كما حَدَسَ الرسامُ أنه أمام لحظةٍ جماليةٍ مقتبَسَةٍ من ديْمومةِ تكَوُّنِ اللوحةِ، لحْظةِ مُلامَسةِ الزمنِ الذي تتخثَّرُ فيه في العمق الذي استخرج منه كلُّ واحدٍ لحظةَ لوحته..
أنا أعرف جيدا أن الإبداع يشبه رشْحَ الإفراز الروحي النادر، مثل أيِّ تكوُّنٍ طبيعي بطيء.. كرغْوةٍ، فَرُطوبةٍ، ثم طينٍ، طمْيٍ، ظواهِرَ عمقٍ لا ظواهرَ حلْمٍ ونوْمٍ.. اللوحة نوعٌ من أنواعِ الطينِ المظلِم الذي تختمر فيه الصورُ والرُّؤى.. أعرف أن الإبداع لا يعني أن تصنع: إنما أن تُقيمَ هناك: فيما سبق ذِكْرُه: أن تكون فيه: أن تكون هنا.. أي فيما سيبقى من الكلمات التي لم نقلْ بعْدُ.
في هذا اللقاء، لم يكن هذا هو المهم، أي سؤالُ الإبداع.. لم يكن المهمُّ أنْ ترسُمَ “شيئا آخر”.. كان يكفي أن يكون في قلبك صوتٌ، أو عطرٌ، سُمِعَ سابقا أو استُنْشِقَ فيما قبلُ.. في الحاضر أو في الماضي، لتستفيق أنانا الميتَةُ وتستقبلَ غداءً ربّانيا أُلْقِيَ به إليْنا: تلك اللوحات بخصوصيتها اللامحدودة..
ما جمع بين الجميع أيّامَئِذٍ، هو كثافةُ الزمن قبل أي شيء آخر، ” كأن الكلَّ التقى بالكلِّ ” في زمن سابقٍ، أو زمنٍ آتٍ.. خِلْتُ أننا كنا نعيش في أزمنةٍ متعدِّدة، في نفس الوقتِ، من زمن ” أهل الكهف ” إلى الآن، إلى لحظةِ الرسم تلك، بكل معاني الرسم من المقدمة الطللية، إلى فعل الزمن، إلى الانبعاث..
لكن حاضرَنا كان مصنوعا من شيء آخر اسمه: اللاتزامن، التعدُّدُ واختلاف الميولات والأهواء. سيعرف الزائرُ حتْما أننا كلنا لا نعيش في الوقت ذاته وأن كلَّ واحدٍ منا يعيش في مُنْحَناه التاريخي الخاص جدا.. نحن جيرانٌ، نتعايش ولكننا غيرُ معاصرين: تلك كانت باقةُ اللقاء..
لكن.. لكن، كل أزمنة الإنسان تجمَّعتْ في نظرة تلك الطفلة، في ذيْنِكَ العاشقين السوريين؛ في الوجه الذي استعْصى خروجه من اللوحة؛ في شظايا الأم العراقية؛ في ذلك الالتحام الصعب بين الأجساد؛ في الشجرة المخضرَّةِ إلى الأبد؛ في الوجوه الممزَّقة؛ في حديقةِ الغياب؛ في تعبيرات النساء العراقيات والمصريات الواقفات في وجه الحزن والحزن الآخر؛ في أحشاء الراحلين إلى البيداء؛ في شُجَيْراتِ الزيتون الوارفةِ في العين قبل الواقع؛ في جبل الكرمل؛ في الخط حين يصيرُ جسدا متمردا؛ في المنديل الكوري المطروز على الحافة كـ”الساعة المائعة”؛ في هذه الخربشة أو تلك؛ في جراحاتِ ذلك الحائط؛ في ذاكرةِ العابرين الذين ماتزال الكراسي بانتظار عودتهم؛ في استعادة أناشيد الطفولة والحلم والغياب؛ في كل الرموز التي خلقتها لغةٌ مجروحةٌ، منسيةٌ ومتلاشيةٌ؛ في محفلِ كل اللغات الغامضة التي شعِرْتُ بها، ذات الكلمات المستغلَقةِ كأنها منازلٌ قمرية أو شمسيةٌ لا رُتاجَ لأبوابها، وراء بياضٍ جيريٍّ باهر يخفي ما خلقتْه الأعطابُ كالتميمة الغارقة في غموضها؛ في كلّ ما لم يكتمل وما لم ينْتَهِ، كي يقول لنا: إن العالَمَ الذي بنيْناهُ جميعا، نساءً ورجالا، لم يكتمل بعد: وأن كلَّ ميلادِ العالم يحْدُثُ في لحظةٍ مماثلة، في تربة شبيهة بتربة تلك البلدة النائية القريبة، التي تحمل إسما غنائيا يوجد في مرتفعات المخَيِّلَةِ، في الأحجار وفي أنوار الصداقةِ ومياهِ الوادي المحلومِ بها..
لهذا لم نطرح سؤال: من الأجودَ؟ من الأحسن؟ من كان البارِع؟ تركْنا ذلك للقلوب، للأهواء ولزمنٍ آخر، لزمنٍ اسمُه: اللحظة، اسمه البساطة، اسمه الانسان.. لأنه في لحظة معينة من تاريخ الأحداث والناس، تختلف الأشياء؛ نصير سواء؛ نعيش ذاتَ الزمن باختلافٍ في مفهوم التواضع والبساطة المُقْلِقًة..
أيا كانتْ رُؤيةُ هذا الملتقى أو ذاك، في هذه القرية التي تحلم بنا أو تلك العاصمة التي نحن حطبُ نارِها التجاري.. فغيرُ مهمٍّ..
حسْبي أن تنبُتَ بيني وبين أيِّ ” فنان ” صاعدٍ، ساقٌ من سيقانِ حوارٍ سيرُجُّ يقينا فيه، ويترك شيئا من حيرةِ أن لا يقين في الرسم كما أنه لا يقين في الحب.. وأن كل َّ شيء عابرٌ، وأن الذين انحنوا كي يلتقطونني قبل أن أصير ما صرتُه الآن، كانوا كبارا ومشهورين كِفايةً إلى درجة البساطة المُريعَة التي تقول: ليس المهم ما أنجَزْتَ، إنما المهم كامنُ في البذرةِ التي زرعتَ الآن؛ في اللوحة التي لم ترسُمْها بعدُ؛ في الكلام الذي لم تقُله بعدُ لكن الأذان صَغَتْ إليه، وفهِمَتْهُ..
كلُّ اللوحات بقيتْ معلّقَةً، هناك؛ دافئةً، متروكةً إلى حياتها الجديدة.. هناك.. لست أدري لِكَمِّ الحيواتِ التي ستعيشها هناك.. هناك، في تلك اللحظة، بين فن الطبخ والمحبة والتفاني، الطريق وموسيقى ” لِسّا جايْ “، وبين ما تركناه في المرسم قبل السفر بساعات.. فهمتُ بأن ذاك الطعام الذين تحدث عنه مبدعون كبارا، شعراء و روائيون لا يعلو عمّا رأيتُ وشاهدتُ ودَرَيْتُ وذُقتُ.. كان أصدقاؤنا، السيدةُ الكبيرةُ، الكاتبة والناقدة والمترحمة الرومانية، إيكا وزوجُها الرائع حسن، الخبير بالفن وفن الطبخ وتجميعِ نوادر الأثاث والأسماء، ونحن في مملكتهما الفنية الضخمة تائهون، بمثابة إشعارٍ أن الفنَّ لا يوجدُ حيثما تعتقد أنتَ أو أنتِ.. لكنه، كالبهارات المكتَنَفَةِ بالأسرار، يوجد في مكانٍ مّا، هناك، في مكان مجهول.. لأن صوته يأتي دائما من مستقبل بعيد..

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *