النحّاتة منى السعودي:اقتصر عمري على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر (حوار استعادي)

(ثقافات)

تزاول النحت والرسم والشعر منذ نحو أربعين عاما 

  منى السعودي :اقتصر عمري على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر

حاورها: يحيى القيسي

 

  (ملاحظة: تم نشر هذا الحوار في صحيفة القدس العربي عام 2006 وأعيد نشره في ثقافات بمناسبة رحيل الفنانة اليوم 16 -2-2022 تعميماً للفائدة)

كنت قد التقيت النحاتة المبدعة منى السعودي في عمان مدينتها الأولى خلال الصيف المنصرم إذ أنها  حضرت جانبا من مهرجان جرش , واستمعت إلى أمسية  صديقها الشاعر أدونيس , غير أن اللقاء لم يكتمل إلا في بيروت مدينتها الأثيرة حيث اختارتها للعيش فيها , وحيث يوجد محترفها وبيتها الذي يغص بالمنحوتات الحجرية مختلفة الأشكال والدلالات والأحجام والتي تحتل الزوايا والمساند والحديقة الصغيرة أيضا ..!!       

ولعل محاورة  السعودي تجعل المرء  يحتار من أين يبدأ , وما هي الأسئلة المناسبة التي يمكن أن تقود إلى  الأجوبة المشبعة لا سيما أن بين يدي شهادة إبداعية لها عن مسيرتها خلال نحو أربعين عاما , وأيضا كتابها المشترك مع الشاعر الفرنسي ميشيل بوتور حيث تزاوج شعر بوتور الذي ترجمه أدونيس إلى العربية مع منحوتات السعودي  , , وأمامي أيضا قصائدها ورسوماتها المجموعة في ديوانين هما : ” محيط الحلم ”  1992 , و ” رؤيا أولى ”  1972, ولهذا يبدو هذا اللقاء أشبه ببورتريه حواري يلقي الضوء على التجربة النحتية العالمية وصاحبتها , ويجيب على بعض الأسئلة فيما تطل   المنحوتات التي تفيض بالحياة ,والرسومات التي تملأ جدران المكان على الصمت الذي يتسيد الناظر وهو في حالة انبهار لما يرى من الدقة والجمال والدلالات الغنية للحجارة الصماء التي تكاد تبوح بما صارت إليه من تشكيلات تسر الناظرين وتحير الألباب بأسئلتها المتناسلة من دوائرها ومنحنياتها وأقواسها وعطفاتها ..‍‍‍‍..!!

 

تقول السيرة الذاتية للسعودي بأنها من مواليد العام 1945 في عمان , وقد درست النحت في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس وتخرجت في العام 1971 , وأقامت العديد من المعارض الشخصية والجماعية في الأردن والوطن العربي والعالم , ولها مقتنيات هامة في المتاحف مثل باريس وعمان وواشنطن وغيرها , وقد منحت جائزة الدولة التقديرية في الفنون العام 1993 . أقامت منذ الستينات في بيروت ثم عادت إلى عمان لعدة سنوات ولكنها عادت للعيش في بيروت حيث بيتها ومشغلها النحتي وحيث الفضاء الواسع من العمل الثقافي والفني والهامش الاجتماعي أيضا ….!!, وربما يكون من فائض القول أن أشير إلى أن السعودي تعد من أبرز النحاتات العربيات وأهم تجربة نحتية أردنية  إذ هي رائدة أيضا في هذا المجال الذي مازال قطاعا نادرا إذ يتركز اهتمام التشكيليين على الرسم والتلوين فيما تبدو حصة المواد الأخرى أكثر حضورا بالنسبة لمن اختاروا حقل النحت قياسا لاختيار الصخر والحجر , ولعل من أبرز أنجازاتها : منحوتة ” النهر ” وهي من الجرانيت الأزرق عام 1983 وهي دائرة قطرها نحو متر ونصف , وهي معروضة في عمان , ومنحوتة ” هندسة الروح ” وهي من الرخام بارتفاع ثلاثة أمتار وقد أنجزتها عام 1987 وكانت هدية الأردن لمعهد العالم العربي بباريس , ومنحوتة  ” دائرة الأيام السبعة ” وقد أنجزت عام 1986 وتعرض حاليا بجامعة العلوم والتكنولوجيا بشمال الأردن …وغيرها  من المنحوتات المهمة ..!!

أما بخصوص تجربتها الشعرية فيرى الناقد والروائي العربي  الراحل جبرا إبراهيم جبرا في تقديمه لديوانها الثاني ” محيط الحلم ” أن قصائدها تأتي ” ضربا من البرهان على مصداقية رؤيتها النحتية , غير أن قصائدها في الوقت نفسه إنما هي وثيقتها اللفظية تجاه تجربتها الآنية المضطربة دائما بالحلم الذي لا يبارحها , فهي إن تكتب كنحاته يسكنها هم تحريك الحجر وإشاعة الحس والنبض في كل جزء منه فإنها تكتب أيضا كشاعرة يسكنها هم الكلمة التي تجوهر ذلك الحب القصي في الدواخل الذي يحاول أن يدانيه تعبيرا ما تنحت من هذا الحجر ..” .

 

ولعل السؤال الذي يمكن أن يستهل به من يحاور السعودي هو عن علاقتها بالنحت كيف تشكلت منذ طفولتها في عمان على ضفاف السيل ووسط الآثار الرومانية الكثيرة , وهي تجيب عن ذلك بقولها :

حوار مع النحاته الاردنية منى السعودي وذلك في معرضها في مجمع السركال في دبي , 24 مايو 2015 . تصوير يونس يونس

 

 –  فتنتني المنحوتات منذ طفولتي , أول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني , كان ملعب طفولتنا أما بيتنا فكان جزءا من الموقع الأثري المسمى سبيل الحوريات , الذي كان يشكل بأعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية  , وهكذا عشت طفولتي بين هذه الحجارة المنحوتة مسحورة بجمالها , وديمومتها , وبدأت أحلم أن أصبح نحاته أي صانعة أشكال ,وكان حظي أن أذهب إلى المدرسة البعيدة عن البيت مشيا وقد أتاح لي ذلك أن أمشي عبر الطرق الترابية التي تصعد جبال عمان اللولبية , وهذا المشي ولد عندي صداقة مع الأرض والشجر والحجر والناس والطبيعة وهو مسافة للحلم والتأمل ,  وبدأت أتأمل جسد الأرض وتداخل الجبال والوديان وسقوط الظلال على ثنيات التلال , وفي ذلك الوقت البعيد بدأت أصنع أشكالا من الجبس , أرسم وأتأمل كتب الفن أيضا , كما عملت لبضعة أشهر في محترف الفنان مهنا الدرة , وكان قد عاد إلى عمان بعد دراسة الرسم في إيطاليا إلا أن الألوان الزيتية والقماش لم تستهويني , وكانت عمان مدينة صغيرة محددة الأبعاد الثقافية , وفي الصيف كان كمال بلاطة والذي أعتبره من أصدقاء العمر  يأتي لعرض         رسومه في المراكز الثقافية الأجنبية في عمان , وكان طالبا في روما في ذلك الوقت  .., ولقد بدأت أخطط وأحلم بالسفر إلى العالم الكبير من أجل أن أعيش وأتعلم وأرى وأعرف….!!

 – ولكن ماذا عن بيروت المدينة والارتحال المبكر إليها  ؟

–         بيروت كانت محطتي الأولى عام 1963 حيث أنهيت دراستي الثانوية في إحدى مدارسها , وكان لي فيها أول لقاء مع النحت الحديث بالتعرف إلى أعمال النحات ميشيل بصبوص في قرية راشانا , وأقمت أول معرض لرسوماتي في مقهى ( الصحافة ) والذي كان يشكل منتديا ثقافيا في الطابق الأرضي من مبنى جريدة النهار , وفي بيروت المتميزة دائما بحيويتها الثقافية تعرفت على العديد من الفنانين والكتاب والشعراء ومنهم أصدقاء العمر : أدونيس , بول غيراغوسيان , حليم جرداق , ونزيه خاطر وكنت بالنسبة إليهم الأردنية الآتية من الصحراء..!!

عشت في بيروت منذ العام 1969حيث أخذت منحوتاتي تنمو بعفوية , وتركت نفسي تبلور أسلوبها ولغتها التشكيلية عبر العمل , وأنا مدينة دائما للكتاب والنقاد في لبنان الذين اهتموا وكتبوا عن أعمالي , ولم تقتصر كتاباتهم في إضاءة عملي بالنسبة للقراءة فقط بل شكلت لي أحيانا نقاط تأمل وكشف أعيد عبره قراءة أعمالي , ومن هؤلاء أخص خالدة سعيد , وسمير صايغ ونزيه خاطر وجوزيف طراب ومها سلطان وغيرهم .

 

–         ولكن ما الذي يعنيه لك النحت أولا ولماذا اخترت العمل على الصخر والحجر بالذات دون غيره من المواد ..؟؟

 

 –         منذ  البدايات حينما  كنت تلميذة في باريس أشتغل بالحجر , وتجربتي بمواد أخرى قليلة جدا لأنني أجد الحجر المادة الأولى في الأرض , فيه غنى هائل وتنوع كبير وعالم لا محدود , ولهذا السبب اقتصر عمري على صداقة الحجر , بصلاباته المتنوعة وألوانه المتعددة ( الأسود , الأصفر , الأبيض , الأحمر ,…), وعادة ما تكون علاقتي معه عفوية فأنا لا أجبر نفسي على العمل بمادة ثانية , وبما أنه هناك إحساس داخلي بجمال التعامل مع الحجر فأنا لا أفكر بالانتقال لمواد ثانية , وكلما لمست الحجر وبدأت العمل به أحس كأن هذا الأمر يحدث للمرة الأولى فهو مادة حيوية لها تشكلاتها الدائمة , وإذا رغبت في يوم من الأيام في العمل بمواد أخرى فكل الاحتمالات مفتوحة أمامي , وكما تعرف هناك منحوتات بمواد صناعية عمرها قصير حيث تذهب إلى المهملات بعد ذلك و  بعكس الحجر الذي يبقى طويلا ويعمر . أنا لدي روحانية للعمل فالمواد هي من الطبيعة وعبر علاقتي بالحجر أشعر بانتمائي للأرض والإنسان بمعنى شمولي فهي أرض واحدة وثمة إنسان واحد أيضا ..!!

وأنا أرى أنه ليكون المرء نحاتا ينبغي عليه أن يكون لديه إيمان , ولا أقصد هنا الإيمان الديني ولكن الإيمان الذي يجعلك تهب نفسك صافيا لهذا العمل , وما يحيط به من جهد وصعوبات عملية وتحديات لمدة ساعات طويلة وأيام وأشهر لتحقيق منحوتة ما ,ويتطلب العمل أيضا العزلة والسفر إلى الداخل ..المنحوتة تلد الأخرى , وعناصر اللغة التكوينية تتكرر وتتغير وتتبادل المواقع , وتنتقل من حجر أبيض إلى حجر أسود أو أصفر , مأخوذا باكتشاف الأشكال وصياغة النبض الحي , وكأن النحت تجسيد للسر والغموض , كأنه جسد للشعر والروح ..وهو سفر في اللامرئي …!!

 –         لاحظت أنك ترسمين وتلونين بمواد مختلفة , وتكتبين الشعر , وأيضا تنحتين من مواد مختلفة لكن الحجر هو الأساس ماذا عن هذا التنوع عندك ؟

 –          أستعمل الرسم بالحبر الصيني والخط بشكل أساسي وهو امتداد للأشكال النحتية عبر التلوين , وقد بدا واضحا من إحدى تجاربي أنها تقريبا تشبه منحوتاتي , ولهذا خفت من الوقوع في السهولة , وكما تعلم فإن الرسم متطلباته قليلة وميسرة قياسا للنحت الذي ينتمي إلى الأشغال الشاقة الجميلة , وقد توقفت عن التلوين ودخلت في عمل مجموعة من المنحوتات, وأنا متعلقة جدا بما هو مجسد فالنحت خلق كائن حي , والرسم عل الورق هو خلق على الورق فقط , وطالما لدي القدرة الجسدية على المضي بمشواري في النحت فسأستمر لأني أحس في هذا العمل  خلقا من نوع  خاص , وأحيانا أتوقف عن النحت وأذهب إلى الورق وقد عملت معرضا في الرباط العام 2000 لمجموعة الأكريليك التي أنجزتها .وعادة ما تكون معارضي التي أقيمها  مختلطة مابين التشكيل والنحت لأعمالي .

 من جهة أخرى رسمت قصائد لأدونيس منها ديوانه ” مفرد بصيغة الجمع ” عام 1975 وسحبنا منها مائة نسخة , ومجموعة أدونيس بعنوان ” رقيم البتراء ” بحجم كبير حيث أنجزنا خمسين نسخة خاصة , كما عملت  رسومات لقصائد الشعراء  راشد حسين , ومعين بسيسو , ومحمود درويش , وعندي شعور عميق بأن العمل الفني النحتي تجسيد للشعر وامتداد له وإلى حد ما عملي في الرسم والنحت يأتي من خلفية شعرية ..!!

 – ماذا عن بعض الإشارات أو المفردات الخاصة بأعمالك مثل الدائرة والكرة ..هل ثمة ما يمكن أن تبوحي به بشأنها ..؟

 –         لا أحب أن أفلسف الأشياء , فكل واحد يمتهن العمل الفني لديه مفرداته الخاصة في عمله فالخطوط الدائرية  والتلاقي مع الخطوط المستقيمة هي جزء من مفرداتي والذي يلخص تماما تجربتي هي كلمة ” التكوين ” وهي من الكينونة , فالعمل الفني في داخله حركة مستمرة وآخر شيء أعمل عليه هو فكرة الماء , فقد أنجزت فيما مضى منحوتات تحت عنوان ” ينبوع ” وأعمل حاليا على منحوتة” سيدة الماء ” حيث فكرة شفافية المياه واستمرارية انسيابها , وسأرسل مجموع منها إلى بينالي القاهرة , واكتشفت هذه السنة أن الأمم المتحدة أطلقوا على عام 2003 اسم ” سنة الماء ” وأفكر دوما بالآية الكريمة ” وخلقنا من الماء كل شيء حي ” كما أفكر بالآية التي تتحدث عن الحجارة التي منها ما يخرج منه الماء ومنها ما يسجد من خشية الله   , وهذا ما يرسخ قناعتي بأن الحجارة كائنات حية …‍‍

 –         هل أضاء النقد الفني العربي تجربتك النحتية وحللها كما يليق بها أم لم ينتبه إليها جيدا ؟؟

 –         النقد عبارة عن وجهات نظر متعددة , والعمل الفني النحتي عبارة عن نص مفتوح ومن الناس الذين أحببت كتابتهم عني  خالدة سعيد في تقديم أحد معارضي إذ دخلت عميقا إلى الأعمال لفهمها القوي لها , ونصوص سمير الصايغ , وجوزيف طراب ونزيه خاطر , وأعتبر أن الذي كتبه ميشيل بوتور الفرنسي مهم جدا حيث أخذ الحياة الداخلية في منحوتاتي وكتب عليها النص الشعري , والنقد عبارة عن إضاءة للعمل الفني . النقد ليست مشكلتي في النهاية , ولا يشغلني إلا استمراري في عملي الفني ولا أهتم للنقد أو النقاد , ولكن هناك احترام كبير للناس الذين أضاءوا هذه التجربة الفنية , وأفكر في المستقبل بإنجاز كتاب يربط سيرتي الحياتية بمنحوتاتي , فلكل منحوتة قصة منذ العثور على الحجر الخام إلى التحول إلى شكل  جمالي , وأذكر أيضا  كل التاريخ المحيط بها عالميا .

 – أخيرا نعرف بأنه سيتم تكريمك قريبا في بينالي القاهرة الدولي التاسع فماذا عن هذا اللقاء وما أعددت له ؟؟

  – أحب أن أقرأ لك شيئا من شهادة قصيرة كتبتها لهذا اللقاء الهام عندي ,وربما تجيب على تساؤلاتك : أن تكون فنانا في هذا العصر هو أن تكون ضميرا للتاريخ الإنساني , وأن تواصل المسيرة الانسانية المبدعة والتي أوجدت على الأرض كل الفنون وكل العلوم وكل الآلهة …., تصلني دعوة من القاهرة للمشاركة كضيفة شرف في البينالي التاسع وأكون مستغرقة في عمل مجموعة من منحوتات عن الماء / النهر / الجريان , وأقول أني سأهدي القاهرة واحدا منها أسميه النيل , أو مسلة النيل , وهو أول جريان ماء سحرني في سنوات الحلم الأولى….. , وكنت أريد أن تكون منحوتة ” النيل ” بارتفاع بضعة أمتار , ولكن من أين لي الإمكانيات لعمل بهذا الحجم , سأبقي هذا الحلم حيا في مخيلتي ,ولا بد أن يتحول إلى حقيقة ..أليست حياة الفنان سلسلة أحلام تتحقق …, وربما أضيف إلى النيل طائرا نورسا من الرخام الأبيض , يكون بمثابة الروح التي نبحث عن سرها ..أليس الفن هو بحث في الأسرار , وأنا التي تعلمت التجسيد لأدخل في الغيب , وسكنت بين مدارات الحلم ومدارات الفعل ..!!

 

* نشر الحوار في القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *