(ثقافات)
من قصص الأرشيف: 23
من حكاياتي: مع شعب الريح والنار
بين الخرابيش لا عبد ولا أمة …… ولا أرقّاء في أزياء أحرار
*سهير سلطي التل
عرفتهم بداية من كتاب البدوي الملثم (عشيات وادي اليابس) وكان أول جهد منظم لجمع أشعار عرار وسيرته، كنت ابحث عن عرار في هذا الكتاب، بعدما سمعته من والدي، هناك التقيت برموز عرار من النَوّر (سعيد باشا شيخهم ) و (الهبر صعلوكهم ) و(هنيّة جميلتهم) وفهمت بمساعدة والدي ( عاشق النور الثاني) كما يحلو لي ان أسميه، طبيعة هذا المجتمع اللا طبقي، الحر المنطلق في الآفاق الرحبة للحياة، راكضا وراء الشمس، لكن علاقتي بهم حتى ذلك الوقت لم تخرج عن اطار القراءة والبحث، وما يحدثني به الوالد عنهم، فعلى الرغم من إقامتي في بلغراد لفتره من الزمن، إلا أنني لم التق بهم، بإستثناء قله ممن يغنون في المقاهي، وقد وقفت اللغة حاجزا دون محاورتهم، والتعرف اليهم…..
كنت أتوق لمعرفة اعمق، معرفه شخصية، تقوم على معايشتهم، أجلس معهم في خرابيشهم، أطرب لأغانيهم، أداعب أطفالهم، وأنتظر معهم شروق شمسهم ، لكن الحياة أخذتني بعيدا، حتى كان اليوم الذي التقيت به بأول (نوري) وقد جاء لزيارة والدي، لم أصدق وانا أشهد ترحيب أمي به، أنه واحد من أبناء الخرابيش، فإنتهزت فرصة غياب الوالد، لأجالسه، وأمطره بوابل من الأسئلة، والشاب خجل يتصبب عرقا، وقد فوجئ بلهفتي ورغبتي بمعرفة التفاصيل، فإضطرت أمي التي لم تستطع إسكاتي، الى ممازحته بقولها: أنها صحفيّة وتعشق طرح الأسئلة، كان ينادي امي (يختي يم سهير) بتهذيب وخجل يجيب اسئلتي، عرفت أن اسمه (عارف العقلة النوري) تنفس الصعداء عندما حضر والدي…..
عرفت يومها انه جاء لدعوة والدي الى حفل يقام في مضاربهم بمناسبة (طهور إبن شيخهم) ولأنه لمح حجم الحاحي على معرفتهم، طلب من والدي إحضارنا انا وامي الى حفلهم، مرددا اختي ام سهير واختي سهير، مع وعد بإجلاسنا في (خربوش) بعيد عن عيون الفضوليين، وعده الوالد خيرا، مع نيّة مبيّته بالرفض، إلتقطتها بعدما غادر، فتوسلت بكل ما تملكه الإبنة من وسائل ضغط، إلا انه إستمر برفضه قائلا (بدك تحرجيني، المعازيم كثار ولا أحد سيستوعب وجودك هناك) وبعد الياس من قبول الوالد (عاشق النور الثاني) أعملت شقاوتي المعتادة، وبطريقة ما وصلت الى مضاربهم، إستقبلني عارف بحفاوة، ووفى وعده، وضعني مع زوجته بخربوش بعيد، لأعيش ولأول مرة ليالي عرار ووالدي، وأعرف معنى أن ترافق النور، بكل ما عندهم من جمال وفرح وتلقائية، وليصبح عارف بعدها دليلي في هذا العالم المفتوح على الحياة……
لا أعرف كيف أصف هذه الليلة، الطرب، الدهشة، مقاومة الرغبة العارمة بالرقص، القهر وانا أراقب والدي وأصدقائه من بعيد، يتمايلون مع صوت سعاد وأنين ربابة عارف، مع حذري من الإقتراب، كانت ليلة اسطورية وقررت ان تتكرر…..
إنتظمت زياراتي لهم في أماكن تواجدهم بالقرب من عمان، هناك بدأت التعرف إليهم عن كثب..
حاولت تعلم لغتهم وكانت (سعاد زوجة عارف وهي حفيدة هنيّة) تدلني على معاني بعض الكلمات، وذات مرة أخرجت ورقة وقلما لأكتب ما تقول، فلمحتني عجوز، وجن جنونها، فمن أساطيرهم أن الكتابة تجلب الشر، فهاجت وماجت، وكادت ان تضربني، لولا سعاد التي تلقت عني الضربات وشد الشعر، ولم تهدأ حتى أفرغت ما في حقيبتي من أوراق قامت بتمزيقها ورمي قصاصاتها بالنار، وهي تمتم بأدعية خاصة لطرد الشر كما فهمت لاحقا…..
التقيت ببعض شيوخهم، وحضرت بعض مجالسهم، وبالطبع لم افهم شيئا، فهم يتحدثون بينهم بلغتهم الخاصة، لكني عرفت منهم فيما بعد، ان الرذيلة الكبرى في مجتمعاتهم، الحنث باليمين، وشهادة الزور، وعقوبتها الطرد من القبيلة، وهي عقوبة كالإعدام بالنسبة للغجري….
حضرت ولادة إبن لعارف، كنا محاطات بالعجائز، تناولت الوليد واحدة منهن واعطته لأمة، حضنته، وهمست بأذنه، وسط تمتمات العجائز، ظننت انها تكبّر، عارف أخبرني أنها طقوس منحه إسمه الغجري، الذي لن يعرفه غيرها……وسيكون اسمه الشائع محمد….
طلبت من إحدى العجائز منحي إسما غجريا ربتت على كتفي وهمست كبرت يا إبنتي كان يجب ان تولدي بيننا .
قرأت النسوة طالعي وقلن أنني منذورة للتعب…..
التقيت بهنيّة جميلات الجميلات، التي كتب لها ومعها (عرار) أجمل القصائد…..وكانت عجوزا تقارب التسعين، لكن الجمال الغجري الأخاذ، لم يغادر قسمات وجهها المتغضن، كذلك لم تغادرها ملامح القوة والزعامة فهي بنت سعيد باشا زعيمهم، بالرغم من العمر لم تذهب رنة الصوت الحزين، عانقتني بلهفة عندما علمت أنني إبنة اخ (عرار) حدثتني طويلا عن شرفه وكبريائه ونصرته للمظلومين، وتأست للظلم الذي حل به….
قرات عنهم وقابلت ما قراته بواقعهم الذي عشت بعض ملامحة، وفهمت الى حد ما سيرورات هذا المجتمع الذي بدا لي في لحظة ما، انه آخذ بالاستسلام لطغيان المدينة، فقد سكنوا البيوت الإسمنتية، وتعلموا، وحصلوا على الجنسية بمواطنتها المنقوصة لهم ولغيرهم، لكن الخربوش سيد الساحه فهو منصوب دائما، وفيه عرفت انهم ومع كل التحولات الظاهرة، انهم سيظلون شعب الريح والنار، يلهبون الخيال بأساطيرهم وهم يمضون وراء الشمس بلا مبالاة……
منهم تعلمت الكثير
منهم عرفت:
أن المدينة غول…… وإبنها كائن ملوث
وأن الرحيل خلاص….. والسير وراء الشمس حياة
أن الشجن صوت الاعماق المنسيّة ……والرقص مجد الحياة
تعلمت الكثير لاظل اردد مع سعاد حفيدة (هنيّة)
ملعون بيك سجن ومن حدد بوابك….. أخذو حبيب القلب وسكروا بابه