القتل إغراقًا فى الماء


*أحمد الشَّهاوي

بدلا عن أن يسأل الشيخ الذى اصطفاه للإجابة: ما حُكم قتل الأسير تغريقًا بالماء؟ سأله: ما حُكم قتل الفئران تغريقًا بالماء؟، فأجابه الشيخ صوتيًّا: «المهم… إذا كان تغريقها بالماء تعذيبًا لها فلا يجُوز، أما إذا كانت الفئران تموتُ فى الحال فلا بأسَ».

وهذا السائل يُذكِّرنى بالرجل الذى جاء إلى ابن عمر بن الخطَّاب يسأله عن بعوضةٍ قتلها، فهل عليه دمٌ أم لا؟ فقال ابن عمر: سُبحان الله، يا أهل العراق تقتلون ابن رسول الله «أى الحسين بن على بن أبى طالب»، وتسألون عن دم البعوض؟

وهذا عندى ممَّا يُسمَّى بـ«الورع الكاذب »، وهو كثيرٌ فى زماننا بشكلٍ يلفت الانتباه، ويسترعى نظر المرء، وكان الإمام أحمد بن حنبل يستعيذ من خشُوع النفاق، ولا أحد ينسى قول عمر بن الخطَّاب لرجلٍ رآه يحمل تمرةً مُناديا: لقد وجدتُ تمرةً، فمن يا تُرى صاحبها؟، ولما رأى عمر أنه يفعل ذلك تظاهرًا بالورع، علاه بالدرّة قائلا له: دعك من هذا الورع الكاذب.

أقول قولى هذا، وأنا لا أكتم غيظى من ذلك الرجل، الذى ترك مسألة قتل داعش أربعة أسرى عراقيين لديها تغريقًا بالماء، وسأل عن جواز قتل الفئران تغريقًا بالماء، ربما لأنه يُبارك سلوكهم الشاذ والمريض، أو ينتمى إلى جماعتهم، أو عمد إلى التشويش على تلك الحادثة البشعة التى ليست من مُبتكرات داعش، وليس لها حق ملكيتها، إذ ورثتها عن الأسلاف منذ السنة الأولى للهجرة، حيث كان القتل تغريقًا أحد أساليب القتل المُتَّبعة والشهيرة والمذكورة فى عشرات المصادر التراثية.

وكأن «فقهاء» داعش التعساء الضعفاء يفتحون كتب التراث، لينقلوا ما فعله أمثالهم فى التعذيب وطرائقه وأساليبه وألوانه، ومن يقرأ كتب: تاريخ الأمم والملوك أو تاريخ الرسل والملوك المعروف بـ«تاريخ الطبرى»، وسيرة عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزى، وكتاب العيون والحدائق فى أخبار الحقائق، وتاريخ ابن خلدون، وكتاب الأغانى، ومقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى، وكتاب الولاة وكتاب القضاة للكندى، ونشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة للتنوخى، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم لابن مسكويه، والكامل فى التاريخ لابن الأثير، ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودى، والوافى بالوفيات للصفدى، ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان، والمنتظم فى تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزى، تاريخ الدول والملوك المعروف بتاريخ ابن الفرات، والعقود اللؤلئية فى تاريخ الدولة الرسولية للخزرجى، والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن تيمية، وكتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر المعروف بتاريخ ابن خلدون، وبدائع الزهور فى وقائع الدهور لابن إياس، وشذرات الذهب فى أخبار من ذهب المؤلف لابن العماد، ونزهة النفوس والأبدان فى تواريخ الزمان للصيرفى، وعجائب الآثار فى التراجم والأخبار المعروف بتاريخ الجبرتى، خطط الشام لمحمد كرد على، سيدرك أن التغريق يتكرر بحذافيره، فيما زاد عليه الداعشيون أمر التصوير الاحترافى بالفيديو، والقفص الحديدى الذى يغلقه أحدهم بقفلٍ، والذى وُضع فيه الأسرى العراقيون الأربعة، وتوحيد الزى الذى يرتدونه، وهو اللون البرتقالى لمن سيتم تغريقهم.

وفى تاريخ المسلمين قد شهدت مدن وممالك وأمصار وبلدان على مدار التاريخ الإسلامى عجائب تجل عن الحصر والوصف فى القتل تغريقًا أو إغراقًا، خُصوصًا فى زمان الدولة الأموية، والدولة العباسية، والأندلس.

ومن أبرز من شهد هذا النوع من القتل الحجاز واليمن ومصر والعراق (الموصل، الأنبار، تكريت، البصرة، بغداد، سُر من رأى، الحلة…) وتونس والمغرب وسورية.

لقد تم تغريق خلق كثير فى تاريخنا الإسلامى، ولو كانت أنهارنا وبحارنا ومحيطاتنا تتكلم لحكت الكثير عما رأته.

وربما لا يعرف كثيرون من الناس (ومنهم الشعراء) أن شاعرا عباسيا شهيرا هو أبونصر الخبز أرزى (٣١٧ هجرية – ٩٣٩ ميلادية) قد قتل تغريقًا، وكان أميًّا لا يتهجَّى ولا يكتب، ورغم أنه كان شاعرَ غزلٍ، فقد قُتل بسبب هجائه ل «البريدى».

ومما توقفتُ أمامه أنه فى سنة ٧٠١ ميلادية غرَّق ملك غرناطة نصر بن محمد الفقيه النصرى أخاه محمد، فى بركةٍ من الماء، لأن الجند لما رأوا الملك قد مرض مرضًا شديدًا وأوشك على الاحتضار، أحضروا أخاه محمد؛ لتنصيبه ملكًا حال حدوث الوفاة، فلمَّا تحسنت صحته أغرقه، لمجرَّد أنه وافق الجند وطمع فى المُلك.

وفى سنة ١١٨٣ ميلادية أمر حاكم بند ريق على الساحل الشرقى لخليج البصرة بقتل أختيه تغريقًا، لمُجرد أن أميرًا من جيرانه أقدم على خطبة إحداهما.

القصص أكثر من أن تُحصى، وينبغى نشرها وذكرها، ولا نخجل من «تاريخنا الدموى»؛ كى لا يتكرَّر، لكنه للأسف يخرج علينا أدعياء لا دعاة للدين، يُكررون الأفعال نفسها بدمويةٍ زائدةٍ، لأنهم يتصورون أنفسهم خلفاء وفقهاء وأئمة، وما هم إلا تجَّار دينٍ، يحرقون وينهبون ويسلبون ويسرقون ويهدمون ويقتلون ويسبون النساء ويفعلون بهن الأفاعيل باسم الدين، والإسلام برىءٌ منهم، فلا هم يراعون حُرمة شهر رمضان، ولا مشاعر من سيشاهد ذلك الفيديو الذى «برعوا» فى تصويره وإخراجه، كأنه مشهدٌ من فيلم سينمائى، إذ هناك كاميرات كثيرة مُثبتة ومحمولة ودوَّارة، وتحت الماء؛ لتُسجِّل الحركات والسكنات والأنفاس التى تصدر عن الأسرى الأربعة الذين تم قتلهم تغريقًا، ومن سيراه سيقول فى التو: انظر ماذا يفعل المسلمون فى بعضهم البعض؟

إنها دقيقةٌ واحدةٌ وبضع ثوانٍ، لكنها تلخص أفكار ورؤى مجرمين وسفَّاكى دماء، لا ملة لهم ولا دين، يعيش كثيرٌ مثلهم بيننا.
_____
*المصري اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *