-
عزيز الحدادي
تجلي الجميل لن يكون ممتعا سوى لتلك الأرواح التي استيقظت باكرا، لتتعقب خطى بومة منيرفا، لأنه إذا كانت الميتافيزيقا تأتي في المساء، فإن فلسفة الفن تأتي في الصباح، ولذلك لا يمكن مقاومتها: «لأن الفن العظيم يهزمنا، لأننا نكون دائما بدون عدة « بلغة هانس جادمير، فالعمل الفني يقهر الأرواح العلمية التي تجعل من اللذة نوعا من التمثيل الذاتي، ذلك أن الرمزي يحفظ معناه في باطنه، لكن بأي معنى يمكن للصداقة أن تصبح فنا؟ وما علاقتها بفلسفة الفن؟ هل هي فكرة محسوسة أم مجردة؟ وما الذي يسمح لنا بأن نقول عن صداقة ما، إنها عظيمة وعميقة تترك أثرها في الوجـــود مثل العمل الفني العظيم؟
ما يمكن أن نعرفه بلغة المعنى، يمكن استرداده في مفاهيم علم الجمال، ذلك أن علم الجمال كامبراطورية مثالية تتنزه فيها روح الفنان، يمدنا بأسئلة مهمة، من أجل تمزيق الحجاب عن العمل الفني: «أن يأتي سؤالنا على النحو الآتي: ما الذي تمثله هذه اللوحة؟ وبالطبع فإن هذا يعد جزءا من فهمنا للوحة، إدراكنا للوحة، إلا أنه من الواضح أننا لا نعتبر هذا هو الهدف الحقيقي لخبرتنا بالعمل الفني».
الفن، باعتباره لحظة ابتهاج الروح، هو في الوقت نفسه، لغة الوجود، لا يفهمنا سوى الفنان والفيلسوف، ولذلك فإن كل فن يتطلب مجهودا جبارا من الروح، لكي نفهم ما معنى أن الفن هو المظهر الحسي للفكرة، ذلك أن الفكرة تنتقل من عالم المثل الأفلاطوني إلى العالم المحسوس بواسطة العمل الفني: «وعلم الجمال هو الشكل الأسمى، الذي تؤكد فيه الحقيقة وجودها»، هكذا تتحدد العلاقة الحميمية بين الاستيطقا والفن، ولعل هذا أيضا هو ما يجعل الاستطيقا تعيش أطول من العلوم، على الرغم من أنها تعتمد على الذوق في الحكم، وليس على العقل، لأن الذوق هو الذي يصدر الحكم بشكل جميل .
والصداقة أيضا لا يمكن اكتشافها إلا بالذوق، لأنها مأوى الجميل ومسكن للخير، فالذوق ملكة الحكم وإشباع رغبة الجمال في الروح، وبلغة هيغل، إنه يقتسم الرؤية مع الروح، ولذلك نجد أن الصداقة بين الفنانين تدوم أطول، لأنها فاضلة، فمادام أنهم يقتسمون اللذة نفسها، فإن صداقتهم ستطول، ومن أجل معرفة أسرار هذه اللذة التي تستمد عمقها من الفن، كتسمية للرسم والموسيقى والشعر، سيتوجه هيغل إلى الفكرة المجردة التي تحتمي بها الروح، من أجل استضافة المطلق، والاستمتاع بتجلياته في الوجود والحقيقة والفن، وقد اكتشف أن الروح لا تبتهج إلا في حميمية المطلق، وبما أن المطلق لا يمكن اصطياده سوى برمي شبكة الفن، فسيكون الرسم، والموسيقى والشعر هي الطعم الذي يثير الرغبة في العض، ولعل تسريب هذه الفنون إلى الروح سيطهرها من الشر ويزرع فيها بذرة الخير، هكذا ستصبح جميلة لا ترى نفسها إلا في الجمال .
فن الصداقة إذن هو مجرد انسجام وتناغم في الروح، والصداقة لا تبدو لنا جميلة إلا بسبب وعينا الذاتي الذي يدرك الجمال كهبة من الفن وعلى مدى سنين طويلة علمنا الفن أن ننظر إلى الحياة بمتعة وسعادة، وأن نستدرج أحاسيسنا إلى الحد الذي نصرخ فيه أيا تكن هذه الحياة فهي جميلة.