*محمد الأسعد
لعل أهم ما تنتجه حركات التجديد الثقافي، أو الثورات الثقافية، إجمالاً في أي لغة من اللغات، هو اكتشاف أن للكلام نفوذاً. للكلمة صفة الهيمنة على الجموع أو الجمهور أو الأمة. وكان لثقافتنا نصيبها من هذا التجديد، مع أنه لم يصل إلى مستوى الانقلاب الشامل، في النصف الثاني من القرن العشرين. وبفعل متغيرات فكرية وسياسية اكتسب هذا النفوذ سمات جديدة، لم يعد نفوذاً تقليدياً من ذلك النوع الذي يشق المستمعون بتأثيره الثوب أو الثلاثة أثواب في ليلة واحدة، كما نقل أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»، ولا نفوذ الكلمة المسلية التي تروّح عن الصحب وقد اجتمعوا حول طعام أو شراب، كما نقل د. شاكر مصطفى عن صحبه ذات يوم، ولا نفوذ الكلمة الناعمة التي تشغل القارئ عن نفسه وعما حوله، كما رأى د. طه حسين في وظيفة الكلام الأدبي، بل نفوذ الكلمة البادئة والمعيدة للحركة؛ حركة الواقع والإنسان.
هكذا بدأ عصر نفوذ الكلام في الخطاب العربي الحديث، شعراً ونثراً، بوصفه أول سمات الحداثة الجنينية بلا مواربة، نفوذ مستمد من إمكانية التأثير والإقناع، والقدرة على شرح العالم وإيضاحه بدقة المعادلات الرياضية، بل وتغييره، وترجيع الغناء الذي تحفل به فقرات أغانينا الحزينة. وبمثل هذه الثقة بنفوذ الكلام، صار «الغد» المتخيل مفتاحاً سحرياً تفتح به مغاليق التجربة والواقع على حد سواء. الغد بوصفه ثمرة لنفوذ الكلام وأثراً من آثاره. وأصبح لكلمة الغد سحرها الذي لا يقاوم. الكل يحلم بالغد، مؤمناً بأنه سيأتي حتماً، وبالمواصفات التي يحددها الكلام. وانقلب النفوذ الذي يستهدف تلمس الواقع، والتعرف إلى ملامح الإنسان الواقعي لا المتخيل، إلى ما يشبه نفوذ الكلمات السحرية؛ كلمات التعزيم والدروشة.
***
في ظل مثل هذا النوع من الإيمان بنفوذ الكلام، ارتدى الرواد مسوح الكهنة والمخلّصين، ولكن الذين يطلقون كلاماً واضحاً بيناً أحياناً، أو الذين يلجؤون أحياناً إلى الكلام المبهم. أبرز هؤلاء، وأكثرهم حضوراً كان الشاعر. ولكن بكل صوره التي عرفته بها العصور الماضية وصولاً إلى العصر الراهن. بدءاً من لسان القوم، مروراً بالمتمرد، فالمتكسب، فالخليع، فالمهرج، وصولاً إلى شاعر فرد تعددت أقنعته، ولم يعد يعرف أي قناع يخصه.
وتوالت الأسئلة؛ كيف نصل إلى الناس؟ كيف نهبط لنكون معهم؟ كيف يصعدون ليروا المشهد على امتداده؟ كيف نهجر لغة القواميس؟ كيف نختلف ولو قليلاً عن الظلال العظيمة التي تهيمن على مصير الشاعر منذ ولادته وحتى موته؟ وقبل كل شيء، كيف نبرهن، كما يبرهن العالم في مختبره، على أن نتائج التجربة، تجربة التجديد، أصبحت مضمونة؟
وتكاثرت واحتشدت مصادر الأفكار التجديدية، وأغلبها منقول نقلاً حرفياً، وبأخطاء في الترجمة أحياناً، بل ومخترع كما روى الشاعر المجدد بلند الحيدري على صفحات مجلة ذات يوم، فقال إنه كان وبعض زملاء له في مقهى، يخترعون حتى أسماء أجنبية وهمية تقول وتنطق بما يعزز صحة كلامهم أو آرائهم، وما كانوا يذهبون إليه في مسائل التجديد ومبرراته.
وهل ظل لخطاب التجديد معنى وقيمة في ضوء هذه الوقائع؟
في تلك الأيام، وخاصة بوجود منابر ثقافية، مجلات تحتشد بالأسماء الأجنبية، وإعلانات عن هذا المبدع وذاك المجدد، كان من نصبوا أنفسهم مجددين وحراساً على أبواب التجديد والإبداع أشبه بأبقار مقدسة لا تمس حتى لو اقتحمت البيوت وداست في بطون الناس.
تأخرت كثيراً مراجعة أمثال هذه التشويهات التي ألمت بالكلام. وحين بدأ جيلنا يمتلك شيئاً من الوعي، وبدأ يبحث عن كتابه وشعرائه، لم يجدهم حتى في مقاهي نصف القرن الماضي، وبالطبع لم يلمح لهم أثراً في الجيشان البشري. وكان لابد من اقتناع بجدوى الشعر نستمده من شيء أبعد من مقال للشاعر ت.س. إليوت، أو مقتطفات من كتاب لباشلار، أو أطروحة متحمسة عن ناظم حكمت يقذفنا بها الرواد. ما كان يحدث أمام أعيننا شيء عجيب؛ مرتفعات بعيدة هي مسارح الشعراء، وأسواق نتجول فيها ولا نلمح لهم ظلاً.
في كل هذا ثمة خطأ ظل بعيداً عن الاهتمام؛ خطأ في تركيبة المشهد الذي اطلعنا عليه. فبعد بضع سنوات ارتفعت أصوات هؤلاء الذين مثلوا مسرحية الشاعر المصلوب والعاشق والشهيد أنفسهم، وبدؤوا بتمثيل مسرحيات جديدة. وكان من المنطقي الاستنتاج أنهم قادرون على تمثيل أي مسرحية جديدة، والانتقال إلى أي زاوية ببراءة تامة.
من ارتدى قناع «المناضل» لتغيير الواقع القائم، خلع قناعه وبدأ يمجد الهذيان بلا سبب مفهوم، ومن كان أشد الناقدين للأوضاع حماسة توارى أو استظل بظلالها.
ما هو الشعر إذاً، إذا لم يكن رسالة؟ إذا لم يكن قوة في الشعور قادرة على تجذير الواقع الإنساني بكل مستوياته؟ وليس أزياء يرتديها ممثلون، ويستبدلونها مع كل تغيير في نصوص المسرحيات؟
***
إذا كان للكلام نفوذه، وهذا صحيح، فهو نفوذ مستمدٌ من مصدر آخر، ليس هو الإقناع ولا الموعظة، وليس هو تعداد صفات الشاعر والشعر في قصيدة، بل هو إثارة الحس القوي بالحياة نفسها من دون اضطرار إلى مسرحتها وتحويلها إلى ذكرى هادئة للحاضر نفسه، أو إلى معادلة رياضية يروي فيها الشاعر في طرف قصة عذابه المقيم، ثم يختم القصة في طرف آخر بالنهاية السعيدة.
لقد كان أردأ ما في الشعر طوال تاريخه هو هذه النهايات السعيدة للصراع البشري والكوني. ليس لأن السعادة محال، بل لأن الشاعر ليس موظفاً من موظفي خدمات السعادة العامة. إن ألف التعريف لا يمكن أن تقبلها لفظة «شاعر»، من دون أن تنتقص من قيمة هذه اللفظة.
وهكذا، مع الولع بألف التعريف، كان على الجيل الذي بدأ يعد أدواته في ظلال حركات التجديد، والدعوات للثورات الثقافية، أن يرفض الانضمام إلى جدول المعرّفين بالألف واللام، لأنه ليس بحاجة إلى دور يستعيره ويقوم بأدائه. إنه قانع بدوره، يراهن على الأصل ولا يحتاج إلى أن يكون شبيهاً.
وبعد الغرام الكبير الذي شغل حيزاً زمنياً بالخارجين من الصفحات والكتب، بدأ شاعر هذا الجيل مع اقتراب القرن العشرين من نهايته يفتح الصفحات، ويوغل وراء أصحابها في غاباتهم وعوالمهم، سالكاً بذلك طريق الفنان الصيني الذي فتح، حسب أسطورة من أساطير الشرق البعيد، نافذة في لوحة من لوحاته ودخل فيها ولم يعد.
إن النفوذ الذي للكلام لم يعد من السهل اقتناصه بمجرد اتخاذ سمة دور من الأدوار المبذولة في المجتمعات العربية الراهنة، فهو نفوذ يقع في شيء أشد صعوبة ؛ في ابتكار أدوار جديدة لا يجيدها غير الشاعر. ولهذا لا يستطيع الشاعر التنازل عن هذا الوعد. وحين لا يكون بمقدور أحد أن يؤدي مهمة الشاعر، وحين يقبل المسرحيون والمخرجون والنقاد والمقاولون هذه الحقيقة، يكتسب الشعر حداثته، أو، بعبارة أبسط، ضرورته.
_________