قصة حياة
*عامر طهبوب
الكتابة عنها امتحان صعب، ليس هناك أصعب من الكتابة عن شخصية عاجزة عن اليأس، وعن فقدان الأمل، وعن امرأة هاجسها نقل المعرفة، وهمها الوطن العربي من شماله وحتى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وعن مثقفة أصرت على أن تشهد رحيلها، كما شهدت ولادتها، وعن مفكّرة تكره الغياب، تُملي على المكتبة العربية حاجاتها دون سؤال أو حيرة أو تردد، وعن قارئة اشتبكت مع الرواية، والمسرح، والكتابة الصحفية، والترجمة، دون أن تؤثر هذه الانشغالات على معركتها السياسية الأساسية، ودون أن يؤثر كل ذلك على حياة أصص زرعها في شرفة بيتها، أو على أسرتها التي تعشق، وأن تحافظ على وقتها في تعليم الجيل القادم، وحقها في إيجاد وقت لتطريز المشغولات اليدوية، وأن لا تُحرم من التواصل مع محيطها، والأهم أن لا يسرق كل ذلك شغفها بالحياة.
لعل الكتابة عن “حياة” شاقة ومرعبة، فأنت تتحدث عن أيقونة ولدت تحت فئ شجر صنوبر يحيط بضيعتها الجنوبية التي اضطرت إلى الخروج منها تحت أزيز رصاص حرب أهلية مجنونة، خرجت تبحث قبل عقود من الزمن عن حضن دافئ يعوضها عن ألم غياب، وليس أكثر حناناً من جبال عمان على أهل بلاد الشام، فتحت قلبها إلى عمان منذ اللحظة الأولى التي عملت فيه في التلفزيون الأردني لتأسيس القسم الفرنسي، وفتحت عمان لها صدرها منذ الطلة الأولى، عمان لا تطوي ذراعيها، تقف لأحبابها بالباع والذراع، أصبحت حياة جزءاً من ذاكرة الأردن وأهله، ولم يعرف العديد من محبيها، أن رأسها سقط هناك بين أشجار صنوبر وبساتين زهر اللوز في نواحي صيدا، إلا عندما أمر الملك عبد الله بن الحسين، بتحرك طائرة خاصة إلى القاهرة، لإحضار حياة إلى عمان، واستكمال علاجها في الوطن، قالت لها ابنتها الخبر: طائرة أردنية في الطريق من عمان إلى القاهرة، ابتسمت حياة ونامت، ثم أكملت نومها.
كنت قد التقيت حياة لأول مرة عام 1995، وأجريت معها حواراً صحفياً نشر على صفحات الوطن القطرية، وفي تلك الأثناء، كنت على علاقة وطيدة بالكاتب الفذ خيري منصور، وعندما عرف أنني أجريت اللقاء وفَرَغت، استاء مني: لماذا لم تخبرني؟ لماذا أخبرك، قال: كنت أجريت معك عصفاً ذهنياً لتُخرِج منها كنوزها الكامنة في خلاياها المختبئة. ضحكت: قلت: هل هناك خلايا كامنة في عقلها؟ قال: عقل هذه الإنسانة يعطيك، كلما عرّضته إلى العصف.
