د. عماد الضمور
تأتي رواية «شبّاك أم علي» للفنان التشكيلي والشاعر محمد العامري والصادرة عام 2020م ترسيخاً لأهمية المكان في الإبداع، وبخاصة عندما يكون المكان بطلاً ومسرحاً لأحداث الرواية، انطلاقاً من أن السرد هو سحر الحكي الذي يشكّل في تتابعه نسقاً جماليّاً ثمرته هي الخطاب السردي الذي يُنتج الرواية.
إنّ التأمل في عنوان الرواية، يكشف رسوخ التجربة المكانية في إبداع محمد العامري وبالتالي فإن» شبّاك أم علي» يفرض مشهديته البصرية التي تتمتع بتضاريس واضحة تتكشف من خلاله خصوصية السرد ودلالته العميقة.
لعلّ العنوان مكون بنائي أكثر ارتباطاً بالفن من أي عتبة أخرى، بل هو العتبة الفاصلة بين الكتابة واللاكتابة، والجسر الواصل بين الواقع، والخيال، إذ يُحيل العنوان في النهاية إلى المعنى المكبوت في نفس المبدع، وإلى ما سطرته مخيلته من طقوس وجدانية.
إنّ اختيار محمد العامري لعناوين دواوينه، وقصائده، ومجمل أعماله الإبداعية، يخضع لنسق تعبيري، يسعى من خلاله إلى استقصاء دلالات الشحن التأثيري الذي يُصيب النص، لتحصل عدوى المشاعر، ولو بكثافة متفاوتة، مما يجعل من هذه العناوين أداة تصويرية، أو عاطفية، تنبض برؤيا النص الشعري، وانفعالات مبدعه.
وبدراسة النص السردي في أي عمل أدبي نجده يشتمل على ثلاثة أنواع من الذوات وفقاً لعناصر هذا النص، الذات الأولى : هي الذات الساردة للنص أو المؤلفة له، والثانية: الذات الممثلة لشخصيات النص، والثالثة : الذات التي تقوم بدور المتلقين .
فوجود صوتيّ « الأنا» و» الأنت» في الخطاب السردي، وتداخل كل منهما في الآخر يوفر قاعدة سردية خصبة تثري الخيال، وتشرك القارئ في العملية الإبداعية كالمبدع تماماً، وهذا يجعل صورة السارد ليست وحيدة في النص بل تصحبها منذ البداية صورة القارئ الذي يتلقى النص، فكلما أخذت صورة السارد تتضح بدقة أخذت صورة القارئ تكتسب معالمها وهاتان الصورتان لازمتان لأي عمل إبداعي ؛ لأننا نقرأ قصة لا وثيقة تسجيلية، وهذا يدفعنا لأن نلعب هذا الدور للقارئ المتخيل، ويدفع السارد لأن يبدو لنا كمن يحكي هذه القصة المتخيلة أيضاً مما يؤكد اتحاد صوتي المرسل والمتلقي(1) .
ويعد الناقد تودوروف أول من قام بدراسة ما أطلق عليه « توالد الحكايات ، وذلك بوصفه ظاهرة سردية خالصة، واستخدم في هذا المجال التضمين الذي يعني حالة خاصة من الربط « (2) .
وهذا السرد المتعدد ميزة مهمة في رواية (شبّاك أم علي)، إذ تتضمن الرواية عدة قصص أخرى تتداخل فيها، وهذا يرتبط عند تودوروف بإعادة التوازن للنص الذي فقد التوازن في حدث سابق، ذلك أن أم علي شخصية الرواية المركزية ومبعث السردفيها، وبؤرة ذات تمركّز نصي، تنبعث منها الحكايات وترتد إليها الشخوص، وهذا لم يتأتَ لها إلا لأنها أكثر قدرة على السرد بعدما توغلت في الأمكنة بكلّ شخصياتها وتفاصيلها .
«أم علي» تستكشف مجاهيل المكان ومناطقه المعتمة ، ممّا جعل الرواية مرآة للتحولات العميقة التي شهدتها الأمكنة، فضلاً عن قدرتها التخييلية على الرصد الجمالي.
ما جعل العامري يشكل أيقونة « أم علي» بوصفها مفتاحاً مهماً لدخول ال رواية، ومفتتحاً سردياً يتوغل في أعماق الرواية ليبعث الحكايات فيها بروح المكان ودفئه، حيث يقول:»» أم علي محور أساسي في القرية، فهي العين الثاقبة التي تراقب القرية من نافذتها الخشبيّة التي تُشكّل بالنسبة لها حياتها اليومية، امرأة سمينة تتكوم في منتصف النافذة بطيئة الحركة ، ولكن عينها حيوية جداً ، حتى أن بيتها الذي يقع في الحارة الشرقية الملاصقة لجبل مغارة» الفار» سمي باسم نافذة « أم علي» فمن خلالها تستطيع أن تتعرف على كل ما يحدث في قرية القليعات» (3).
نلاحظ أن السارة» أم علي» ترتبط بقرية العامري القليعات، مما يكشف عن علاقة صريحة تربط أم علي بالقليعات ، ولعلّ هذا الخصب الفكري الذي يتمتع به المكان، جذب كثيراً من المبدعين إلى خلق عوالم مكانية متخيلة، تقوم على أنقاض الواقع، وتستمد منه ما يخصّب النص الإبداعي بالرؤى والأفكار، مما ينسجم مع وظيفة الفن القائمة على إبداع أشكال قابلة للإدراك الحسي، فيتشظى المكان، ويتسع بشكل لا شعوري؛ ليرتبط بشخوص وأحداث، تسهم في التأسيس المكاني في النص الإبداعي.
تبدأ « أم علي « القيام بوظيفتها الحكائية؛ لتبعث الشخوص في الرواية، فنجدها تكشف عن شخصية بطل الرواية يوسف الذي ظهر جنيناً في رحم أمه حمدة:» تبدأ أم علي باجتراح حديث غريب ، فأول سؤال لها تقول: كيف يوسف؟ وتضحك ساخرة من يوسف في بطني، أجاملها وأقول لها بخير. تلتفت أم علي بشكل موارب إلى حمدة وتقول لها: هل رأيت امرأة مجنونة مثل أم يوسف؟ تتحدث عن جنينها كما لو أنه حاضر» (4).
ويرسم الروائي لأم علي ملامح شعبية تنتمي بكل مكوناتها الفكرية والسلوكية إلى البيئة الفلسطينية، حيث القيم الشعبية التي تتبلور على شكل أغانٍ ، وأمثال، ومرويات تراثية، ممّا جعل أم علي باعثة للحماس والتغني بالشجاعة دون أن يخلو ذلك من دعابة غير ظاهرة:» وحين يفرغُ الشارع في لحظات رقود الناس عند الظهيرة تبدأ «أم علي» بالغناء بصوت رديء لكنه ينم عن جرح غائر فيها، فقد اشتهرت بأغنيتها المفضلة التي كانت تسمعها من جدتها شفيقة أيام فلسطين قبل التهجير ، أغنية جارحة ومعروفة تحبها « أم علي» وتغنيها في وقت راحة عيونها من المراقبة، تغني « يا مصعب الفُرْقة عليّ» ربما تُذكرها بألم البلاد وطبيعة الحياة الأولى في فلسطينها» (5).
وإذا كان الجمال الطبيعي من صنع الخالق تعالى فإن المكان الفني فيه لمسة من المخلوق يحاول إعطاء أبعاد جمالية و فنية أكثر،لذلك يذهب باشلار إلى أن المكان يمتلك طاقة انبعاثية قادرة على تجاوز حدوده الواقعية، فهو أكبر من كونه حيزاً، بل هو حكاية خالدة ونبض دافق بالحياة.
يبقى عالم القرية وأم علي عنصرين مهمين يستند إليهما العامري في روايته ، القرية بطابعها الغوري القاسي، وأم علي بحكاياتها التي لا تنتهي، مما جعل هذا المكوّن السردي ينعكس على اللغة التي جاءت مفعمة بالروح الشعبية ومناسبة لطبيعة أم علي الساردة، فضلاً عتمّا حملته من شعريّة واضحة تجسدت في الانزياحات القريبة والمعاني العميقة التي تنهل من معين معجم محمد العامري الشاعر والفنان التشكيلي الذي ابتعد عن اسلوب القص الإخباري واقترب كثيرا من القص المشهدي التصويري بعين الفنان وبلغة الشاعر ورؤى السارد الذي ينهل من ذاكرة خصبة.
الهوامش:
1. انظر : صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الآفاق الجديدة،
بيروت، ط3، 1985م، ص 434- 435.
2 . سيلفيا بافل : فصول، م(13)، ع (1)، 1994، توالد السرد في ألف ليلة ص47 .
3 ـ محمد العامري، شبّاك أم علي، 2020م، ص10.
4 ـ المصدر نفسه، ص18.
5 ـ المصدر نفسه، ص20.
- عن الدستور الثقافي