علي المقري: أقاوم شللا أصابني منذ بدأت مأساة اليمن
حاورته: لنا عبدالرحمن
تأتي الكتابة وتمضي في مساراتها المجهولة، فلا يعرف صاحبها ما الذي ستمنحه له، وإلى أين من الممكن أن تأخذه وأين سوف تحط به الرحال. محمولاً على بساط الكلمات، وصل الكاتب اليمني علي المقري إلى فرنسا، حل فيها زائراً في البداية، ثم مقيماً مهاجراً، ثم “فارساً” بعد تلقّيه رسالة من وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو، تفيد بمنحه وسام “فارس” في الفنون والآداب تقديراً لعطائه الأدبي في مجال الكتابة السردية الروائية والقصصية.
ينتمي علي المقري إلى الجيل الجديد من الكتاب اليمنين المعاصرين، وقد اختار لنفسه مساراً إبداعياً منحه خصوصية بين معاصريه، عبر تحديه “للتابوات”، وإصراره على طرح رؤى سردية تواجه الانغلاق الفكري وتقاومه. تلقّى المقري الجائزة الفرنسية بمسرّة المبدع المنغمس في عالمه، فتكريمه هذا أتى ليحفزه على مواصلة رحلته الإبداعية على الرغم مما فيها من مشقات اغترابه عن عالمه ووطنه ومكتبته، لكنه وصف هذا التكريم قائلاً: “أنا أعتز بهذا التقدير وأعتبره حافزاً لي على مواصلة الكتابة”.
في هذا الحوار الذي أجريناه معه بعد فوزه، كشف المبدع اليمني عن رؤيته لمكان إقامته الحالي باريس، وعلاقته بالكتابة، وبوطنه، وبهاجس الحنين إلى الأمس، لمكتبته، ولعالمه الذي صار بعيداً، ومهدداً بالزوال.
نبدأ بالحديث عن منفاه الباريسي بمناسبة تكريمه بالحصول على “وسام فارس” في الفنون والآداب، ماذا يعني له على المستويين الذاتي والإبداعي، وهل يعتقد أن ترجمة ثلاث من رواياته إلى الفرنسية كافٍ ليتعرف القارئ الفرنسي إلى إبداعه الروائي؟ يجيب: “لا أعرف في الحقيقة أن أحدد المنفى ومعناه، مع هذا أشعر كثيراً، وأنا أستدرك المعنى المتداول، بأننا منفيون، جميعنا، على هذه الأرض. هنا في المجتمع الفرنسي نسمع كل يوم كلمات تشجيعية مثل ’برافو‘ و’سوبير‘، ولهذا حين تلقّيت خبر حصولي على الوسام، رأيت أنه يكمل هذا التشجيع المجتمعي الذي لم نعرفه كثيراً في العالم العربي. وكنتُ من قبل قد حصلت على تقديرات مشابهة في فرنسا كالجوائز والمنح. أظن أن رواية واحدة قد تكفي في تعريف القارئ بمنجز الكاتب، وبالذات إذا امتلك صوته السردي الخاص. ولا أعرف إذا كانت رواياتي الثلاث المترجمة إلى الفرنسية كانت كافية أو لا”.
الحفر عميقاً
تميزت كتابة المقري بنوع من الجرأة في طرح الأفكار والتساؤلات، وبدت هواجسه السردية موصولة مع كتّاب عظام تركوا أثرهم داخل روحه، مثل دوستويفسكي وسرفانتس وفوكنر وكافكا، إذ يجد القارئ في ثنايا نصوصه الحكائية انشغالاً صافياً بالجانب النفسي المشتبك مع الزمن وتأثيراته المتروكة في الأبطال نساء ورجالاً. هذا يمكن تلمّسه مثلاً في رواية “اليهودي الحالي” ورواية “حرمة”. وبالتوازي مع هذا، هو لا يتوانى من خلال أبطاله عن تقديم أفكاره الناقدة للمجتمعات المنغلقة فكرياً، بحيث يحفر عميقاً سعياً لطرح رؤية أكثر مواجهة وحداثة.
ولعل الحديث عن الغربة والمنفى الاختياري الذي قام به المقري منذ خمسة أعوام هرباً من الانحطاط الاجتماعي والثقافي، يؤدي بنا إلى طرح سؤال عن الأثر المتروك داخل النص، ماذا فعلت الغربة بكلمات علي المقري؟ وهل ثمة انشطار داخلي على مستوى الأماكن؟ يقول في هذا الصدد: “نعم، لدي هواجس سردية عن المحيط الاجتماعي الذي أعيش فيه حالياً، والذي يصادف أحياناً أنه لا يبتعد كثيراً عن أي محيط اجتماعي عربي، لكنني، في الحقيقة، عادة ما أحاول الابتعاد عن الإشكاليات المكانية المحددة إذا لم أجد فيها ما يضيء بعض جوانب المحن الإنسانية التي تشغل بالي شخصياً”.
ولكن ماذا يفعل في اللحظات التي يداهمه فيها الحنين إلى وطنه؟ يجيب: “لا توجد لحظات محددة، فكل الأوقات واليمن يشغلني، أخباره وحروبه، موت ناسه وانتظارهم للفرج. إنه التأثير المؤلم في حياتي، أشعر أنني أقاوم شللاً ما أصابني منذ بدأت الحرب”.
هذا التشظي المكاني الذي سببته الحرب كيف أثر في تجربته الروائية؟ يرد: “أحاول أن أنجو من هول ما أصاب الذاكرة من تفكك أو انهيار، لكنني في الحقيقة مصاب بهلع الحرب التي عشت أشهرها الأولى. يكفي أن أتذكّر كل يوم أنني صرت بعيداً من مكتبتي التي لم تعُد في مكانها، وأصبحت مكوّمة في كراتين وخزائن حديدية. ماذا تتصورين يكون شعوري وأنا اتذكّر ذلك، أجمل الكُتب والكتّاب، وقد صاروا على هذا النحو مهددين بأي تآكل أو عبث”.
حرية المنفى
يعيش علي المقري الآن في مدينة النور والحرية، هو الذي واجه حملات تكفيرية ومُنعت روايته “حرمة”، لأنها تتطرق إلى مناطق جدلية شائكة في الحديث عن الجنس والدين والتقاليد والحكم السياسي الديكتاتوري في اليمن. ومع صدور كتابه “الخمر والنبيذ في الإسلام” عام 1997، طاولته اتهامات بأنه يسيء إلى بعض الرموز. عن أهمية الحرية بالنسبة إلى الكاتب، وإذا تجلت بالنسبة إليه بعد الإقامة في باريس، يقول: “من المهم، كما يبدو لي، لأي كاتب أن يشعر أنه حرٌّ حين يكتب وإن كان ذلك وهماً. فمن دون هذا الشعور، على الأقل، تبقى الكتابة محفوفة بالخوف والترقب للعقاب”.
ترجمت أعمال المقري إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والكردية. فهل يعتقد أن ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى هي جسر عبور نحو العالمية؟ يقول: “ترجمة الأدب العربي ليست مشروعاً مؤسساتياً مثل بعض آداب البلدان الأخرى، ولهذا ما ينشر أو تتم ترجمته ينتج عادة بسبب علائق اجتماعية أو غيرها، وقد لا يمثل أبرز ما ينتج في الأدب العربي. هناك قلة من الأعمال تنجو من هذه الاشتراطات غير المتكافئة”.
لكن الروايات العربية المترجمة قد تكون من بين أفضل الإصدارات، لكن عند عرضها في لغات أخرى لا تحظى بالرواج الذي تستحقه، فلم يحدث هذا؟ هل لأن الناشرين في الغرب ينظرون إلى الرواية العربية بشكل نمطي منطلقين من أفكار مسبقة، أم لأن سوق النشر في الغرب تحفل بكثير من الإصدارات، أم ثمة أسباب أخرى؟ يجيب: “لا أظن بوجود أفكار مسبقة، ولكن الأنماط الفنية التي يحسب الناشرون حسابها لتلبية رغبات القراء هي المرجحة. ومع هذا، يمكن قول الأشياء التي أشرتِ إليها وأكثر من ذلك، فهناك القليل من الروايات العربية التي استطاعت أن تجد لها قراء في لغات أخرى بعد ترجمتها”.
* حازت رواية “حرمة” بترجمتها الفرنسية على تنويه خاص من جائزة معهد العالم العربي للرواية ومؤسسة جان لوك لاغاردير في باريس 2015 ووصلت رواية “طعم أسود رائحة سوداء” ورواية “اليهودي الحالي” إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية في عامي 2009 و2010 واختيرت رواية “بخور عدني” في القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2015… ما رأي علي المقري في ازدهار ظاهرة جوائز الروايات في العالم العربي؟ يجيب: “أظن أنها ظاهرة صحية، وآمل في أن يتأسس كثير من المؤسسات المانحة للجوائز والأوسمة، ومنح التفرغ للكتابة الأدبية، وأن يكافأ الأدب الحر والجريء والمهم فنياً. فبعض المؤسسات المقيّدة بالاشتراطات التقليدية المحافظة لا يمكنها أن تشجع الكتابات الحديثة، ولهذا يصبح من السهل للكاتب العربي أن يحلم بـ’نوبل‘ بدلاً من حلمه بالحصول على جوائز هذه المؤسسات”.
-
عن اندبندنت عربية