قصّة (ســـــــــــــــرّ) بقلم شێرزاد حسن

(ثقافات)

ســـــــــــــــرّ

بقلم شێرزاد حسن* من مجموعته ” حيّ الفزاعات”

ترجمة: خيرية شوانۆ

تلك الأرملة الوحيدة…. لولا هذا السرّ، لما اجتمع الناس أمام بابها المهترىء وهي تحتضر، توسل إليها الكبار والصغار، الرجال والنساء… المعدم والغني قبل أن تفقد قدرتها على النطق…..

” حرام ياخالة، بالله عليكِ لقّني أحداً هذه الصنعة، سيثور علينا أطفال الحيّ إن لم يحصلوا على الحلوى التي تصنعينها “.

” أمستعجلون لموتي، أيتها الكفرة”

” لاسامح الله، ولكنكِ لن تعمّري كنوح…  “

“لاتخافوا ، سأصبح بخير”

” ولكن ماذا لو….”

” لايحتاج لو… ليأتي أطفال الحيّ في المساء إلىّ، وسأقص عليهم حكاية “.

في المساء، فقدت الأرملة قدرتها على النطق فجأة، وبعد نوباتٍ شديدة من الحمى، دفنت السر معها. في الليل حرس جثمانها الرجال، وفي الفجر دفنوها، ثم نهُبت ممتلكاتها. أخذوا صواني وأطباق المنّ والحلوى، مع خزانة البوراق*، وبضع خرق من اللباد مع سرير وغطاء رثّ ومهلهل، طقم السفرطاس، طاقية نسائية متوسخة، خواتم فالصو مع دبابيس الأنف، زجاجٌ ملىء بماء الزمزم، تمائم الشيوخ، مكحلة وملقط مع حجر الخفّاف، مرآة صدئة، ثلاث فساتينٍ مع أربع عبايات مصبوغة باللون الكحلي، صندوقٌ عتيق أصبح بعد ذلك من نصيب أرملةٍ قامت بغسل تلك الأرملة، وفي اللية ذاتها حطّمت الصندوق العتيق وياللعجب، فقد وجدت مسدسا ملفوفا في قطعة خام مخبأة بين أقمشة أخرى مع مصحفٍ وقطع من قماش الجيت والكودري، فاحت رائحةٌ طيبة من الصندوق أدهشتها.

ياللعمر المهدور، فهذه الأقمشة ذات الورود لم تكن تناسب سنّها حتى، فلماذا لم تخيط أياً منها؟

في المساء لم يتبق شىء سوى مكانٍ خرب وخالي، هذه الخرابة  كانت يوماً مكانا يصطف الناس أمامها من أجل الحلوى. سُرق في اليوم التالي جذوع السقف مع بقية أشيائها المهلهة، وانهدم السطح بالكامل. خلسةً كان الجميع يبحثون فيها عن شىء ما . وإذا ما شعر الرجال ونساء الحيّ بالملل فكانوا يتركون أطفالهم يفعلون مايشاؤون بالمكان، غير أن أحداً لم يعثر على تلك الخزنة المخبأة، أمسى الناس يتجولون في الخرابة ويصنعون الحفر ويهدمون الحيطان، مضت الأيام وأصبحت مأوىً للكلاب والقطط ومكانا لكبّ النفايات، وباتت الدجاج والديك والصوص تحفر فيها.

بعد سنة كاملة ظهر رجلٌ مهندمٌ غريب مع امرأة، ثم جمعا أهالي الحيّ، وأعلنا بأنهما وريثا هذه العجورة، وأنهما ورثا تلك الخرابة وهذه المزبلة…!

البوراق* خزان ملابس مصنوع من الخشب مزدان برسوم ، كانت تتواجد في أغلب البيوت الكوردية قديماً وكانت هدية العريس للعروس.

مظلّة

أنا وفتاة… على مفرقٍ اقتربنا من بعض، أثقلت الوحول اللزجة من خطواتنا أكثر، الطريق الرئيسي جعل منّا سائرين متجهين نحو الطريق المبلط، هطل فجأة مطرٌ غزير، بسرعة أخرجت الفتاةُ تحت معطفها مظلة، نظرتُ إليها، كان شعرها الأسود المتوسط الطول منسدلٌ على كتفيها، وتحت المعطف الكثيف تهتز مؤخرتها، أوقف هطول المطر غنجها. لايزال الطريق أمامنا، لكم هو أمرٌ شاقّ أن تكون في المطر بدون مظلة، أن تكون وحيداً في المطر ليس هيّنا، في أماكن أخرى في هذا العالم يجمع المطر السائرين والوحيدين.

 مظلة هذه الفتاة ينفع لشخصين، وياللجمال إن كان شابٌ وفتاة، والأجمل لو كانا عاشقين…. ولكن هيهات… ليس الأمر هكذا هنا ولن يكون، أتعبني التردد، والحيرة قتلتني، وفي اللحظة التي تمنيت رؤية وجهها التفتتْ هي، فكانت التفاتة متجهمة، في نظرتها البغضاء والانزعاج… الانزعاج من ماذا؟ لم أكن أعرف…الشك من من؟ لا أعرف….ولم هذا البغض؟ ولم عيناها اللتان كانتا يمكن أن تكونا غارقتين في الحب أرعبتني… أخذتُ على خاطري… تخطيتها متمنيا أن تناديني…. أسرعت أكثر ومشيت معها خطوة بخطوة ، واختلستُ نظرة… ولكن دون جدوى، ازداد المطر، وبللتني أكثر، أبطأتُ قليلاً، فأصبحتْ هي قريبة، ولكنها من جديد لم تناديني، أنتابني خجلٌ شديد، ولم يكن هنالك حلّ، أسرعتُ في خطواتي، وفي اللحظة التي اقتربتُ من الشارع إلتفتُ إليها، وياللصدفة، وقعتْ الفتاة وانزلقت في الوحول فجأة ، حاولتُ العودة لكي أساعدها…. ولكني خفتُ وتراجعت… أسرعتُ من خطواتي حتى ألحق بالباص الذي كان يتمايل تحت المطر… على شفتي ارتسمت ابتسامة… وسألت نفسي: هل هذه ابتسامة مقتٍ وانتقام من هذه الفاتنة اللامباللية؟

 استحييتُ من هذه الفكرة الخبيثة، ومن تلك الخاطرة التي راودتني، خجلتْ.

شيرزاد حسن*

كاتب ومثقف ومترجم كوردي من مواليد أربيل 1952، تخرج من كلية الآداب قسم اللغة الانجليزية سنة 1975، وعمل كمدرس وتربوي لمدة 26 عاما. لديه العديد من الأعمال التي تنمتي إلى جنس النوفيلا والرواية منها: ( القلعة وكلاب أبي، سهل الغزلان المقتولة، ضباب الوادي، إمرأة خناء، حلم العناكب، والليلة الأخيرة لنزول عيسى).   نشر العديد من القصص، من مجموعاته القصصية:  (الوحدة، الوردة السوداء، حيّ الفزاعات، فراشات المساء العجوزة، وميم).  ترجمت روايته (القلعة وكلاب أبي ) إلى اللغة العربية وصدر عن دار فلامنكو، كما ترجمت مجموعة من قصصة إلى اللغة العربية ونشرت بعنوان (ممكلة الببغاوات).  

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *