إبراهيم العريس
يعتبر الرقم الواحد والعشرون عادة إشارة إلى الوصول إلى سن الرشد. وفيلم «خرائط إلى النجوم» هو الفيلم الذي يحمل هذا الرقم في فيلموغرافيا المخرج الكندي دافيد كروننبرغ. أنجزه قبل شهور قليلة وعرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» السينمائي آملاً من خلاله في أن يحصل على السعفة الذهبية. لم يحصل الفيلم على السعفة، لكنه في المقابل مكّن بطلته جوليان مور من أن تجد أخيراً طريقها إلى الاعتراف العالمي بقدرتها الفنية الهائلة… ولكن في دور كان يصعب بالتأكيد على أية نجمة كبيرة أخرى أن تؤديه من دون تردد. فالمعروف منذ استنكاف كبيرات هوليوود في سنوات الأربعين عن القبول بأداء دور البطولة في فيلم بيلي وايلدر «سانست بوليفار»، أن النجمات لا يستطبن القيام بدور نجمة غاربة في فيلم من هذا النوع. أي في فيلم ينتمي إلى السينما التي تتخذ من السينما ونجومها موضوعاً لها، لا سيما إذا كان موضوع الفيلم قاسياً. وموضوع «خرائط إلى النجوم» قاس بالتأكيد، والدور الذي لعبته مور فيه أكثر قسوة بكثير أيضاً. فهو ليس فقط دور نجمة لا تكاد تجد الآن دوراً أو مكاناً في هوليوود، بل نجمة تُقتل في النهاية بطريقة وحشية وفي مشهد قد يذهب فيه تعاطف المتفرج نحو القاتلة أكثر مما يذهب نحو القتيلة. وذلك بالتحديد لأن الفيلم يكاد يقول لنا إن القاتلة والقتيلة سواء بسواء جلادتان وضحيتان. وأكثر من هذا: بيدق بين أصابع مصنع الأحلام الهوليوودي القاتل.
ومع هذا، لا بد من الإشارة هنا إلى أن توجيه الاتهام لا يصل إلى هذا الحد من التوضيح. فكما الحال دائماً في سينما دافيد كروننبرغ – راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة – تُترك الأحكام هنا معلقة بعض الشيء في التباس خلاق يعرف مخرج «سبايدر» و «تاريخ من العنف» كيف يغذيه في كل لقطة ومشهد.
عالم من القسوة
وكما بات القارئ الذي لم يقيّض له مشاهدة الفيلم بعد، يعرف، تدور أحداث «خرائط إلى النجوم» في هوليوود الزمن الراهن حيث في الخلفية تصوير وإشارات إلى ما لا يقل عن ثلاثة أفلام تصوّر أو تحضّر أو تدور مجريات الأحداث حولها. وللأفلام علاقة بالشخصيات التي ستُقدّم إلينا ونتعرف إليها تباعاً. وهذه الشخصيات، على تنوعها وتفاوت حجمها في الفيلم، تبدو كأنها نماذج متكاملة لسكان ذلك الكوكب الهوليوودي الذي يظهر كأنه على حدة في مسار هذا العالم، من النجمة التي تصارع للحصول على دور، لا سيما على دور كانت أمها لعبته هو نفسه قبل عقود، إلى الصبي النجم الذي وهو بعد في الثالثة عشرة يصوّر لنا «مأساة» الطفولة حين تفسدها النجومية المبكرة، أخلاقياً، مروراً بشخصيات عدة تكاد تكون نمطية، لا سيما في مجال استخدامه فضح الأسطورة التي تصنعها وتُصنَع بها. مع هذا، فإن مدخلنا إلى الفيلم سيبدو أول الأمر آتياً من عالم مختلف: إنها فتاة في أواخر سنوات مراهقتها تأتي من فلوريدا لتبدو لنا أول الأمر كأنها من أولئك الباحثات عن الشهرة والمكانة في هوليوود… لكن هذا المظهر الخادع سرعان ما يتكشف تدريجاً عما هو تحت الظاهر. تماماً كما أن الفيلم برمته يريد أن يقول لنا في نهاية الأمر إن الباطن هنا غير الظاهر على الإطلاق… بل هو نقيضه تماماً.
صحيح أن الفتاة التي تعرّفنا إليها أول الأمر لدى وصولها إلى مدينة السحر، هي التي تقود خطانا بين مختلف العوالم الهوليوودية، لكنها تفعل هذا من دون أن تكون هي نفسها متطلعة لأن تصبح جزءاً من هذا العالم الهوليوودي الذي سنكتشف بالتدريج قسوته تماماً كما سنكتشف زيفه… وهذه القسوة التي تشكل دائماً جزءاً أساسياً من سينما كروننبرغ، سنكتشف حضورها وفي شكل خاص لدى الشخصيات التي ستلوح لنا أول الأمر الأكثر وداعةً ومسالمة في هذا العالم الخلاب: ولن نكشف سراً لمن يريد أن يشاهد الفيلم، إذ نقول منذ الآن إن تلك الفتاة الوديعة الباحثة عن عمل بسيط في هوليوود الصاخبة هي نفسها التي ستتمخض – مع النجم الطفل الذي سنعرف لاحقاً أنه أخوها من أب وأم شقيقين – عن أقصى درجات القسوة وربما الشر أيضاً – هذا إذا شئنا أن ننظر إلى الفيلم في ضوء ثنائية الخير والشرّ، مع علمنا أن هذا في حد ذاته ليس ضرورياً … فالحال أننا بمقدار ما نواكب الصبية في «رحلتها الهوليوودية» منذ لقائها مع السائق الشاب المكلف التنقل بها، وصولاً إلى انكشاف حقيقتها وأنها ليست الملاك التي كنا نعتقد، ولكن – ولنقلها هنا مرة أخرى – من دون أن تكون كذلك الشيطان الذي يمكن أن نتصوّر، ستتكشف لنا ملامح الحياة الهوليوودية، من تزاحم النجوم والنجمات للحصول على الأدوار مهما كان الثمن، إلى الصفقات التي تتم خلف الجدران السمكية، إلى الفضائح الجنسية التي تكمن خلف التزاحم والصفقات، إلى الانهيارات العصبية وكميات المهدئات والمخدرات التي تُبتلع، إلى الكيفية التي يتحول بها الصغار وحوشاً، وصولاً إلى ممارسات سفاح القربى التي يقدمها لنا كروننبرغ هنا في بعدها الرمزي الأسطوري لا في بعدها الأخلاقي، مستنداً في هذا – في تصريحاته حول الفيلم، على الأقل – إلى الممارسات من هذا النوع في أوساط الفراعنة المصريين كوسيلة للحفاظ على نقاء العرق، ما أدى في نهاية الأمر إلى فناء سلالات بأكملها.
لا درس ولا موعظة
طبعاً، لا يريد كروننبرغ أن يخلص من هذا إلى موعظة أو درس في الأخلاق من أي نوع كان، فهو في نهاية الأمر إنما يريد أن يصور حكاية عن عالم دائماً ما كان يفتنه، ويثير لديه من الأسئلة ما يقلقه… فهل تراه هنا تمكن من العثور على إجابات ربما كان يتوخاها؟
ليس هذا مؤكداً. وربما نقول هنا إن دافيد كروننبرغ هو من طينة أولئك المبدعين الذين يعرفون أن دور الفن ليس العثور على أجوبة قاطعة، بل طرح الأسئلة الصحيحة. ومن المؤكد أنه عرف هذه المرة أيضا كيف يطرح أسئلته. والفيلم يبدو متميزاً من خلال وجهة النظر هذه. أما المشكلة الأساس مع هذا الفيلم فتكمن، كما يخيل إلينا، في أن مخرجه الذي اعتاد الاشتغال مع عدد محدود من الشخصيات الرئيسية في أفلامه، آثر هنا انطلاقاً من سيناريو وجده متميزاً من كتابة بروس فاغنر، أن يشتغل على عمل يحمل الكثير من الشخصيات، بالتالي يتيح طرح عدد أكبر من اللازم من الأسئلة، بحيث أتى النسيج مفرطاً في تشابكه ناهيك بأن الأحداث أتت شديدة التلاحق، والخبطات المسرحية مترابطة. طبعاً، لا نقول إن هذا خلق تشوشاً في الفيلم، لكنه حمّله أكثر مما كان من شأنه أن يحمل… لكننا في المقابل لن نرى أن الفيلم أخفق في إيصال متفرجه إلى حيث أراده أن يصل وسط أشباح ودماء وميلودرامات وفضائح… لقد أوصله بالتأكيد، لكنه أوصله منهكاً آملاً في أن ينتهي كل هذا من دون أن يضطر إلى مغادرة الصالة قبل كلمة «النهاية». ففي فيلم لدافيد كروننبرغ لا يغادر أحد الصالة قبل كلمة «النهاية» مهما تأخرت وبدت صعبة المنال – كحروف اسم هوليوود في خلفية المشهد كله – أو عصية على الإقناع بضرورة وجودها، كقصيدة بول إيلوار «يا حرية» التي ترددها شخصيات الفيلم بين الحين والآخر من دون مبرر ظاهر!
* الحياة