إلى عدي مدانات..في الأول من أيار

(ثقافات)

*إلى عدي … في الأول من أيار

* أفلين الأطرش

في أول  لقاء تعارفي هنا في عمان، تسألني الإجابة عما أعرف عن مدرسة  مطرانية الروم الأرثوذكس في بيت ساحور، ولما لم  أكن أعرف نيّتك في السؤال، وما الذي تريد معرفته تحديدا، أسألك بدوري إذا ما هناك اسما محددا تسأل عنه،  فلا يزال ذلك العدد من الأردنيين يقيمون في منطقة بيت لحم، ولم يسعوا لمغادرتها بعد احتلال الضفة الغربية، فروابط القربى والمصاهرة والعمل المشترك والانتماء معلنة . بعد نفيك، تتركني أدلي بما أعرف عن ضحالة تلك المدرسة ببنائها، بعدم توفر ساحة لها، بضغط صفوفها كمدرسة ابتدائية في حجرتين متجاورتين، وسط إحاطتها بمنازل سكنية تشاركها ذات المدخل والتوزيع مع معصرة زيتون، عن مناهجها الضعيفة  وكأنها محو أمية، عن عدم المساهمة في تحسين ظروف طلبتها ومعلماتها على حد سواء، لرفع سوية عمليتها التعليمية، عن رعب طلبتها القلائل من عدم التمكن من الالتحاق بها في السنة الدراسية المقبلة، وكذا معلماتها. فبتناقص مضطرد في أعداد من يرتادها، مهددة بالإغلاق الكلي، وكأنه لا يكفي عدم حصول معلمتيها المتبقيتين على إجازات مَرضية أو غيرها، لا يعترف لهن بإجازة صيفية مدفوعة الأجر كذلك، مع أن رواتبهن متدنية جدا. فبالله عليك ماذا تريد أن تعرف أكثر؟ هي مدرسة تحافظ المطرانية على اسمها لغاية لا أعرفها.

تغرق في صمت تخوّفتُ من إطالته، لتعلّق بأنني أفدتك كثيرا. وقد بدا عليّ عدم فهم تلك الإفادة، توضح نيّتك من السؤال، وسبب رغبتك في التعرّف على هكذا مدرسة. فأنت مقدم على رفع دعوى قضائية لعدد من المعلمات اللواتي اعتبرتَ عدم إعادتهن للالتحاق بمدرستهن في الفحيص التابعة لها، بداية العام الدراسي بحجج لا تستند لأي أساس قانوني، فصلا تعسفيا، وستطالب بحقوقهن كاملة، وما أطلعتك عليه وأنا بعيدة كل البعد عنها، كمدرِّسة في ثانوية المنطقة الحكومية، عزّز قناعتك بوجوب الدفاع عن كل من ينتمي لهذه المهنة في القطاع الخاص، لتطابقه مع أساسيات ما نقلته لك أولئك المعلمات. أفرحتني كثيرا، فها هو ظلم سيُرفع عن تلك الفئة المقهورة قهرا مزدوجا، من الاحتلال وعسف تحكم بطريركي  لن يعين إحداهن الالتحاق بغيرها، لغياب التدريب والتأهيل. تماما كما تعانيه هذه الفئة هنا من قهرها في ظل أوضاع  مشابهة باختلاف التسميات، وتعمل بكل قوتك لرفع بعضه عنها. وكم كانت صدمتك كبيرة لمشاهدة تلك المدرسة حين أتيت نهاية ذاك العام زائرا لبيت ساحور لنرتبط رسميا.

لم تنته القضية بالنسبة إليك بجمع حيثياتها ومستنداتها القانونية وصدور قرارها ، مطلع العام  1973  بعد ارتباطنا الرسمي بأشهر معدودة، والذي عُدّ سابقة قانونية  بمساواة المعلمات في الحقوق والواجبات بزميلات وزملاء مهنة في مدارس  وزارة التربية والتعليم، وإعادتهن إلى وظائفهن. وحدها ” أوجيني حداد” لم تُعَد، كمفصولة لأسباب سياسية، كما غيرها من المدارس  الحكومية. تكمل بإلزامك كافة المدارس الخاصة على تطبيق قرار المحكمة العليا. لتبدأ معركة جديدة في إيجاد صيغة موحّدة لاتفاقيات التعليم الخاص، ستُعرف ب “عقد العمل الموحّد”، لوضع حد للتعدّي وبمشاركة نقابة التعليم الخاص، كجهة ناظمة مسؤولة مباشرة عن هذا القطاع، وعلى رأسها النقابي ” محمد القيمري”.

كم كان يؤلمك وبشدة، قضايا التلاعب التي يمارسها أرباب العمل، وكم هي القضايا الكثيرة  جدا التي حصّلت فيها حقوق  المعلمات والمعلمين لفصل تعسفي بمخالفات صريحة، وكشفك لتلاعب أصحاب هذه المدارس التي نمت كالفطر، وإلزامها بتعويضات العاملات والعاملين فيها  ودفع حقوقهم كاملة. وأنت تعلم أنهم لم يتوقفوا عن ابتداع حيل جديدة للتلاعب كفيلة بالمتابعة، ولكن…

كانت هذه قضيتك العمالية الجماعية الثانية التي كسبت فيها قرارا قطعيا مُلزِما، فقد سبقتها قضية مساواة عمال القطعة الإنتاجية الواحدة، في الحقوق، بالعمالة المنتظمة لدى شركات الألبسة الجاهزة لتلزم غيرها. كان المجهود الأكبر يقع على عاتق النقابيين لإقناع من يتعرضون للظلم بخوض هذه المعركة مع نقاباتهم، ومعك. فهي مرحلة المدّ النقابي الوطني بأبهى صوره، بالرغم من كل الممارسات لإحباطه وحتى تخريبه، في ظل أحكام عُرفية تسود. أذكر النقابي المخضرم  موسى قويدر” أبو يوسف” في بحثه الدؤوب والفرح عن أولئك العمال، كرئيس لنقابة عمال الغزل والنسيج،  والنقابي المخضرم الثاني نمر أبو عطية” أبو العبد”، كنقيب عمال الأحذية، وسأتعرّف لاحقا وبعد زواجنا، على الكثير من نقابيي  الحركة الوطنية، لن يكون لي شرف تسميتهم الآن  لضيق المجال، سواء من لا يزال يتابع، أو من رحل، ولخوف من سهو عن أحدهم.

لم تقبل محاولة شكرك في الصحف كما رغب العمال، فالواجب لا يشكر، وما سيقتطعونه لأجل ذلك مآله سلة المهملات، ولإصرارهم تشير عليهم بشراء ما يُفرح عائلاتهم كهدية منك. وهم قدّموا لنا هديتهم بتجهيز ملابسي قبل العرس، التي لم أرَ أقمشتها، فقد اشتريتها أنت، ولم أعرف تفصيلها إلا وهي في خزانتي تنتظر مجيئي، ومع كل أسفي لم أرَ منهم إلا من أخذ مقاساتي قبل ثلاثة أشهر من  يوم زفافنا.

صارت هاتان القضيتان بنجاحيهما، منطلقا للنقابات العمالية لرصد التعدي والتغول والظلم المجحف الذي عليهم مساندتك في كشفه لإزالة ما يستطاع مرحليا، ولتأسيس ما يُبنى عليه باستمراريته ودوامه، ولك نهج مسيرة مهنية، فتحافظ على قناعاتك ونهجك ولا تحيد. أذكر جيدا بعض تفاصيل نقاشاتك مع  هذين النقابيين، في مكتب خاص بك افتتحته بعد زواجنا بشهر واحد، وبحكم ملازمتي لك بعد الظهر، لإنجاز أعمال كتابة يدوية تتعلق بعملك، حيث لا إمكانية لتوفير آلة طابعة أستعملها.

تمحورت تلك النقاشات الطويلة، حول مطالب عمال  شركتي الدباغة ، وشركة الأجواخ الأردنية الذين ينوون الإضراب عن العمل في مواقعهم للتصعيد. فهما مع حق العمال في ذلك وبشكل فوري، وأنت مع حقهم في وجوب ذلك، لكن بعد تشكل المحكمة الصناعية، كمحكمة مختصة، تنظر النزاعات العمالية مع أصحاب الشركات، لمطالبتك بها كحق دستوري واجب النفاذ . فقد لاقت فكرتك بعدم إخضاع  مثيل هذه القضايا للمحاكم المدنية، لتأخذ دورا في السجل والمرور بدرجات التقاضي الطويلة  للفصل، قبولا كبيرا من القضاة، وبقي الاتفاق على مهامها ومواعيدها خارج الدوام الرسمي، ومكان انعقادها ومدة تقاضيها، التي تصرّ أنت على شهر واحد فقط للفصل فيها، لئلا يؤثر سلبا على معيشة العمال، وانتاجية المصانع إذا ما نفذوا الاضراب عن العمل. أذكر فرحك  بصدور قرار تشكيلها الذي كان للقاضي” أمين العسعس” دوره فيه معك، فصارت تعقد جلساتها في الثانية والنصف بعد الظهر وفي وزارة العمل.  ستسمى لاحقا “المحكمة العمالية”، وفي أواخر عهدك بها، قبل رحيلك ستطلق عليها محكمة أصحاب العمل، وتلقي باللائمة على المحامين في الدرجة الأساسية، فهذا واجبهم، ولن يكون واجب العمال أو الوزارة.

تُوّجت نضالاتكم بتحقيق المطالب العمالية في غضون شهر وحيد لا إرجاء فيه، ولما توجهتَ مع النقابيين وعلى رأسهم “أبو يوسف” لإخبارهم النتيجة، وفي موقعهم، اُعتبرت بطلا لترفع على الأكتاف وسط الهتافات، وكدت تماثل فعلتهم بالهتافات، فقد أعادت لك أيام رفعك على الأكتاف زمن التظاهر في الخمسينيات، لكنك تداركت الموقف لتطالبهم بالالتفاف حول نقابتهم، وحرصهم على منشأة وطنية عليهم عدم التفريط بها، بالرغم من كل المحاولات، فأنزلوك وصرت بينهم، فأنت أحدهم.

 لما حاولوا تكرارها على الدرج الصاعد إلى مقر الاتحاد العام لنقابات العمال وسط عمان، وكنا برفقتك ابن أختك غسان وأنا، للاطمئنان على نتيجة انتخابات نقابة عمال الغزل والنسيج وتحديدا “أبو يوسف “كرئيس لها، إذ ابتدأت الاستمالة والزرع بأدوات جاهزة للتخريب والسيطرة، لحرف بوصلة المسيرة، تطلب إليهم وبصوت عال أن يتركوك تصعد سيرا وحدك، لا مرفوعا على أكتافهم، فذلك لا يليق بهم قبلك، فأنت لست ذاك البطل، وإذا ما كان هناك بطولة، فهي تنسب إليهم.

لما سألك أحد أقاربك عن تحصيل أتعابك ممن تناضل من أجلهم، تقول له زاجرا “ألا يتدخل مطلقا في ما لا يعنيه.” ولما أشار عليك أحد المحامين بوجوب أخذك لقسم من أتعابك مقدما لتفي بالتزاماتك المتنامية، تصرخ في وجهه “بأن أمثاله غير جديرين بالمهنة، فهذا تفكير شيلوكي بامتياز .”منسوبا إلى المرابي شيلوك الذي يقتطع جزءا من لحم مدينه كل مرة لا يقدر الوفاء بالتسديد، فنقاطع زيارته. تتابع مسيرتك المهنية بذات الرؤية والقناعة والنهج، كما المسيرات الأخرى. فالإنسان فكر وموقف لا  ينفصلان ، أو يتباعدان.

سأذكر شرف ومجد وفخار نضالاتك العمالية الكثيرة والمتنوعة في مسيرة طويلة، حتى بعد تقاعدك، ولما قبل رحيلك، كما الإنسانية والسياسية والإبداعية، بقليلها في كل مرة للإبقاء على وهج حياتها، فترفدنا بقوة كافية للمتابعة في محيط يزداد قتامة. واليوم سأعيد قراءة قصتك، “ربطة  العنق الحمراء”  من مجموعتك القصصية “تركة الأيام الثقيلة” ، الصادرة عن الدار الأهلية في عمان قبل تسع سنوات من الآن، فهي ل” أبو يوسف” ومن يشابهه،  نستعيدهم فنعيشهم .

يا رفيقي، هو عيد العمال العالمي بمفهومه  الأساسي النضالي، ومن واجبي القول لك ولمن معك، ولكل عامل  مهما كان موقعه، ومهما تكن صفته :

      ” لكم جميعا تحية … وعاشت الذكرى.”

                                                                                        إفلين الأطرش

“ربطة العنق الحمراء”

 عدي مدانات

(2013)

(قصة قصيرة)

  هدوء عميم يخيّم على المنزل شديد التواضع في ساعات الصباح الأولى، حتى يمكن سماع صوت دوران عجلة آلة الخياطة الأجش في غرفة معيشة العائلة بيسر، فيما يقوم الزوجان المتقدمان في العمر، القائد النقابي السابق موسى الوهيان وزوجته، بعمليهما المعتادين. كانت الزوجة تعدّ الشاي لطعام الفطور بخفّة حركة وصمت يماثل صمت زوجها المنشغل بعمله، فهذه هي الحال التي استقرّ عليها منذ سنوات عدة، إذ لا  تأتي الأيام بما يغيّر فيها.

تحتل آلة الخياطة مكانا متواضعا من مساحة غرفة المعيشة المستطيلة بالقرب من باب المطبخ، وكأنما أُريد لها أن لا تأخذ أكثر مما تستحق من مساحتها، بحيث يتمكن أبو يوسف من مواصلة العمل ورؤية زوجته وهي تقوم بعملها داخل المطبخ ويبادلها الحديث إذا عنّ على بال أحدهما الشروع فيه؛ وتشغل طاولة العمل التي تنتشر فوق سطحها أدوات الخياطة حيزاً كبيرا، إلى جانب المشجب الذي تجمعت عليه الملابس المجلوبة للإصلاح، وتشغل بقية المساحة مقاعد الجلوس وجهاز تلفاز ومكتبة صغيرة محشوة بالكتب، ثم الصحف اليومية التي ركنت في زاوية فوق منضدة، وانفردت واحدة منها على منضدة إلى جانبه في متناول اليد.

رنّ جرس الهاتف، فتبادلا نظرة استغراب، نهض أبو يوسف بعدها واتجه إليه وتلقى المكالمة، وظهرت في الحال على وجهه علامات اهتمام بما يُطرح عليه. أجاب بعد أن أفرغ المتصل ما لديه: ” لن أتأخر”. أسرع بعدها إلى الحمام دون أن يُعلم زوجته بفحوى الاتصال، وخرج بهيئة مختلفة عما كان عليه، حليق اللحية ، ممشوط الشعر. كانت زوجته قد جلبت الطعام على طبق، إبريق الشاي وصحن لبنة وزيتون ورغيف خبز وجلست تنتظر. حدّقت به متلهفة لمعرفة ما لديه، غير أنه أسرع إلى خزانة الملابس وتناول منها قميصا وبنطالا وسترة، ثم نزع منامته وبدأ في ارتداء القميص وشبك أزرته. سألته حينئذ وقد بلغ فضولها مداه:

ـــ ما الأمر، من اتصل؟

أجابها:

ـــ لا أعرف على وجه التحديد. ربما المحافظ أو شخص ينطق باسمه. يريدني في المحافظة قبل الساعة العاشرة للبحث في مطالب العمال المسرّحين المعتصمين أمام مجلس الوزراء، سأقول له: أنا إلى جانب العمال ولن أتعاون معه، أنا قدت الحركة النقابية لأكثر من أربعين عاماً كما يعرف الجميع.

لم تعقّب في الحال، ولكنها أشارت إلى الطعام وقالت:

ـــ ألن تتناول طعامك؟

أجاب: ” بلى” وتابع ارتداء ملابسه. أدخل ساقيه في فردتي بنطاله ورفعه إلى خصره وشدّ سحابه إلى أعلى ثم شبك أزراره وقال:

ـــ ما أزال كما كنت، صوتا مسموعا كما تعرفين.

انتقل إلى الجورب والحذاء فانحنى ولبس فردتي الجورب، ثم دسّ قدميه في فردتي الحذاء وانتصب. كانت تتابعه بنظرها، تخفضه وترفعه وفق حركته، ثم قالت لدن انتصب جذعه:

ـــ تبدو أصغر عمرا وأجمل، ليت الأيام القديمة تعود وأراك كل يوم منتصب القامة.

 جلس ليشاركها الطعام. كانت تنظر إليه بين الفينة والأخرى وفي فمها كلام، وكان يلوك طعامه وهو مقطّب الجبين مستغرق في أفكاره، وهي تنظر إليه وتنتظر الكلام  ولا تأكل، ثم تضرّج وجهها وقالت:

ـــ كنت دائما منتصب القامة وأنت على رأس عملك وتقود النقابة، كانت الاجتماعات تحدث هنا في بيتي وأشارككم الجلوس وإبداء الرأي، لا ألتفت إلى الشاي المراق على الطاولة والأرض أحيانا، ولا إلى أعقاب السجائر التي تفيض عن المنفضة، فالنظافة مقدور عليها، كل ما كان يهمني هو نجاح الاجتماعات.

 توقف عن الأكل لبرهة ونظر إليها وقال:

ـــ لقد حمّلتك فوق طاقتك؛ فوضى المنزل بوجودي، وقسوة وحدتك أثناء سجني. كنت دائما كالفراشة الناعمة تتحركين بخفة ولطف. أنت تستحقين حياة أجمل، ولكن هذا ما أنا عليه، لو كان بوسعي التعويض….

 أخذت الكلام منه وقالت:

ــ لكنك في كل الأحوال كنت فارسي، تعاملني في الليل كأميرة، وفي سجنك ترسل لي أجمل الكلام.

نظر إلى ساعة يده وقال:

ـــ بودي لو نمضي في الحديث، ولكن الوقت اقترب.

نهض واتجه صوب باب الخروج، خاطبته قبل أن يبلغه:

ـ ألن ترتدي ربطة عنق؟

توقف واستدار وبدا للحظة مترددا، غير واثق من لزوم ربطة العنق، ثم استجاب وعاد وفتح باب الخزانة من جديد ليختار ربطة عنق، غير أنها أعفته من الاختيار وقالت:

ـــ ما رأيك بربطة العنق الحمراء؟

 نظر إليها باندهاش وقال:

ـــ هذه دعابة دون شك.

 أجابت مع لطف نظرتها إليه:

ــ أريد رؤيتها على صدرك ولو للحظة. لن تأخذ من وقتك الكثير.

 وافقها الرأي وبحث عنها، غير أنها لم تكن ضمن ما وقعت عيناه عليه، فعدل، فبادرت إلى البحث عنها. ابتعد وأفسح لها المكان وشرع بدوره يتابعها بنظره: شعرها الذي تحول إلى البياض، كتفيها الضامرين، إطار نظارتها السميك، وقدرتها على الصمود في أعتى الظروف. عثرت على ربطة العنق في حال سليمة، فتناولها وارتداها ووقف معتزّا بنفسه، ولاحظ أنها هي الأخرى شديدة الاعتزاز، فقد كانت تحدّق به وقد اتسعت عيناها وتورّدت وجنتاها، وقالت:

ـــ أتذكّر في هذه اللحظة الساحة الحمراء في موسكو وأنا وأنت نتجه مع جموع غفيرة إلى قبر لينين، كنت ترتدي ربطة العنق هذه, وأنا أشبك وردة حمراء في شعري. كان ذلك بعد خروجك من السجن. كنا نؤمن أن العالم سيتغير إلى الأفضل.

احتبس الكلام في فمها وتحشرج وهي تضيف:

ــ لكنه تغير نحو الأسوأ. لو كان ثمة عدل لما اضطر قائد  حركة نقابية للعمل المُضني في شيخوخته، ولما تُرك وحيدا لا يزوره إلاّ قلة ممن يطلبون نصحه أو يزعمون ذلك.

مسّته عاطفة شبيهة وتضرج وجهه وقال:

ــ نحن بخير كما كنا دائما، وفي آخر الأمر لا يصحّ إلاّ الصحيح.

قطع سائق سيارة الأجرة الصمت ثقيل الظل الذي ساد لوقت غير قليل في طريقهما إلى دار المحافظة وقال:

ــ يا حج هوّنها تهون.

 التفت إليه إذ ذاك، ولاحظ أنه هو الآخر يكتم همّا، فرد الكلام إليه وقال:

ـــ هوّنها أنت أيضا.

 شهق وقال:

ــلو سألت عجلات السيارة التي تنتقل طول النهار من مكان لآخر لسردت عليك العجائب، هوّنها تهون.

 تحسّس أبو يوسف ربطة عنقه وأظهرها لمرأى السائق وقال:

ـــ لو سألت ربطة العنق هذه لروت لك العجائب.

 صمت السائق للحظة ثم قال:

ــ المعذرة، اللون الأحمر لمناسبة معينة، أطال الله في عمرك؟

 أجابه:

ــ الأحمر لون الثورة.

 شتم السائق سائقا آخر أزعجه بإطلاق صفير بوق سيارته وأخذ يمينه وقال:

ـــ وما حاجتك للثورة يا حج، ما هي يد الحكومة طويلة، قبل قليل كنت أمرّ قرب الدوار الرابع ورأيت رجال الشرطة يهاجمون عمالاً احتشدوا هناك، وراحوا يفرقونهم بالقوة وينهالون عليهم بالعصيّ. يد الدولة قوية.

 عكست تعابير وجه أبي يوسف الغضب الذي انتابه وقال:

ـــ عدلت عن الذهاب إلى المحافظة، خذني إلى الدوار الرابع.

                                                               ———–

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *