القرآن محفوظاً بالتجويد

*زليخة أبو ريشة

هذه الأيام، أجد نفسي مهووسة بالاستماع إلى قراء عظام يجوّدون القرآنَ تجويداً. وخصوصاً تلك التسجيلات التي يدرّب فيها أساتذةٌ مختصون أطفالاً نوابغ، على قراءات من سبق من أولئك الكبار؛ مصطفى اسماعيل، والمنشاوي، والحصري، وعبد الباسط، وشعيشع، والشعشاعي… وعلى المقامات الست التي لا تختلف في شيء عن مقامات الطرب العربي. حتى لقد خامرني ما يشبه اليقين أن من إلهامات الجمال في هذه الأمة، أن نبغ في العصر العباسي من اجترح التجويد علماً في الصوتيات، حتى صينَ القرآن من النسيان والهجر. فلولا هذا الفن العظيم بين الفنون، لما كنا علمنا كيف ستتدبر أميةُ القرون العثمانية الأربعة، وما قبلها من عصور انحطاط، كتابها المقدس. فالتجويد ليس كالتلاوة رتابةً وحِداءً، بل هو الفن الذي يضع فيه المجوِّدُ روحَه في حنجرته وقلبَه على شفتيه. وعلى كثرة ما خالطتِ الموسيقى طقوسَ العبادات في أديان العالم، فإني، شخصياً، لم أخبر هذا المزيج النادر من الجمال والجلال في المقام الديني الواحد، على قلة وَرَعي، وشدة ولعي بالنشيد الروحاني. فهذا الذي هو اقتحام السر، وسلطنة الفؤاد. هذا الذي بدأه علماء في القرن الرابع الهجري، أي في العصر العباسي، ولم يكن قبل ذلك على هذا القدر من السعة والإبداع، ولا على هذه الدرجة من الضبط والإتقان، ولا على هذا المستوى من ضخامة الصرح وثراء التفاصيل.

ولن ننسى طبعاً تلك الجهود المضنية التي بذلتها الوهابية وفروعها، لتحريم التجويد، واستنباط القبح من نصوص الفقه الفولكلورية، والحديث الموضوع المختَرَع. ومع ذلك، نجا هذا الفن العظيم، كما نجا النص من واحدية التأويل.

وبذا نفهم كيف وقفت أم كلثوم كهرم في الغناء، وقد تشربت القرآن الكريم بمقاماته منذ الطفولة، وجوَّدت النطق ومخارج الحروف، وتدبرت المعنى بين حزن وبشارة، وتقريعٍ وعتاب، وسؤال وجواب، ويأس ورجاء، في آيات الكتاب. ومن يريد أن يحلل ويدرس صوت أم كلثوم عليه أن يدرس قبل ذلك تجويد القرآن، وقراءات كبار المجوّدين وأساليبهم، وكيف تستدير الشفتان، ويمتلىء الصدر، ويقبب جوف الفم وينفرج، ويقلقل سقف الحلق، ويميل الخدان وينتفخان. وكيف يعيد الواحد منهم الآيةَ ويزيد، حتى يقلّبها على ما تحتمله من مقامات وقراءات.

https://www.youtube.com/watch?v=I_R_UlFtlk8

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *