(ثقافات)
«محمد القاضي» في رواية مشتركة مع «آمال مختار»: حدث ثقافيّ أم نزوة أدبية عابرة؟
بقلم:كمال الشيحاوي
لا أستطيع أن أنكر أنّني وقعت كغيري من قرّاء الأدب التونسي في إغراء حبّ الاطلاع على ملامح هذه التجربة الرّوائية الطريفة التي جمعت كلاّ من الأديبة «آمال مختار» والجامعي الباحث «محمد القاضي» في الرّواية التي حملت امضاءهما المشترك «أنوات» والصادرة أواخر سنة 2018 في مائة وأربعين صفحة تقريبا عن دار محمد علي الحامي. وقد تدافعت في ذهني أسئلة عديدة قبل تصفّحها، من أهمّه. هل يمكن أن تكتب الرواية بأسلوبين وعالمين ورؤيتين مختلفتين للعالم والشخصيات؟ وهل يفترض أن تحتفظ الرّواية بعناصر الاختلاف بين الكاتبين أم تسعى لضرب من التسوية بينهما؟ ثمّ ما الذي دفع «آمال مختار» وهي القاصّة والروائية لأن تبحث لها عن شريك في كتابة هذه الرّواية من غير كتّاب هذا الجنس من الأدب؟ ثمّ ما الدّاعي إلى هذه الكتابة الثنائية خصوصا وأنّ ما عرف من تجارب الكتابة الروائية المشتركة كان في الغالب مغامرات ونزوات تجريبية عابرة في مدوّنة الأدب العربي؟ (نذكر في ذلك رواية جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمان منيف المشتركة «عالم بلا خرائط» والتي لم تقدّم شيئا يذكر لتجربة كلّ واحد منهما). وما الذي دفع «القاضي» المعروف بدراساته وبحوثه الأكاديمية القيّمة للمغامرة بوضع اسمه في عمل أدبي روائي محفوف بكل عناصر المغامرة والمخاطرة؟ ومع كلّ ذلك ما المانع في المغامرة وما المانع في المحاولة؟ وهل ثمّة حدود للمغامرة الابداعية الحرّة؟ ولعلّ الثنائي آمال مختار ومحمد القاضي ينجحان فيما فشل فيه غيرهما ويحقّقان السبق والتألقّ؟
تنتمي رواية «أنوات» فنّيا إلى ما يعرف بالرواية «الرسائلية» le roman épistolair، وهي نمط من الكتابة الروائية ظهر في القرن التاسع عشر. ومن أشهر كتّابه الفرنسي «ديلاكروا» في روايته الرّائدة في هذا النمط «العلاقات الخطرة». وقد ظهر في بداية القرن الحادي والعشرين نوع يشابه نمط الرواية الرسائلية في القواعد ويختلف عنه في طرق التواصل. ويكمن العامل الأساسي في النوع الرسائلي في المنطقية والواقعية مع إعطاء القارئ شعور الانتماء للشخصيات وإمكانية وضع نفسه داخل القصة، ما يجعل هذا النوع يقترب من النوع المسرحي. وباعتبار الشكل الواضح و«الرتيب» للرواية الرّسائلية فإنّها بحاجة، حسب تقدير الكثير من النقاد، إلى إقناع قارئها بمتابعتها بما يتوفّر في الرّسائل المتبادلة من قوّة تعبيرية عالية تظهر ما يمتلكه السارد من قدرات مميّزة في الوصف والاستبطان النفسي للشخصيات والاستطراد والخطاب «المباشر» الذي يخلق أدبيته من انشائية تفاصيله وأدبية تعبيره.
تتكوّن الرواية من مجموعة الرّسائل المتبادلة بين رجل يدعى «آدم» وامرأة تدعى «إليسا»، غير أنّه بسبب مشاكل اضطراب الذاكرة الذي أصاب «آدم» بعد حادث مرور يطلق على المرأة التي يراسلها في كلّ مرة اسما مختلفا ومن هذه الأسماء «بتول» و«ماريان» و«جلنار». والتيمة الرئيسية للرّسائل المتبادلة بين «آدم» و«إليسا» هي قصّة الحبّ التي جمعت بينهما.
وبقدر ما تفيض الرّسائل بصور الغرام والعشق والشوق المتبادل واستحضار اللّقاءات والجلسات الحميمة التي جمعتهما منذ تعارفهما في مدينة «ليون» بفرنسا كانت المعلومات والمعطيات الموضوعية والواقعية قليلة جدّا، فبالكاد نعرف أنه شاعر وأنّه كان متزوّجا بـ«ماريان» في فرنسا وقد عمل بمجال النشر في تونس واضطر الى التوقّف عن هذه المهنة بسبب صعوبات مادّية وبالكاد نعرف أنّها ممثّلة مسرحية هاوية باتت منقطعة في عزلتها البحرية بقرية «غار الملح» بتونس. وباستثناء ذلك لا نكاد نعرف غير قصّة هيامهما وما يستحضرانه من جلسات ورحلات لا نكاد نعرف أحيانا إن كانت واقعية أم متخيّلة. ويجعلنا هذا الاختيار أمام رواية رسائلية تسعى لتكون «شعرية» بامتياز، بمعنى أنّها تحصر أدبيتها بشكل رئيسي وجوهري ممّا ستعبّر عنه من قدرة على صياغة قصّة حبّ مميّزة، فإلى أي مدى نجحت في ذلك؟
من المعلوم أن تخصيص كلّ هذه المساحة من الصفحات لرواية قصّة حبّ يجعل الكاتبين أمام رهان صعب، وهو التعبير عن قصّة حب مدهشة أدبيا. وتقديرنا الشخصي أنّهما كانا دون ما هو متوقّع منهما بكثير. ولا يعود الأمر للمضمون «المثالي» والبسيط لقصّة الحبّ هذه والتي لم تعرف تناقضات ولا تحوّلات درامية تزيد في عناصر الإثارة الانسانية فيها كما هو معروف في قصص الحبّ المثيرة في الأدب وإنما لسطحية التناول الذي اقتصر على مناورات سردية مستهلكة من قبيل إضفاء الغموض والحيرة على علاقة «آدم» بـ«إليسا» حيث اختلطت عليه أسماء النساء اللّواتي عرفهن بسبب مرض اضطراب الذاكرة أو الإيحاء في ضرب من «التفلسف» السطحي بأن المهمّ هو صياغة معاني الحب وليس التأكد من صحة الأسماء أو حقيقة الأشخاص والمشاعر ذاتها هذا فضلا عمّا أصاب التعبير من وهن وضعف واطمئنان لما استهلك من صياغات وتعبيرات هي أقرب لأدب الصحافة السيّارة وأدب «كيف تكتب رسائل الحبّ؟» منها إلى الأدب القوي والرّفيع. ومن عناصر هذا المعجم المستهلك نذكر على سبيل المثال لا الحصر «رسائلي مضمّخة بعطر حنيني وشوقي»، ص 16 و«موسيقى عزفها توهّج عشقنا»، ص 23. و«أما رسائلك الجديدة فقد جعلتني أطير بجناحين من الفرحة والذكرى، ولكنّها وسّعت من كهف أحزاني..»، ص 23. و«هل عدت من صمتك لتزرع في أرض عزلتي الجرداء بذور الشكّ في حكاية عشقنا الفريدة؟» ص 40 و«في زمن المادّة هذا(؟؟؟) الذي يبيع فيه الولد أمّه من أجل المال»، ص47. و«حديقة حبّنا» ص،58. وبعض الصور المستهلكة من قبيل «ليس بيدي أن أقرّر. يبدو أن مركبي تتناوشه الرّياح ولا أدري إن كان سيرسي على شاطئ أم أنه سيؤول إلى الأعماق». ص 78.
لقد افتقدت هذه الرواية في تقديرنا لأهمّ العناصر التي تمكّنها من شدّ القارئ بقوّة جماليتها فركّزت على قصّة الحبّ وما يكتنفها من غموض دون أية استعانة بعناصر التشويق والإثارة المصاحبة عادة لمثل هذه الرّوايات ودون أن تبرز عناصر طرافة وأصالة وجدّة في مثل هذه التيمات الصعبة، لفرط استهلاكها بل أظهرت بمعجمها الفقير وصورها المستهلكة حجم التصنّع والسطحية في قصة حبّ غير مقنعة انسانيا وفنّيا خاصّة. وكثيرا ما كانت وقفاتها «الفلسفية» المزعومة سطحية جدّا حول العزلة والهوية الذّاتية والحقيقة والوهم (ص 27) وحول سؤال الكينونة، ص 86. وهي صياغات وآراء وأفكار انشائية متداولة وضعيفة.
ومع أن الشكل الرسائلي للرواية يسمح بإمكانية وجود كاتبين مختلفين في الأسلوب إلا أنّ أكثر ظنّنا أنها كتبت بأسلوب «آمال مختار» في معظم صفحاتها. وهو أسلوب في الكتابة ينزع في الغالب إلى البساطة والعفوية واستخدام الدّارج من الصيغ والأساليب الأدبية المستعملة ويميل أكثر إلى الاستبطان النفسي والاعترافات والخواطر «الصحفية» الذاتية، مفتقدا في كلّ ذلك إلى ما به يصنع عمقا وتفرّدا. وما جعلنا نميل إلى هذا الرأي أنّنا لم نعرف لمحمد القاضي في مؤلّفاته قصصا منشورة حتّى نعرف له أسلوبا نميّزه به.
لم تزد هذه الرواية في تقديرنا شيئا لمحمد القاضي فهو الباحث والجامعي القدير الذي لم يعرف له منشورات ابداعية في مسيرته الطويلة ولم تحدث هذه الرّواية في رصيد «آمال مختار» وتجربتها التحوّل والمفاجأة اللتين سعت إليهما باستثناء الجدل الذي يمكن أن تثيره حول الكتابة الثنائية ورهاناتها.
- عن الصحافة