الحبيب السالمي والرواية المهموسة

الحبيب السالمي والرواية المهموسة

* رشيد العناني

أ.د. رشيد العناني

لم أتعرف على العالم الروائي للحبيب السالمي بصورة منظمة. كان أول ما قرأت له هو رواية “روائح ماري كلير” المنشورة في 2008. ثم قرأت “نساء البساتين” المنشورة في 2010، ثم “الاشتياق إلى الجارة” المنشورة في 2019. من هذه القراءة غير المنظمة تكوّن لدي انطباع بأن الحبيب السالمي هو من كتّاب المهجر الفرنسي حصرا، حيث يعيش ويعمل في باريس. الشخصية الرئيسية في الروايات الثلاث والتي من منظورها نرى ما يحدث، هي لرجل تونسي في أواسط العمر يعيش في فرنسا ويعمل بالتدريس سواء كان في مدرسة ثانوية أو مدرسة عُليا. “روائح ماري كلير” تُعنى بدراسة صعود وانهيار علاقة زواج بين رجل تونسي وامرأة فرنسية. يدرس السالمي العلاقة في كل مراحلها في تانٍ شديد، متوقفا عند تفاصيل الحياة اليومية مهما صغُرت، غائصا في أدق المشاعر. وكأنه يريد أن يؤكد لنا ما قد لا ندركه رغم وضوحه الساطع. وهو أن الحياة ما هي إلا تراكمات لحظات قصيرة وأحداث تافهة ومواقف وأقوال وأفعال متناهية في الضآلة تقع في كل يوم من أيام حياتنا الشخصية والمشتركة. وليست العلاقات البشرية بما فيها من علاقات حميمة مثل الحب والزواج إلا بناءً هائلا يتراكم سنة بعد سنة من تلك اللحظات. ومثلما يتصاعد البناء تدريجا بالتراكم، فإنه أيضا إن كان مقدرا له الانهيار، فذلك الانهيار لا يحدث عن طريق زلزال أو إعصار أو حدث جلل، إنما أيضا يتراكم التآكل يوما بعد يوم. ينخر السوس في العلاقة نخرا وئيدا لا يكاد يُرى، إلا أنه نخر حثيث، دؤوب، يتنامى حتى تأتي لحظة الانهيار. ما يفعله السالمي في “روائح ماري كلير” هو تسليط المجهر على التآكل التدريجي، على النخر اليومي، حتى إذا انهار البناء لم نندهش لأنه صحبنا في ملاحظته الفعل التراكمي ذي النتيجة المحتومة والذي يدهشنا حين نراه في الحياة لأننا إنما نرى فقط الفعل النهائي ولا نرى المقدمات الصغيرة المتراكمة.

“نساء البساتين” تنقل الحدث إلى تونس، فالأستاذ التونسي الذي يُدرِّس في فرنسا يذهب لقضاء عطلة صيف في موطنه الأصلي، إلا أن باريس تبقى هي الحاضر الغائب في السرد، فالواعية المتابعة للحدث هي واعية تونسية بعد أن عبرت بالفلتر الفرنسي.

أما أحدث هذه الروايات “الاشتياق إلى الجارة” فربما تكون مزيجا من سابقتيها. فنحن هنا أيضا أمام أستاذ جامعي في باريس. هو تونسي الميلاد لكنه مستقر في فرنسا عملا وعيشا ومتزوج من فرنسية. يقتنصه الحدث الروائي وسط ما يُعرف ب “أزمة منتصف العمر” أو المراهقة الثانية في حياة الرجال. إلا أن السالمي يعطيها أبعادا إضافية هنا. فالأستاذ بعد حياة طويلة قائمة على الحب مع زوجته الفرنسية ينجذب لامرأة تونسية مغتربة مثله، وكان هذا الانجذاب نوع من الحنين للأصل. إلا أن السالمي لا يكتفي بهذا التعقيد، فيضيف إليه عنصرا آخر وهو أن المرأة التونسية هي امرأة بسيطة، أمية لا تقرأ ولا تكتب. هي ليست أستاذة جامعية مثله ولا مصرفية مثل زوجته الفرنسية وإنما هي عاملة نظافة في البيوت. هناك إذا عنصر الانجذاب الطبقي. الانجذاب إلى الطبقة الأدنى. أو ربما أن الانجذاب الطبقي هو عنصر مُكمل للانجذاب للأصل. فامرأة قروية أمية من العمق التونسي ربما هي أقرب للتذكير بالوطن والأصل من تونسية مهنية متعلمة متفرنسة لا تفترق كثيرا عن الزوجة الفرنسية. ينشغل السرد من أوله لمنتهاه بالتأمل البطيء للمشاعر. للعلاقة بين الأستاذ وزوجته ولمراحل العلاقة بين الأستاذ وعاملة النظافة التونسية. التأمل التدقيقي المتناهي في الصغر. مطاردة المشاعر والخواطر حتى تتلاشى من شدة التأمل. لا شيء يحدث في الرواية. لا شيء سوى التفاصيل اليومية مما يحدث في حياة أي منا ولا نكاد نلاحظه أو نتوقف عنده. صعود سلالم العمارة والهبوط عليها. مقابلة جار أو جارة على الدرج أو في بهو العمارة. تحية صباح أو مساء مع حارسة العمارة الخ الخ ومن هذه اللا أحداث ومن تراكمها تتولد الحالة الشعورية التي هي الرواية. الواقع أنه بهذا المعنى لا شيء يحدث في الروايات الثلاثة. بل لولا الحرص أكاد أجزم بأنه لا شيء يحدث في روايات الحبيب السالمي كلها. أقول “لولا الحرص” لأني لم اقرأ رواياته كلها. لكني سأندهش أيما اندهاش إن قرأت له يوما رواية مما كتبه أو سيكتبه مستقبلا فوجدت أن شيئا فيها يحدث، فذلك سيكون تطورا في غير اتجاهه المطبوع. لذلك فإني أصف كتابة السالمي ب “الرواية المهموسة”. وهو تعبير أستعيره من محمد مندور الذي أطلق وصف “الشعر المهموس” على شعر المهجر الأمريكي في العقود الأولى من القرن العشرين (شعر جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم) فهؤلاء بدأوا يكتبون شعرا استبطانيا تأمليا، منخفض النبرة، فجاء تعبير مندور “الشعر المهموس” موفقا تمام التوفيق لتمييز هذا الشعر الجديد وقتها من الشعر الإحيائي التقليدي السائد والذي كان خطابيا، عالي النبرة يُكتب للإنشاد على الملأ. على هذا المثال الحبيب السالمي أيضا مختص بالهمس. يكتب “رواية مهموسة”. رواية منشغلة بالاستبطان والتأمل الدقيق، ولا يعنيها طنطنة الحدث. رواية تدرك أن أغلب الناس تخلو حياتهم من الأحداث الكبرى، وإنما هي مصنوعة من تراكمات متناهية في الدقة، ولا تؤدي في أغلب الحيوات إلى شيء بعينه.

قلت في مطلع هذه المقالة إن هذه الروايات الثلاث التي اتفق لي قراءتها بدون تدبير ولا تخطيط أعطتني الانطباع بأن الحبيب السالمي لا يكتب إلا عن المهجر الفرنسي وما يتعلق به. إلا أني اكتشفت مؤخرا أني مخطئ، وكان ذلك بدون تدبير أيضا. ذلك أن قرأت حديثا رواية رابعة هي أسبق من الثلاثة المذكورة. تلك هي “عُشّاق بيّة” المنشورة سنة 2002 والتي تدور بكاملها في قرية تونسية نائية بلا فرنسيين ولا أوروبيين. بل هي تدور تحديدا أسفل جذع شجرة زيتون عريقة، منخورة يحتوي باطنها المظلم على أسرار ومهالك لكنها راسخة فارعة يتظلل بها الجالسون، لعلها ترمز لتونس كلها أو لديمومة المكان في مقابل زوالية الإنسان. يجتمع عندها كل يوم أربعة قرويين عجائز يتبادلون الحكي والتندر بالماضي والحاضر. يحبون أحدهم الآخر ولكن بينهم أيضا منافسات ومشاحنات وغيرة وسخرية وحسد إلى آخر المشاعر البشرية المألوفة التي تراكمت عبر عمر قضوه معا في تلك القرية النائية والتي ندر أن بعُد عنها أحدهم. هذه أيضا رواية “مهموسة” كالعهد في روايات الكاتب. ولكن ما علينا أن ندركه بلا أدنى شك هو أن روايات السالمي تقول في همسها ما لا يقوله غيرها بالصراخ. كل أسئلة الحياة الكبرى يطرحها العجائز الأربعة تحت الزيتونة العريقة. الحياة. الموت والخوف منه. العالم الآخر. الدين. الثواب والعقاب. عذاب القبر. الله. الإيمان. الشهوة والجنس. تقدم العمر. المرض. الهجرة. شظف العيش والفقر. الترمل. كل هذه الأمور مطروحة في الرواية. مطروحة في أحاديث وأفعال واسترجاعات الأصدقاء الأربعة إذ ينتظرون الموت في عمرهم الرذيل ويرقبون “طريق النعوش” من مجلسهم تحت الشجرة. ولكن لا يمنعهم هذا من التعلق بالحياة وشهواتها حتى آخر لحظة، متمثلة خاصة في الأرملة الشابة “بيّة”. لسنا في حاجة إلى الأكابر. إلى علية القوم. إلى المتعلمين والمهنيين وأبناء الطبقة الوسطى والمرفهين مختبري الحياة الجائلين بين الأقطار والثقافات واللغات. لسنا محتاجين إلى أي من هؤلاء لاستكشاف الأسئلة الكبرى. هي مطروحة في كل حياة. في كل بقعة. حتى عند شجرة زيتون عريقة في قرية تونسية نائية لم يسمع بها أحد. لسنا محتاجين للصراخ. يكفينا الهمس لقول كل ما يستحق القول. هكذا يعلمنا الحبيب السالمي.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *