الموت يعلن هدنة مع الحياة ( في رواية لخوزيه ساراماغو)


*تأليف: جيمز وود/ ترجمة : خضير اللامي


خاص ( ثقافات )
كتب الفيلسوف برنارد وليامز، بحثا أطلق عليه ، اسم : ” قضية مكروبولس ” جادل فيه أنَّ حياة بدون موت ستكون مضجرة لدرجة لا أحد يطيقها . 
وطبقا لهذا القول ، فإنّْ رتابة الحياة الأبدية ، ستكون صحراء لا متناهية من التجارب المكرورة. وستكون الذات ايضا مخصيّْة وفاقدة لأيّ طاقة فيها. وهذا ما دفع كارل بيك أنْ يكتب هذه المسرحية ” قضية مكروبولس ” التي استعار وليامز عنوان بحثه منها ، وركز بحثه على عمر شخصية المسرحية، الينا مكروبولس ، التي عاشت اكثر من 342 سنة ؛ بيد أنّْ اكسير الحياة الأبدي تلاشى بعد الثانية والأربعين من عمرها. وتقرر مكروبولس رفض هذه الحياة الأبدية ، وتضطر إلى استخدام الحِمْية الشديدة التي تؤدي بها إلى الموت البطيء . اذن ، الحياة تحتاج إلى الموت كي تنظم معنى تلك الحياة . ذلك ، أنّْ الموت هو الفترة السوداء الذي ينظم بناء الحياة . ورواية خوزيه ساراماغو ،” الموت مع المقاطعات ” Death With Interruptions التي ترجمتها الكاتبة البرتغالية مارغريت يول كوستا من الاسبانية إلى الانجليزية، تمتاز بجملها غير المتقطعة والطويلة ، والغريبة نسبيا في تلك الفترة.
وقد كتب ساراماغو الرواية التي تمتلك وظائف التجربة الفكرية في حقل كابيك/وليامز. ( مع أن الرواية لا تحمل تلميحا واضحا لأيّ منهما) اذ يَعْلن الموت في منتصف إحدى ليالِ رأس السنة الجديدة New Year’Eve ، هدنته مع الحياة، وفي بلد غير معروف ، يبلغ عدد سكانه عشرة ملايين نسمة ، ليعطي الناس فكرة ماذا يعني أنْ يعيشوا حياة أبدية! وبالطبع شعر الناس بفرح غامر في بداية الأمر ..
وعاشوا حتى تلك الايام ، المضطربة ،التي تخيّلوها ، والتي بدت لهم هي الأفضل ، والأفضل في عالم محتمل ومتوقع. اكتشفوا ذلك والبهجة والسرور يغمرانهم ، أنّْ هذا يحدث هنا ، ويحدث هنالك ، ويحدث قريبا منهم . حياة فريدة ومدهشة وبلا خوف : إنّْ هذا الخلود في الحياة يمنحنا وجودنا ، ويمنح الأمن والحرية لكل إنسان هنا، ويجنبنا المشاكل الميتافيزيقية ، دون وصايا مختومة بالشمع الأحمر، تُفتح في ساعة موتنا . ولا نسمع اخبار مفترق الطرق ، حيث الأعزّاء الذين يسكنون في ما يسمى الأرض ، يذرفون الدموع وهم يرحلون باتجاهات مختلفة ، إلى العالم الآخر . أنت إلى الجنة حيث النعيم، وأنت إلى صراط المستقيم تسير، وأنت تهبط إلى الجحيم وبئس المصير . 
بيد أن الصعوبة الأكبر – ميتافيزيقيا ، سياسيا ، براغماتيا— هي العودة المفاجئة للأرض . وأول مؤسسة تشعر بالخطر من حياة بلا موت ،هي الكنيسة الكاثوليكية. يبدأ الكاردينال برفع سماعة الهاتف ويتحدث مع رئيس الوزراء، ليوضح له:” بدون الموت ليس ثمة يوم للقيامة ، وبدون يوم للقيامة ليس ثمة كنيسة”، فضلا عن ذلك ، يعتقد الكاردينال أنّ الحياة بدون الموت ، هي إلغاء للذات الإنسانية. وفي الوقت ذاته ، اتفق مجموعة من الفلاسفة والإكليركيين على ” أنَّ الدين لا يستغني عن الموت أبدا ، أنه كحاجتنا إلى الماء والغذاء .” والحياة بلا موت كالحياة بلا إله . وقال أحد رجال الكنيسة : إذا لم تمت الإنسانية ، فإنّ كل شيء سيكون مباحا.
وعبَّر دستويفيسكي عن مخاوفه في احدى رواياته ، “أنَّ العيش من دون إله ؛ فإنّ كل شيء سيكون مباحًا أيضًا ” وعبَّر أحد الفلاسفة بعمق ، كما ساراماغو العلماني الذي أوحى بوضوح أنَّ الموت هو الوسيلة الوحيدة بيد الإله الذي بواسطتها يستطيع أنْ يحرث بها الطرق التي تؤدي إلى مملكته . ودون شك ، أنّْ هذه القصة المقدسة تنتهي حتما إلى مأزق كبير في الحياة . والبلد الذي لا يموت فيه أحد ، سيتحول حتما إلى حديقة حيوانات مالثوسية : ” روبرت مالثوس ،( 1766-1834 ) صاحب نظرية السكان التي تقول ، كلما زاد عدد السكان في العالم ؛ كلما زاد الفقر ، والمرض ، والجوع ، والجشع – المترجم . “
والناس الذين وصلوا إلى أرذل العمر في حياتهم ، في منتصف ليلة رأس السنة ، ووصلوا على شفا حفرة من الموت ، سيبقون على تلك الحافة . وسينجمدون بطريقة عبثية . أما الدفانون الذين يبيعون بوليصة ضمان الحياة ، ومدراء المستشفيات ، ودور العجزة ، سيكونون مهددين بالبطالة ، وفي هذه الحالة ، ستكون الدولة غير قادرة تماما على تحمِّل أعباء متطلبات حياتهم . ورغم إنّ هذه اليوتوبيا المفاجئة ربما ستكون هي الأفضل لعوالم ممكنة . وبإمكان البشرية أنْ تعتمد على مثل هذا الحطام من اليوتبيات . فالعوائل وبكل الأعمار وبكل أعضائها العاجزين، يدركون أنهم بحاجة للموت كي ينقذهم من أبدية العناية السريرية . ولأنّ ثمة موتا غير مؤجل في البلدان المجاورة . إذن ثمة حل واضح ، هو تصدير الأجداد المرضى وقذفهم إلى حدود تلك البلدان . حيث يؤدي الموت هنالك دوره . كما هنالك مافيا منظمة تتولى نشر الموت . ومن جانبها ستتغاضى الدولة عن العمليات السرية . لأنه ليس ثمة دولة تتولى عبء توسِّع لا نهاية له . وكما حذر رئيس وزراء الملك ، بقوله ” إذا لم نمت ، فليس لدينا مستقبل”.
ورواية ” الموت مع المقاطعات ” هي إضافة لعمل الروائي العظيم ساراماغو، وهي فاعلية تعبيء قضية اختبار افتراضها ، وتتناسل منها، مجموعة من الاسئلة الميتافيزيقية والثيولوجية حول الرغبة بقبول اليوتوبيا ، وحقيقة المؤسسة الدينية ، واحتمال وجود الإله. وعمل ساراماغو الحالي ، ينزع إلى توفير استعارة . من المتعذر وصفها ، وتحمل اسماء ممثلين عالميين بدلا من شخصيات فردية . وهذه الرواية هي محاولة جريئة ، ولم تشكل بالنسبة لساراماغو جملا استثنائية ، فضلا عن أنها تتميز برشاقة سرديتها . وفي غياب روائيين مبدعين ، فإنّ جمل ساراماغو التي يكون فيها السارد أو الساردون حاضرين بقوة ، ويبنون مجتمعهم الخاص لأنهم بشر بامتياز . 
وخلال السنوات الثلاثين المنصرمة ، سادت بعض الكتابات الهامة ، تتميز بإسلوب الجمل الطويلة ، والجمل المتمردة على القواعد . وبخاصة كتابات – توماس بيرنهارد، وبوهومل هرابل ، ودبليو . جي . سيبالد ، وروبرت بولانو – تشبه تماما أسلوب ساراماغو . الذي يمتلك القدرة ليبدو عاقلا ، كما يبدو جاهلا في الوقت ذاته . وكما لو أنه لم يسرد فعلا الروايات التي ألّفها . وغالبا ما يستخدم ما نسميه الأسلوب غير المباشر الحر وغير المتماثل . وتبدو رواياته كما لو أنها لم تُسرد من قبل أي روائي . بيد أنها يسردها مجموعة من العقلاء والعجائز الثرثارين الذين غالبا ما يجلسون على جانب رصيف الميناء وهم يدخنون ويجلس بينهم الروائي نفسه . وهذه المجموعة مولعة بالحقيقة البديهية ، والأمثال الشعبية ، وتبادل الأفكار المُبتذلة . ويضرب لنا الروائي مثلا يقول فيه : ويقال إنّ المرء لا يمكن أنْ يملك كل شيء فما تعطيه اليد اليمنى تأخذه اليد اليسرى. ” كما يؤكد ساراماغو : إنّ الشهرة ، واحسرتاه ! مثل هبَّة نسيم تهّب عليك ثم سرعان ما تغادرك ..” وفي مكان آخر ، يقول ساراماغو: يقال ، وابتداءً من العصر الكلاسيكي فما فوق ، لم يحصل أحد ما على ثروة إلا مَنْ كان جسورا ” وهذه التفاهات لم تكن مشرعنة ، وترفض الاعتراف بأيّ سلطة شرعية .

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *