د. رشيد العناني: عملي ملاحقة المعاني فى أعمال الكُتّاب ..(حوار)

د. رشيد العناني: عملي ملاحقة المعاني فى أعمال الكُتّاب

الأديب والناقد وجهان لعملةٍ واحدة وشريكان فى صناعة الجمال وإعادة صياغة العالم


حاوره: أسامة الرحيمي

حين رأيت دكتور «رشيد العنانى» فى أول حفل حضرته بعد إعلان جائزة «نجيب محفوظ» فى الجامعة الأمريكية بالتحرير، تصورته عراقيا بإيحاء من اسمه، ولفتنى لطف لكنته التى تُضفى على العربية بُعدا «خواجائياً» كان وقعه محببا لنفسى. التصوران أدهشانى وأسعدانى حين تيقنت أنه مصرى. أخلص للأدب الإنجليزى، واستغرقه تدريسه فى الجامعات الأجنبية بلغتهم، فاكتسب اللكنة بانغماسه، وفرط صدقه.

قاهرى من مواليد 17 يوليو 1949، غرامه بالأدب دفعه لدراسته فى جامعة القاهرة نهاية الستينيات، وعمل بها لسنوات قليلة، ثم سافر ليحوز الدكتوراة من جامعة إكستر البريطانية، وقام بالتدريس فيها حتى ترأّس قسم الدراسات العربية والإسلامية، وما زال أستاذا فخريا للأدب العربى الحديث فيها. وذاع صيته كأستاذ للأدب العربى والمقارن، وانتخب رئيسا «للاتحاد الأوروبى للأدب العربى الحديث» الذى يضم الجامعات الأوروبية التى يُدرس بها «2016-2018». كما دُعى لتأسيس وعمادة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية فى معهد الدوحة للدراسات العليا «2014ــ2017». عمل محكما لجائزة «البوكر العربية» فى أول عهدها قبل أن يُختار عضوا فى مجلس أمنائها، وحكَّم فى جائزة «نجيب محفوظ» بالجامعة الأمريكية لخمس سنوات. ويُشرف على تحرير «سلسلة دراسات ادنبره فى الأدب العربى الحديث»، الوحيدة من نوعها فى الإنجليزية، وتصدرها دار جامعة ادنبره للنشر.

فتنه عالم «نجيب محفوظ» الإبداعى من بداياته، فوهبه جُلَّ كتاباته النقدية، وقدَّم عددا من أهم الكتب التى تصلح دليلا هاديا لمن يود التمتع «بدنيا محفوظ»، واستلهام عمق معانيه الفلسفية، وتجدده الإبداعى المدهش.

منها «عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته» «1988»، و«نجيب محفوظ: «مطاردة المعنى» «بالإنجليزية 1993»، و«نجيب محفوظ: قراءة ما بين السطور» «1995»، و»لقاءات الشرق بالغرب فى الروايات العربية» «بالإنجليزية 2006»، و«استنطاق النص: دراسات فى السرد العربى» «2006»، و«نجيب محفوظ: حياته وعصره» «بالإنجليزية 2007»، و«البحث عن الحرية» «2016».
من يتابعه وكتاباته، ويدقق فى تحركاته الهادئة، وابتسامته السمحة المنطبعة، سيشعر، على نحو ما، بأن روحه ربما تميل لطرائق رهبان الصحراء الغربية فى عصر الاضطهاد الرومانى، لا أقصد المعتقد، بل اعتزال ضجيج الحياة وصراعاتها، والانقطاع للنقد والأدب والارتقاء بهما لحد التأمل، فبات ناقدا خالصا للموضوعية والجمال، كما اختلوا هم عن واقعهم فى القلالى، وبذلوا أنفسهم للتعبدوالخلاص فأسسوا الرهبنة.

كلما قرأت لك شيئا بدا أنك تتمتع بمهارة «جرّاح نقْدِىِ» «إذا جاز التعبير». فلا تُضيّع وقتك فى الاستطرادات، ولا تلتفت إلَّا إلى الأعمال الناضجة. وتهتم بإبراز جماليات الأعمال الملهمة بعذوبة لافتة، فهل هى طبيعة شخصيتك، أو منهجيتك، أم كلاهما؟

لعل الناقد أقرب إلى الجرّاح فى مرحلة التشخيص، حيث يكتشف مواضع القوة والضعف وأسبابهما فى العمل الأدبى، كما يفعل الطبيب مع المريض، وبعدها تنتهى مهمته، لأن العمل المنشور تجاوز مرحلة العلاج، لكن قد يستفيد الكاتب من النقد فى أعماله اللاحقة، ويتيح للقارئ فهما أفضل للعمل. ومجاز «دِقّة الجراح» هذا، يكون أيضا لدى المهندس، أو أى مهنى آخر. فإذا غابت الدقة فلا مجال إلَّا للإهمال والتراخى والعشوائية، وأى مخلص فى أى مجال لا يريد هذا. وأعتقد أن العملية الأدبية النقدية ملاحقة وتعقب. فالمبدع يتعقب فكرة معينة أو رمزا أو شخصية، ويلاحق شيئا يؤرقه ويحاول اكتشافه وإخراجه إلى الوجود. ولعلى لهذا السبب سميت كتابى فى الإنجليزية عن نجيب محفوظ «The Pursuit of Meaning» أو ملاحقة المعنى، لأنى اعتبرت كتابات محفوظ فى مجملها محاولة للعثور على المعنى فى الحياة، وعملى كناقد هو ملاحقة المعنى فى أعمال الكُتّاب. كلنا يلاحق المعنى بدقة بشكل أو آخر. ودعنى أصارحك. العمر قصير والأدب الجيد كثير. يؤرقنى أنى سأموت دون أن تُتاح لى فرصة قراءة الكثير الكثير من أمهات الكتب والكثير مما أنتجته أفضل القرائح البشرية حول العالم فى العصر الحديث والعصور الماضية. وليس لدىَّ وقت إلا للأعمال الممتازة، التى تثرينى وجدانيا وعقلانيا وجماليا وتعمّق إحساسى بالوجود. ولا يعنينى أن أقرأ أو أكتب إلا عن الأعمال الجادة التى تكشف ليس فقط موهبة فنية، وإنما أيضا فكرا ورؤية تخدمها هذه الموهبة الفنية. ولا أتردد أن أطرح جانبا كتابا لم يستطع أن يثبت لى جدارته فى الخمسين صفحة الأولى كحد أقصى، وكثيرا ما لا يحتاج الأمر إلى هذا القدر.

برأيك.. حين يلتقط الناقد عيوبا عميقة فى العمل الإبداعى «خطأ فى التكنيك مثلا، أو بناء الشخصيات، أو تناقضا فكريا ما»، هل يجب عليه أن يشير إليها مباشرة، على أن يتفادى جرح المبدع أو العمل؟ أم أن الموضوعية تقتضى تشخيص معطيات العمل بلا مواربة، ولا مجاملة؟

المجاملة عدوة الموضوعية. المشهد النقدى فى مصر شبه خاوٍ، والقليل الموجود من قبيل المجاملة والتهنئة الحارة. ما أعنيه بالمشهد النقدى هنا ليس النقد الأكاديمى فى الكتب والأطروحات فهذا له أهله، ويدور فى حلقة صغيرة من زملاء المهنة والاختصاص بالنقد. أما مشهد النقد الأدبى العام على صفحات الجرائد والمجلات الثقافية السيّارة فهو قاعٌ صفصف. وما نراه هو مجرد نشر خبر صدور رواية أو كتاب مأخوذ من ظهر الغلاف، لتهنئة الكاتب «الزميل» غالبا، ويكتبه «زميل» لم يقرأ الرواية ولن يقرأها، لكنه يؤدى «واجب الزمالة». والكاتب الذى يأخذ نفسه بجدية فى تصورى يحبُّ أن يأخذه الناقد بجدية أيضا. والمجاملات تكون فى المعاملات الشخصية. لكننا نتكلم عن كتاب موجود فى الساحة العامة، متاح للآلاف أن يقتنوه ويقرءوه، وعن ناقد يكتب عنه فى الساحة العامة لآلاف القراء أيضا. فالكاتب والناقد مسئولان أمام الجميع. وأنا مع الموضوعية والجدية والدقة والصراحة المهذبة لكن الصارمة، وطبقتها فى نقدى سواء كنت أنقد عمالقة أو شُبَّانا ينشرون أعمالهم الأولى. فالعمالقة يحتاجون إلى أن يدركوا أنهم ليسوا فوق النقد، والشبان بحاجة للجدية فى التعامل مع عالم الإبداع وتحمل مسئولياتهم فى المجال العام وأمام الفن الذى يبدعونه.

– تمنيت كثيرا العثور على من ينقد النقد. باعتباره صنو الإبداع، لكنى لم أجد ما تمنيت، وتعشمت أن تفعل هذا لجديتك. لأن أكثر النقد ضعيف، والعميق الممتع المفيد نادر. فهل النقاد يتجنبون الكتابة عن بعضهم، أم أن نقد النقد ليست له ذات الأهمية؟

النقد نظرى أو عملى. النظرى يؤسس مذاهب أو مدارس أو نظريات تُطبق فى النقد العملى الذى يتناول النصوص الإبداعية. ومدارس النقد قد تكون الواقعية الاشتراكية التى تبحث فى الوظيفة الاجتماعية للأدب والفن، أو المدرسة السيكولوجية، أو البنيوية، أو النسوية، إلخ. والنقاد الذين يتبنون هذه المناهج النظرية قد يختلفون، خاصة أن بعض المذاهب النقدية لها أسس أيديولوجية وهو ما يختلف فيه سائر الناس. فالواقعية الاشتراكية فى تركيزها على الوظيفة الاجتماعية للأدب والفن لن تُرضى أصحاب النظرية الجمالية التى ترى أن الفن قيمة جمالية بحتة ولا وظيفة له غير هذا. أما النقد العملى فينتمى إلى نظرية أو أخرى من الموجود فى الساحة، أو هو انتقائى يمزج بين المذاهب. وقد تقرأ نقدا لنفس العمل الإبداعى فيدهشك اختلاف التناولات، لأن كل ناقد قرأ العمل من قاعدته النظرية وأخذ ما يناسبه، وقد تُشجب أعمال إبداعية من قبل النقاد ليس لعيوب جمالية فيها، وإنما لأنها فكريا لا تتواءم مع أيديولوجية مذهبهم النقدى. انظر مثلا الكتاب الشهير «فى الثقافة المصرية» «1955» الذى انبرى كاتباه الشابان آنئذ «محمود أمين العالم» و«عبدالعظيم أنيس» لتحطيم أيقونات الأدب المصرى وقتها من زاوية الواقعية الاشتراكية.

– أتصور النقد أحيانا قاطرة للإبداع، يدفعه صوب مرتقيات صعبة، فحين يكون الناقد محيطا بمناهجه، عليما بتجليات الإبداع، يزدهر النقد ويسهم بقوة فى إنعاش الحركة الأدبية. أهذا صحيح، أم لديك تصور أدق؟

كثيرا ما أفكر فى أن مبدعينا جنود مجهولون. يعملون لوجه الله غير مرتجين جزاءً ولا تقديرا. ليس هناك كاتب يكتب لنفسه. إنما يكتب ليُقرأ ويُنقد. القراءة من قبل جمهور عريض شىء والنقد شىء آخر. الجمهور يمكن تمييزه بأرقام المبيعات كمقياس للنجاح. ولنعترف بأن الإنسان المصرى والعربى ليس قارئا. مقياس النجاح لرواية عربية أن تُباع منها آلاف النسخ. لكن نجاح رواية إنجليزية يعنى أن تُباع بعشرات أو مئات الآلاف من النسخ وأحيانا الملايين. لذا يكون النقد للمبدع بمثابة الأكسجين اللازم للتنفس والحياة. النقد التفات شخصى، بالاسم والتخصيص. وإشارة للكاتب بأن هناك من قرأه وتفاعل مع إبداعه وكوّن فيه رأيا وتجشم عناء إعلانه على الملأ ليشرك فيه آخرين وداعيا إياهم إلى قراءته. هذا الأكسجين غير متوافر لمبدعى العربية. انظر إلى مئات الروايات على سبيل المثال التى تُنشر من المحيط إلى الخليج كل عام وانظر فى كل المطبوعات الثقافية والصفحات الأدبية فى الصحف والمجلات وقلْ لى كم منها يحظى بمراجعة جادة من النقاد.

المحظوظون هم من يُنشر خبر ظهور كتبهم ونبذة منقولة من الأغلفة. فالمطبوعات لا ترى أن من واجبها مراجعة الأعمال الأدبية والفكرية المنشورة وتقديم رأى إلى قرائها. وصحفيوها ليسوا مؤهلين، وهى لا تستكتب المؤهلين من خارجها. وأحيانا تجد صحفيين ومقدمى برامج فى التليفزيون يحاورون كاتبا دون أن يقرءوا كتبه أو بعضها، ويطرحون أسئلة ساذجة. الأمر جد مؤسف بالنظر إلى الإمكانات الهائلة المتاحة التى تُهدر فيما لا ينفع الناس. بينما يناضل المبدعون الشهداء من أجل نفحة أكسجين من النقد الموضوعى الجاد المخلص للأدب والفن، لا الشِللى القائم على الزمالة والمجاملة والتطبيل المتبادل.
وأحيانا أرى النقد «السبنسة» «عربة القطار الأخيرة». أى فى ذيل الإبداع، يلهث خلفه إذا أسرع، ويغفو إذا تمهل! فهل هذا صحيح بتقديرك، أم أنه تصور قاصر؟

علة وجود النقد الإبداع، ولولا الإبداع لما كان هناك ما يُنقد ولا كان هناك ما يُسمى بناقد أدبى أو ناقد فنى. النقد رصد وتأريخ وتحليل وتصنيف للإبداع. مثلا هاجر عشرات آلاف اللبنانيين إلى الأمريكتين أواخر القرن 19 وأوائل العشرين، وبزغ من بينهم بعض الشعراء مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضى وغيرهم، وبعد عدة عقود رأى بعض دارسى الأدب والنقاد أن بينهم قواسم مشتركة، ودخلوا التاريخ باسم «مدرسة المهجر». وكذا برزت مجموعة من الشعراء المصريين مثل البارودى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وغيرهم، ورصد النُقاد ومؤرخو الأدب القواسم المشتركة بينهم، فإذا بنا أمام المدرسة الإحيائية، التى سعت لإعادة الشعر العربى إلى ما كان عليه فى العصر العباسى. النقد دائما تابع للأدب الذى ينشأ ويتطور عضويا فيأتى النقد لدرسه وفهمه بطريقة منهجية منظمة. ويستفيد الأدب من النقد على المستوى العملى التحليلى، لكن النقد لا يصادر حريته أو يحد حركته واتجاهاته. وقد حاول النقد الأيديولوجى فى ظل بعض الأنظمة الشمولية أن يحدد للأدب والفن مساراته ورؤاه كما حدث فى ظل «الستالينية» مثلا، لكنها كانت محاولات وقتية وزالت بزوال فارضها.

عادة أشعر بفارق كبير بين النقد الأكاديمى فى الدوريات المتخصصة، والمُحكَّمة، وفى المحاضرات، وبين ما يسمى نقد فى الصحف والندوات. الأكاديمى يوغل فى ابتعاده عن الواقع، والصحفى يعانى الخِفّة والاستسهال. ولأن كتاباتك مغايرة لهذين النوعين، وتستخرج دُرر الإبداعات بموضوعية ووضوح، وتمنح المتلقى فرصا كريمة لتأملها والاستمتاع بها، فكيف ترى هذا وذاك؟

أشكرك كثيرا على طرح هذا الموضوع الذى اعتبره بالغ الأهمية وكثيرا ما فكرت فيه شخصيا بكثير من الحسرة. النقد الأدبى عندى جزء من الحياة الثقافية العريضة، تماما مثل الإبداع. فكما أن الروائى أو الشاعر، لا يخلق نثره أو شعره من أجل دائرة مغلقة ممن يكتبون الشعر والرواية، فكذلك النقد الأدبى هو نشاط ثقافى عام وليس موجها للنقاد والأكاديميين زملاء المهنة. وبالرغم من كونى أكاديميا أحترم المهنة وتقاليدها، ونشرت الكثير من الأبحاث فى الدوريات المتخصصة والمحكَّمة «أغلبه فى اللغة الإنجليزية بحكم عملى فى جامعة بريطانية»، وبحكم الاغتراب فاتنى للأسف الإسهام فى حياتنا الثقافية العامة ذات الدور القومى بالنقد فى الصحف والمجلات وغيرها من الوسائط العامة، لأن هذا هو الطريق الحقيقى للتأثير فى الذائقة الأدبية والفنية. هو السبيل للترقى بفكر الأمة وإشراكها فى معرفة الناقد والمفكر. وهو وسيلة التفاعل العلنى مع الإنتاج الإبداعى للأمة بما يفيد الجميع. وأرجو أن تستثنى من هذا ما تسميه «بالنقد الصحفى الاستسهالى» فهو ليس نقدا وإنما «استرزاق» واستعراض للجهل وملء فراغات صحافية يجب تتاح لكاتبيها، وهو إفساد إجرامى للذوق العام، حتى لو كان عفويا، وقتلٌ لروح الأمّة وأملها فى النهوض والترقى. وقد يشعر البعض بأن هذا «كلام كبير» أو مبالغة، لكنى أؤمن به حرفيا، وأندهش جدا لأن البعض لا يرون الأمور بهذا الوضوح الشديد. وعلى من يستَهوِل كلامى أن يتأمل الحال الثقافى لمصر، مقارنة بما كان عليه منذ خمسين سنة، أو أبعد من ذلك. فالنهضة الثقافية الحديثة لمصر فى القرن العشرين حدثت على صفحات الصحف والمجلات السيارة. أين نشر طه حسين ومحمد حسين هيكل وزكى مبارك وعباس محمود العقاد وسلامة موسى ومحمد مندور ولويس عوض وعبدالقادر القط وفاطمة موسى ورجاء النقاش وغالى شكرى وعلى الراعى والراحل حديثا جابر عصفور- أين نَشرَ كل هؤلاء، وأغلبهم أكاديميون بالمؤهل والممارسة، نقدهم الأدبى فى القديم والحديث؟ نشروه فى الصحف والمجلات. والأسماء التى ذكرتها عفو الخاطر تنتمى إلى عدة أجيال من مطلع القرن العشرين إلى عقوده الأخيرة، وقد ساهموا جميعا فى صنع الثقافة المصرية والعربية الحديثة، كلٌّ على قدره. لكن هؤلاء انقرضوا وتركوا وراءهم خواءً مخيفا.

فهمت من كتاباتك أنك تستمتع بالعمل الأدبى أولا. «تُمزمزهُ وحدك» مرة أولى قبل الكتابة عنه، تساعدك على تحديد المحاور النقدية، ثم تبلورها بكتابة عميقة تصل إلى المتلقى المتوسط. وفى رؤاك النقدية تصادفنى «لقطات استمتاع شخصى وليست للقارئ». خاصة حين يكون المبدع مثل «نجيب محفوظ». كما رأيت فى تناولاتك لأعماله؟ فأنَّى لك هذا؟

أشكرك على هذه الملاحظات. الحقيقة أن الاستمتاع شرط للكتابة. بل هو شرط للقراءة، فلا أمضى فى قراءة عمل إلى النهاية ما لم أجد فيه متعة فنية أو فكرية. فالعمل الأدبى يجب أن يجعلك تفكر فى الأسئلة الاجتماعية الكبرى. والأسئلة الوجودية والميتافيزيقية. وخبايا النفس الإنسانية. المهم أن تفكر وتتأمل وتعيد النظر فى هذه المسألة أو تلك. لا يهم أن تتفق أو تختلف مع ما تقرأ، المهم أن يحفزك العمل للتفكير. أن تشعر بالكاتب يشركك فى تأمله ويجعلك تفكر معه. وأن يخاطب العمل إحساسك الجمالى باللغة عن طريق المجاز والرمز. فالعمل الأدبى جماليّ بالمقام الأول وليس مجرد وعاء للأفكار. هذه شروط الاستمتاع الدنيا، وإنْ لم تتحقق أو تبدو آثارها من وقت مبكر فى العمل، لا أستمر فى قراءته، ناهيك عن الكتابة عنه. وحين أكتب أستهدف القارئ المثقف العام وألتقيه فى منتصف الطريق. ولا أحب أن أكون أكاديميا يكتب لأكاديميين آخرين، إنما «أكاديمى» يتوجه للقارئ العام. ومثال الكتابة النقدية الجيدة عندى تلك التى تكاد تكون أدبا فى ذاتها. يجب أن تكون قراءة النقد متعة أسلوبية وفكرية مثل قراءة الأدب.

هل هى عملية مرهقة؟ أم يُسهِّلها التكرار والاعتياد؟

مرهقة لكنها ممتعة. أما التكرار والاعتياد، فقد يدهشك أن تعلم أنى أقارب كل كتاب جديد بكثير من الرهبة وكأنى تلميذ يطالع كتابا مقررا ويخشى أن يستعصى عليه. وقد يدهشك أن تعلم أنى حين أنجح فى إقناع نفسى بعد لأى بالجلوس لكتابة مقالة، فإنى أفعل ذلك وكأنها أول مقالة أكتبها فى حياتى، وأكتب الجملة الأولى شاعرا بأنها قد تكون أيضا الأخيرة وأنى إنما أتصدى لما لا قِبَلَ لى به، ثم تسلس لى الأمور وأنا لا أكاد أصدق.

لماذا نبدو متخلفين عن ركب الثقافة العالمية بمسافات محبطة ومحزنة؟ وكأننا نرتدى ملابس «يوزد» أو «سكند هاند» تُوّحى بالبؤس الثقافى!! هل ما زلنا عالة على الغرب بعد كل ما بذلناه وأبدعناه، بجانب الثراء العظيم بالمواهب والطاقات والإمكانات، وبعدما كنا على قدم المساواة مع الغرب لوقت قريب. أو على الأقل نوازيه، ونتابع نتاجه أولا بأول؟ ولماذا تختلف الثقافة عن سائر أركان الحضارة؟

فى المرحلة الحالية من وجودنا نحن حضارة آخذة لا عاطية، مستوردة لا مصدرة ولا مكتفية ذاتيا. الإحباط الثقافى الذى تشير إليه جزءٌ من إحباطنا الحضارى العام. نحن لا نصنع الفكر محليا، تماما كما أننا لا نصنع الأجهزة الإلكترونية الحديثة وسائر التكنولوجيات المتقدمة. هى منظومة واحدة إن غاب عنك أحد طرفيها، غاب عنك الآخر لأن التقدم التكنولوجى هو التطبيق العملى التجريبى للتقدم الفكرى النظرى. ومع ذلك وحتى لا نبالغ فى رثاء الذات، فثقافتنا المعاصرة هى العنصر الوحيد من منتجاتنا الوجودية الذى نستطيع أن نفخر به خارج حدودنا الجغرافية. فمصر على سبيل المثال ليس لديها ما تصدره إلى العالم الخارجى سوى ماضيها: المصرى القديم، الإغريقى الرومانى، القبطى، الإسلامى. هى تصدر ذلك بالجذب السياحى والإعجاب حول العالم بذلك التاريخ الثرى. غير ذلك ليس هناك شىء. كأننا توقفنا عن إنتاج أى شىء ذى بال منذ عدة آلاف من السنين. إنتاجنا الأدبى المعاصر هو وحده الذى خرج على استحياء عن طريق حركة الترجمة ليقول للعالم إننا لم نمت تماما، إن بعض الشُعَب الهوائية فى رئتنا الحضارية ما زالت تعمل. فيما عدا ذلك فالحضارة العربية كلها مشغولة بالثورات والانقلابات والحروب الأهلية والسفاهة والفساد وتبديد الثروات والصراعات الطائفية والتعصب الدينى والأنظمة الشمولية وإهدار الحقوق الإنسانية إلى آخر قائمة المساوئ الممكنة والمستحيلة. لذلك حين فاز «نجيب محفوظ» بجائزة نوبل فى الأدب كان حدثا جللا لم أرَ له مثيلا لدى الأمم الأخرى التى يفوز كتابها وعلماؤها من وقت لآخر بتلك الجائزة المرموقة. حدث جلل ما زالت له أصداء اليوم بعد أكثر من ثلاثين سنة، لأننا غير معتادين ذلك. دائما نشير إلى الكاتب العربى الوحيد الذى فاز بجائزة نوبل، غير مدركين أن هذا الفخر بمحفوظ هو فى اللحظة ذاتها اعتراف مهين بضآلتنا وعدم اعتيادنا الفوز.
حاضرنا يخلو مما يستحق ملاحظته أو الاعتراف به عالميا، مما خلق عندنا مركب نقص قومياً. نحتاج إلى أن نعود إلى مطالع القرن العشرين ونواصل ما بدأه جيل طه حسين فى مناخ كان ليبراليا حرا متفتحا سياسيا وثقافيا على الرغم من الاحتلال البريطانى وقتها. ولكن ها أنا أقع فى نوع مختلف من الفكر «السلفى». لا يمكن الرجوع إلى أى نوع من الماضى. لا نملك أبدا إلا التقدم من النقطة الحالية. الجهد المطلوب هائل، لكن كل شىء يبدأ بتغيير الفكر، وهو دور الكاتب الحر المسئول.

هل الناقد الرصين الموضوعى مثلك يجهز مُخطّطا فى ذهنه لرؤيته النقدية للإبداع قبل البدء فى كتابتها، أم يُكوّن تصورا مبدئيا يتطور بين يديه أثناء الكتابة مثل الإبداع، وهل الرؤية النقدية دفقة تنطلق وتنمو بذات لهفة الإبداع فى لحظات التجلى، أم أنها تتكون من طوبة على طوبة بتمهل وحرص ودقة إلى أن تتضح الرؤية لصاحبها أولا قبل طرحها للقراءة؟

فرضيتك الثانية الأقرب إلى حالتى. أتفاعل مع العمل أثناء القراءة وأكوّن بعض الانطباعات التى ترسخ تدريجيا فتصبح أفكارا موضوعية أو تتبدد أو تتغير إذْ أمضى فى القراءة. ولكنى أبدا لا أكتب من مخطط ذهنى متكامل. يلزمنى الجملة الأولى وبعد ذلك يتشكل النص ويتطور أثناء الكتابة ويأخذ أحيانا مناحى لم تكن واضحة لى من قبل، وهى عملية شبيهة جدا بالعملية الإبداعية. النقد ليس إبداعا لأن الإبداع يقوم على التركيب والبناء إما النقد فيقوم على تحليل ذلك البناء الإبداعى إلى عناصره الأولى. ولأن النقد مقاربة وتفهم لعناصر الجمال فى العمل الأدبى فيجب أن يكون جميلا أيضا. لا تستطيع أن تكتب عن جمال الأسلوب والأخيلة والرموز والمعانى بلغة تخلو من الجمال والقدرة على التأمل. لهذا فإن النقد الجدير باسمه فى نظرى لا بد أن يكون ممتعا فى قراءته بما فيه من جمال أسلوبى وفكرى. فالأديب والناقد فى نهاية الأمر وجهان لعملةٍ واحدة. هما شريكان فى صناعة الجمال والتعرف عليه، شريكان فى إعادة صياغة العالم عن طريق رؤاهما. هل كان أحد يسمع بالجاحظ أو شكسبير اليوم لولا صناعة النقد والتأريخ الأدبى والدرس الجامعى التى جعلت منهما ما هما عليه اليوم بعد مئات السنين، كل فى ثقافته؟ هناك من الأدباء العظماء مثل فرانز كافكا من عاش ومات شبه مغمور فى زمانه حتى جاء الدرس والنقد فجعلاه يحتل مكانته المرموقة فى تاريخ الأدب فيما بعد زمانه.

  • عن الأهرام

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *