(ثقافات)
خالد أبو خالد: الشاعر المحارب
نم يا صديقي فالأرضُ صُلْبَةٌ تنقلُ الأصواتَ والحنين
*محمود عيسى موسى
” وأني أجيئك من بيرقٍ
وفي خطوٍ على ورقِ الموزِ
وأشدُّ أشرعتي إلى يافا
وفي عقلي صفد ” .
أبا خالد ..!
هل تناولتَ الطلحَ وتذوّقت طعمَ الحلاوةِ البكر ، وتحممتَ بالعبيرِ وتنشّفتَ بنكهةِ النهرِ العظيمِ ، وتعلّمتَ الحبَّ في قواعدِ الثوّارِ في أغوارِ الأردن ، في مزارعِهِ ، في حفرةِ الإنهدام ؟
كما تعلّمَ محاربو وثوار كوبا وتشيلي وجيفارا حُبَّ قصبِ السكّر والأغنيات .
هل درجتَ بين سناسلِ الحجارة، وعدوتَ بين رفوفِ الحجلِ في الحقولِ، وتمرّغتَ في سهولِ السُّمسُمِ، وتعطّرتَ بعطرِ البريّةِ وزعترِ الجبلِ الفوّاح، ومضغتَ أوراقَ المريميةِ المقدسة لشدّ البطن، واتّخذتَ البطاح فِراشاً من الأشواك والزهور، وتلحّفتَ بنورِ الشمس، وتناولتَ ثمارَ النعيمِ كأصحاب اليمين؟ فشبّ فيكَ الزهوُّ والأملُ والثقةُ وأنتَ القائدُ الذي سمع ورأى أمامه الشجرَ المتراكمَ المنسّقَ المصفوفَ، محتشداً كما احتشدَ أمامَكَ الرفاقُ الثوار :” وأصحابُ اليمينِ ما أصحابُ اليمين * في سِدرٍ مخضودٍ * وطَلْحٍ منضود “تعلّمتَ الحبّ ودرجتَ على أسرارهِ ورحتَ تنشرُ وتعلّمُ نكهةَ هذه الأسرار وحلاوةَ طعمِها ونورُ الفسفور يشقّ سماء النهر الرخراخ ، الأردنِ العظيمِ ، وينبعثُ كشعاعٍ كونيّ في خلايا الدماغِ ويؤجّجُ في جوارحِك الذاكرةَ والبلاد .
أبا خالد …هل تعلّمتَ الشعرَ المنضودَ كما تعلّمتَ النظمَ على ورقِ الطلحِ العريض، والطلحُ طعامُ الفلاسفةِ في الجبال بعد كُتّابِ جَدّكَ العتيدِ، على يد العنبتاوي الشهيدِ ، أستاذِك الأول الشاعر عبد الرحيم محمود، وحملتَ الأوزان والقوافيَ والمجازَ والصورَ … حملتَ الشعرَ كروحِك على راحتيك وتجنّدتَ بجنادِ الفشكِ، ونفسُك مغرومةٌ بشهادتين ، والِدِك وأستاذِك، مغرومةٌ بغرامِ الشهداء، لها غايتان :” ورودُ المنايا ونيلُ المنى “تتلمذتَ وتعلّمتَ الغرامَ واشتدَّ عودُكَ ، السنديانُ ، وأنتَ النبتُ والشجرُ ، نبتُ أهمِّ مدرسةٍ في الدنيا : مدرسةِ الشهداءِ والسنديانِ .”وكسا دمُ الشهيد ” محمد صالح الحمد ” أحد القسّاميين الخمسة الأوائل ، والدِكَ ” أبو خالد “، ديرِ غسانةِ القرية . ” كسا دمُهُ الأرضَ بالأرجوانِ .. وأثقلَ بالعطرِ ريحَ الصَبا ” . نامَ بعدَها نومتَهُ الهنيّةَ التي يتمناها وينشُدُها كلُّ حرٍّ شريف ، مع رفاقِهِ في أرضِ أرجوانِ المريق ، أرضِ اللبنِ والعسلِ ، أقدسِ وأطهرِ بقعةٍ في الكون .
نام ليحلمَ حلمَ الخلودِ ، والحلمُ حقيقةٌ ، وينعمَ بأسمى وأحلى الرؤى بزرعةٍ زرعَها في قلبِكَ وروحِكَ وأورثكَ العزّةَ والمجدَ ( يا أبو خالد الشاعر المحارب ) لتصدحَ وترددَ في مسيرة العمر بالصبر والكفاح صوتَ المعلّم الأول :” فقلبي حديدٌ وناري لظى ”
حملتَ الشعر كما حملتَ الفشك وأنجبتَ الوسام بأُبّهة القائد ، وعلّقتهُ على صدر الميلشيا في شمالِ الأردن ، وزَغْردَتْ بلادُ الشام زغرودةَ الجنوبِ والشمال .
حملتَ الشعرَ والفنَ بين يديكَ كريشةِ طائرٍ يرسمُ ويطيرُ، حلّقتَ وتجندتَ بجناد معاني السهول
والأنهارِ، معاني الجبالِ والقمم .
محارباً وسط لجّةِ الأمواجِ العاتية ، سبّاحاً ماهراً ، صانعاً أمهرَ للمراكبِ في بحورِ الشعرِ والقوافي ، منشداً ، يتردّد خَفقُ صوتِهِ الجَهْوَريُّ في سماء فلسطين ، يحمله الصدى العروبي وتتناقله الأجيالُ بين المياه والمياه …” من الشامِ لبغدانِ ، ومن نجدٍ الى يمنٍ ، إلى مصرَ فتطوانِ ”
شبّابتُك تشبّبُ ، وأرغولُك يؤرغلُ وأجراسُ الرعاةِ تقرعُ
” على كتفيه السنابلُ .. أجنحةٌ.. والسهولُ .. لهبُ ”
والسّبعُ يا سبعَ السّباعِ يتأهبُ تحتَ زيتونة ، لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ ، فُغِشَ زيتُها البكرُ وأضاء بنوره الدنيا ” وأحمي حياضي بحدّ الحسام …فيعلم قومي أني الفتى ”
يتأهَّبُ السّبع ويُعدّ فرسَهُ الأصيلة ويزينُ جمالَها بالحِلِيّ النادرةِ لكنعانَ الفتى .
أبا خالد ..
ذقتَ مرارةَ اليُتمِ وأنتَ في ربيعِك الأولِ قبل أن تعرفَ طعمَ المرارات والعذابات .
أعدّتْكَ أمُّكَ (زيتونةً فلسطين) وأنت بالقِماطِ ، كما أعددتَ فرسَكَ لتكون امتداداً لشعلةِ أبيكَ مدافعاً عن فلسطينَ ، الأرضِ والوطنِ ، منافخاً صلباً عن حقوقِ شعبك .
كما أعدّكَ جدّكَ والدُ الشهيد لتكونَ شاعراً فحلاً ، منشداً يغنّي التهاليل والتراويدَ ويهزجُ بالأغاني الشعبيةِ (المعرّمة تعريم) أغاني العزِّ والأعراسِ والذكرياتِ ، وتحمل همومَ الثورةِ والمقاومةِ في طريقِ التحرير .
أبا خالد .. صرنا أصدقاءَ…لم نكن أصدقاءَ منذُ الحارةِ أو الطفولة ، كنتَ سبقتَني في كلِّ شيءٍ حتى بالعمر، سبقتَني بخمسةَ عشرَ من الأعوام .التقيتُ بديوانِك الشعري عندَ الباعةِ على أرصفةِ دمشقَ ( وسامٌ على صدر المليشيا ) .دارت الدنيا دورتَها فتعرفتُ على زيتونةِ فلسطين ، أمِكَ ، وقد أعياها وهدّها الزمنُ وأصبحت غيرَ قادرةٍ على المشي ، أرسلتُ لها جهاز الووكر لمساعدتِها على المشي فأرسلتْ لي تنكةَ زيتٍ من زيتونِها في السيلة وكانت في زيارةٍ لابنتها الوحيدة (أم السعيد) أختك في إربد ..سألتُها عنكَ .قالت أمُّك ” من خلّف ما مات “دارَ حجرُ البدّ الباطوس في معصرة الزيتون . كانت هديتُها تنكةَ الزيت أجملَ وأغلى هديةٍ في حياتي . أما أنتَ فقد خاطبت حلوةَ العينين :”رغم أن الصّبر مرُّ..والعشاءَ دائمُ الغياب…والأحجارَ ليست الزيتون….فالقطاف أمْر”
زيت السيلة، زيت أمك ، أنار لنا بنّوره الطريق لأول لقاء حبيّ بيننا يفضي إلى صداقة عارمة نادرة تنشأ بين صديقين (على كبر) كأنا ولدنا وتربينا ولعبنا معاً بين السناسل وأشجار الصبر والحواكير .