الشاعر عاشور الطويبى والإنصات إلى هسيس الطبيعة والكائنات

 (ثقافات)

 

الشاعر عاشور الطويبى والإنصات إلى هسيس الطبيعة والكائنات

*إنتصار بوراوى

 يقول الشاعر ريلكه في مقطع  له: «لكي تكتب بيتا واحدا من الشعر ينبغي ان تكون قد رأيت مدنا عديدة، وبشرا عديدين واشياء لا تحصى، وينبغي ان تعرف حتى الحيوانات ينبغي ان  تتحسس كيف تطير العصافير، وكيف تتفتح الازهار في الساعات الاولى للفجر.

 وعند قراءة  دواوين الشاعر الليبي عاشور الطويبى، سوف تتحسس هذه الروح الشعرية التي ذكرها الشاعر العظيم  ريلكه ، حيث  الإنصات العالي لذبذبات الطبيعة و الوجود والكائنات فى قصائده، التي تحتفى بالطبيعة وبالحجر والشجر والحيوانات والطيور والغابات ،والحقول فثمة روح شعرية عالية تتماهى مع الطبيعة، التي تتجلى بكل صورها و تقفز من القصائد في صور سردية بانورامية .

الشاعر والمترجم الليبي عاشور الطويبى أصدر قرابة 14 ديوان شعري ورواية بعنوان “دردنيل” بالإضافة إلى ترجمته لمجموعة دوواين لشعراء عالميين.

في ديوانه “في معرفة الكائنات والأشياء”، ينصت الشاعر للكائنات من الحيوانات والطيور والفراشات والأسماك والضفادع وكأن بالشاعر في بعض المطارح يستشف منطق الطيور والحيوانات وكل ما يصادفه من الكائنات والطبيعة حوله من أنهار وبحار وغابات وحتى الجماد من شجر وحجر.

يبدو صوت التاريخ جليا فى قصيدة “ترنيمة القرن السابع قبل الميلاد “، التي تحكى سيرة مدينة صبراتة الأثرية ذات العواميد الضخمة.

في النص النثري “قلقة عين لاعب النرد” ،  يروى  الشاعر حكاية مدينتي سوسة  و طلميثة ، و يأخذ الشاعر صوت الراوي في القصائد  كأنه سافر عبر الزمان ليخلد عبر قصائده تاريخ المدن الأثرية كما خلد هوميروس في قصائده حكايات وقصص أثينا

منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد لأربعين نهار وأربعين ليلة

 ريح الملتم تسرح خيلها من رأس الهلال إلى رأس التين

تستحى البوح بأسرارها، تستحى أن تفك اسراها

روح المكان تأسر الشاعر، فيهيم بين فيافيه منتقلا في نصه النثري بين الماضي والحاضر ليرسم لوحة شعرية تأسر قارئها فى قصيدة احببت صبراتة

هل كنت حقا تفهم صبراتة؟

كانت فيك بعض يفاعة طاهرة

لذا وقفت اغلب مساءتها

مواجها البحر بوجهك الرصين الصامت تسال

بأى لغة أدفن المخيلة فى رحم هذا الكائن المراوغ؟

ويبدو من خلال قصائد الشاعر عن المدن الأثرية صبراتة وشحات وسوسة وطلميثة مدى ولع الشاعر بالمدن الأثرية ،فيستنطق التاريخ والشخصيات التاريخية التي عاشت فيها عبر العصور القديمة .

فى ديوانه “ابن رشد فى لباس البحر” يستوقفك عنوان الديوان وكأن الشاعر يريد الإيحاء من خلال الصورة البصرية التي يتخيلها القارئ لهيئة الفيلسوف ابن رشد بلباس البحر، للتحرر من القمع الذى تعرض له الفيلسوف ابن رشد  بعد تكفيره وحرق كتبه ،فالشاعر في نصه يخرج ابن رشد من الظلم الذى تعرض له من العقول الضيقة ليتكلم بلسانه بكل حرية عن فكره وفلسفته والطريق  الذى اختاره دون خوف وقمع وتنكيل ، ابن رشد في القصيدة وكأنه يرمز  للمثقف  العربي الذى لازال يتعرض للقمع والقتل والسحل حين يعبر بحرية عن فكره  أو كما يقول في قصيدته:

الرائحة ذاكرة شجرة

أي عنوان أبحث؟

أي طريق سأخذ وأنا خارج الصلوات؟

لعلى سأجد روحي الهاربة في ميلان الخط ودكنة الحبر

الخيل واقفة على جانبي الوادي

الوادي بلاد مجروحة ويدى مليئة بالدموعة

ليس في الغابة غير ذئاب تعوى

يمضي الشاعر في الإنصات للطبيعة والكائنات والوجود والحياة والموت فيكتب فى قصيدته ” فى ظله تزهر الحكايات” عن المقبرة بنظرة شعرية تأملية تخترق ما خلف الموت:

سكينة الليل عميقة أنظر قبر من ذلك

على قبته تجلس الطيور وفى ظله تزهر الحكايات؟

وراء النوافذ عيون تطل على مقبرة

بين شمس تأتى وشمس تغيب ..نشيج النائحات

الشاعر لا يلتقط بإحساسه هديل الحمام ،ورفيف الطيور فى الطبيعة حوله فقط بل تبدو كل تلك الطبيعة التي يمتزج ،بها الشاعر تطارده حتى فى غرفته فيحلق بخياله ليراها داخل غرفته كما فى قصيدته الجميلة طيور الحناء

على الحائط نهر وأشجار مشمش

على أرضية الحجرة حقل أرز وحقل لفت وحمار يقف قبالة شمس

على الحائط حاشية سماء زرقاء

على سقف الحجرة شجرة تين

وسرب طيور لقلق تكاد تختفى

على الحائط بحر وسباحون مهرة

على ارضية الحجرة حقل نعناع وحقل جزر

على أوراقه تلمع قطرات ماء

وهكذا تمضي القصيدة في جلب الطبيعة، بحقولها وبحرها وغاباتها وطيورها وحيواناتها لتحلق في فضاء بيت الشاعر الذى يخلق كون وفضاء من الخيال الشعرى الشاهق الذى يعيد تركيب المكان وتأثيثه بما يشتهيه خياله ..

فى قصيدة “أرأيت” يفتح الشاعر أبواب الأمل عل مصراعيه أمام القارئ

لك أن تصنع شمسك بورق مقوى وأسلاك صدئة

لك أن تصنع قمرك بوردة ذابلة

لك أن تصنع ليلك وحدك خذ من النهار كل شىء

لك أن تصنع نهارك وحدك

أفتح النوافذ على شمس اخرى

وارفع الستر حتى تصل أقدام الغيمة

أرايت

لك أن تصنع الكثير كى ترى العالم

فى قصيدة “النخلة والطائر ” يستنطق الشاعر النخلة والطائر في محاورة فلسفية

النخلة تبث حزنها للطائر المقيم

هكذا يفعل الفجر بى

يأتي على جنب كهديل حمام كهل

على كتفيه الباردتين رائحة زيت الزيتون

في نص “لابد” يعتمد الشاعر على أسلوب تكرار الكلمة لتبيان قيمة ومعنى  نتيجة الفعل :

لابد من أيد كى تجمع أشلاءهم

لابد من نهار كى يخرجوا من سباتهم

لابد من كلام كى تعرف اقدامهم الدروب

لابد من غناء كي ترقص زهرة اجسادهم

وفى قصيدة ” هدهد ونافذة وشتاء” يخاطب الشاعر الهدهد باحثا عنه بقصيدة شعرية يتناص فيها الحاضر مع الموروث الديني وكأن الشاعر لا يبحث عن طائر ألف وجوده على نافذته بل يبحث عن روح الطيران والحرية في طائر الهدهد الذى يمنح إشارة ودلالة على الأخبار السعيدة

فى الشتاء إلى أين يذهب الهدهد؟

سألت نافذتي هذا الصباح

لعله يبقى فى عشه

لكن لا عش له

هو يحفر في الارض الواطئة مايقيه الريح والمطر

لعله ذهب إلى بلقيس

أو أخذته عفاريت سليمان ورمته في الجب العميق

للغابة قوانينها هكذا يخبرنا الشاعر عاشق الطبيعة والغابات ،وقوانين الغابة هي من وحى معرفة وقرب الشاعر من الطبيعة والاشجار

للغابة قوانينها

لاتلبس حذاء ثقيلا

كن خفيفا لا تتعب في حملك الأعشاب

لا تكسر عودا من عيدانها

هات معك عين قلبك

المشي في دروبها بلاعجل

إن وضعت ظهرك على جذع شجرة

استأذن اولا

لاتتصنت على احاديثها

اترك اناك خارجا

للأشجار أيد فسلم عليها وآذان فسلم عليها

الشاعر فى هذه القصيدة لا يكتفى، باستنطاق الغابة وماتحويه من شجر وأغصان وأعشاب بل يؤنسنها ويحولها إلى انسان من لحم ودم تسمع وتتحدث مثل البشر.

الماضي وعبقه وصورة الاب والجد تطل من قصائد الشاعر الذي يستذكر فى لحظات تجلى صوت وحديث والده وجده

شجرة التين فى فناء بيتي

أخذت عودها من شجرة غرسها جدى

جدى الذى مات وهو يقول

للشاى روح فلا تشعلوا فيه النار إلا بقدر

ولا تقتربوا منه إلا على طهارة

الشاى طريق الجنة

في قصيدته “صاحب الدف” ..يحاور الشاعر رياح القبلي التي تهب خلا ل فصل الصيف  بغبارها وصهد حرارة نارها:

دفوف تدق اشجار طلح اورادها فى حلوق طير

الذين قاتلوا ريح القبلي لم يجدوا علامات الطريق

فى أيديهم تمر يابس

وعيونهم تلمع تحت الشمس

حين سمعوا صوتا أليفا نظروا إلى أعلى

القبلي دق دفوف الموت، القبلي مذراة النسيان

الذين قاتلوا القبلي صاروا صخورا سوداء

في ديوانه ” كاليماخويس القورينى يعبر حقل الصبار ” ،يخيل للقارئ بأن الشاعر الأغريقى  كاليماخوس ، يتهادى بين حقول الصبار بقورينا  مترنما بقصائده

فضوحات اللسان في الليل ،غير فضوحات اللسان في النهار

كذلك فضوحات القدم والعين والقلب

ليس كل فضوح يوصل إلى شارع او سقيفة

ليس كل فضوح عتمة

فضوح الوردة عطرها

عالم الشاعر الشعرى يحلق في فضاء الفلاسفة والشعراء والعلماء ابن رشد وكاليماخوس القورينى ،والشاعر تشارلز سيميك ، نيوتن ، اقليدس  سيدى قنانة،الكونت بيزى، رينيه ديكارت ، ديوفانتس الاسكندرانى، أرخميدس  إقليدس ، الن غينسبيرغ،الشاعر ناظم حكمت ، والشاعر حافظ الشيزارى الذى كتب قصيدة على شكل محاورة بينه وبين الشاعر وبعين الخيال الشعرى يحلق الشاعر فى محاورته للشاعر الصوفي العظيم

جئت من كوة فى السماء

تكلمت بلا لسان

وقفت بلا قدمين

ثم مشيت خلف قلبى

فى الساحل ..فى الجبل

بين الناس كلما أوجعني

جلست على حجر وحدقت في الأعالى

لم أسع وراء جواب

لم اسع وراء طمأنينة عابرة

لم أسع وراء شيء

الشاعر لم يسع إلا للشعر الذى فاض كالنهر الرقراق في مجموعاته الشعرية الجديدة التي يصعب الإلمام، بكل عوالمها الشاسعة المتنقلة بين رحاب الطبيعة والكائنات والوجوه وذكريات الطفولة البعيدة ، بأشكال فنية متنوعة في قصيدة النثر ،مابين السرد القصير والصور البصرية  التي  تلتقط أدق  التفاصيل في عوالم الطبيعة والكائنات  والوجود  ومنتقلة بين نص وأخر بجمالية شعرية  تحمل  مشروع شعرى مختلف  في قصيدة النثر الليبية  وموقعة بصمتها  الخاصة بروح  الشاعر  الكونية  الشاسعة  .

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *