(ثقافات)
الخروج النهائي…
السّردية السادسة
- خالد السبتي
دورٌ طويل نقفُ فيه لنحصل على الخبز والدجاج واللحم…لم تعد ليبيا بعد الحرب كما كانت ..أصبحت الحياة أكثر قسوة وأكثر تعقيدا بدأ أبي بالتفكير بالعودة للأردن وكحال كل مغترب ضاقت به السّبل اتخذ القرار إنها السنة الأخيرة وفي صيف عام 1987 بدأنا حزم أمتعتنا بعد أربع عشرة سنة قضاها والدي معلما للغة العربية في بنغازي لم يكن القرار سهلا ولكنه مجبر عليه …باع ما لا يمكن حمله وشحن الباقي للأردن ..تلفاز وفيديو وماكنة الخياطة والذكريات التي مازالت تطارده في نومه حتى الآن ….
وجاء اليوم ..وقفتُ على شرفة البيت وقلتُ كلاما لنفسي كالشعر وأنا ابن الثمانية سنين لا أعرف الشعر ونظامه كان كلاما يحمل الحزن والفراق وإن لم يكن موزونا أو مقفّى ..وصلنا المطار والشمس لم تطلع بعدُ..وحلّقت الطائرة إلى عمّان …كان أبي قد أوصى صديقا سبقه بالوصول للأردن أن يستأجر له بيتا في الزرقاء والتي لم يكن يعرف منها سوى أماكن محدودة حيث كان ينزل دائما في منطقة الجبل الأبيض عند أبي سعيد حواس ذلك الرجل الكريم -رحمه الله ورحم زوجته- التي كانت تعاملنا كأولادها …ولكن صديق والدي لم يستأجر بيتا فاضطررنا للنزول للمرة الأخيرة عند أبي سعيد وبعد أيام قليلة عثر والدي على بيت في الجبل الأبيض وانتقلنا إليه …وأبي الذي أرهقه الترحال من فلسطين للبنان للسعودية لليبيبا للأردن أعلن انتهاء السفر والرغبة بالاستقرار ومن أجل ذلك قدّم أوراقه للتعيين وتم تعيينه معلما للغة العربية في منطقة الهاشمية والآن عليه البدء بالقرار الأهم وهو بناء بيت على قطعة الأرض التي اشتراها في منطقة جبل الأميرة رحمة وهو هناك في ليبيا …الآن لا بدّ من الاستقرار …وكان ما سعى إليه فكل ما يملك وما اشتغلت به أمي في الغربة وهي تحيك الثياب وما تملك من ذهب تم وضعه في البيت لتخرج تسوية وطابق أرضي هو بيتنا الذي سننتقل إليه بعد عدة أشهر من وصولنا ….في ذلك الصيف صيف 1987 نزلنا لفلسطين إلى قريتنا في رام الله -شقبا- حيث كان عرس عمي الذي يعمل ممرضا في مستشفى رام الله في تلك الفترة …كان عرسا تراثيا مميزا فمن عادة الناس هناك أن يذبحوا العجول ويجتمع الناس ليأكلوا ويهنئوا العريس ويزفونه على الفرس ….علقت في ذاكرتي في هذا الصيف تحديدا رائحة التراب والطوابين التي تنتشر في كل بيت فلا أفران وكل ما يأكل منه الناس هو من صنع وزراعة أيديهم هكذا تنتصر على العدو حين تلبس مما تصنع وتأكل مما تزرع…
نذهب لأرضنا بعد الفجر نسقي شتلات الزيتون ونحن نحمل الماء على ظهر الحمار وهو يعرف طريقه وحده ونقطف التين عن الشجر وهو يلتف ببرودة وندى الصباح…لكل شيء نكهة خاصة فالفطور المتواضع المكون من البيض الذي تجمعه جدتي من دجاجاتها ومن الزيت الذي عصروه من زيتونهم ومن الجبنة التي صنعته من حليب أغنامها ومن الخبز الذي خبزته في طابونها والزعتر الذي زرعته وطحنته على الرحى كان فطورا سحريا بالنسبة لي لم أكن قد تذوقت مثله ومازالت نكهة ورائحة كل شيء تعبق في ذاكرتي وروحي حتى بعد مرور ست وثلاثين سنة ونيف على تلك الأحداث ..وعدنا للأردن محملين بحب الوطن الذي ما لبث أن اشتعل بعد أربعة أشهر بانتفاضة الثامن من كانون الأول عام 1987 الانتفاضة الفلسطينية الأولى …
وانتقلنا لبيتنا الجديد حيث التحقتُ وأنا وإخواني في مدرسة جبل الأميرة رحمة الأساسية في مجتمع لا نعرف عنه الكثير وفي لهجة جديدة علينا وفي ظروف حياة تختلف عن تلك التي كانت في ليبيا….