خلدون الداود.. “دعونا نحيا بالفن”.

(ثقافات)

 

خلدون الداود.. “دعونا نحيا بالفن”.

*مفلح العدوان

—————————————————————————————

راهب لا يمل خلوته، لكنه يأتي بقوافل المحبين إلى حضن بيته، تراه مصلوبا على كل جدار عتيق، يناجى ببوحه مهابة الحجارة شجنا وعشقا، فيعانق الدرب، ويُمَسّد بيد حنونة على العتبات المشوقة للُقياه.

 مرة هو يقرع نواقيس الحرص على ما تبقى من ذاكرة مشتهاة، ومرات يصفن بالمتغيرات حوله فيعيد قراءة الحياة بمزيد من الحياة.

 خلدون الداود، هذا الفتى الذي كلما تقدم به العمر تعتقت روحه حياة مشتهاة، وتألق قلبه نبضا، وتبقى عين المحب عنده تفيض على من حوله طاقة رضا وقبول وعطاء.

 قد يصمت كثيرا، لكنه عندما يتكلم ينثر قمح الكلمات لتنمو سنابل المعاني على بيادر الحوار، وأنا عرفت خلدون الداود قبل أكثر من عشرين عاما، رصيده يزيد محبة وأصدقاء، رغم أنه (هو كما هو) ما زال على عهد الفكرة التي آمن بها، أذكر أنه أدهشني في مفتتح الفيلم الوثائقي (الفحيص/ سيرة قرية)، وهو يبدأ وسط كثافة دخان سيجارته قائلا (من هون بلّشنا السالفة)، وبعدها كان ترديد الأغنية (على بلد المحبوب ودّيني)، فمشيت معه راغبا في تلك البلد، أسير مستمعا له وهو يبشر قائلا دعونا نحيا بالفن.

 يا خلدون، هل ما زلت تحنّ إلى ذاك الراديو القديم الذي كانت أول اطلالة لك من خلاله على عوالم الموسيقى والغناء والأخبار وجمعة الأهل حوله وحولك؟! مذ ذاك الحين وأنت تعشق كل شيء معتق وقديم.

 يا خلدون الداود، كل مرّة أعود إليك أجدك في حالة اشتباك مع فكرة تريد تطويعها، أسئلة تروّض إجاباتها، أمكنة لا تريد أن تفقد عبقها، كل مرة أقابلك اتذكرك فصلا من سيرة قرية الفحيص، وقد استطعت أن تجعل هذا المكان الذي أحببت قِبلة للشعراء والفنانين والكتاب والرسامين والفوتوغرافيين وكتاب السيناريو والمفكرين، تملك الثقة بالمكان التي واطنته، فنثرت سحره قناعة بالمكان والانسان هناك.

 كتبت كثيرا عن خلدون في سياق مشروع رواق البلقاء، لكنها المرة الأولى التي أكتب عنه منفردا، عن روح خلدون وشخصه وقلقه، وأنا أعرف أن مغامرة رسم بورتريه لهذا الإطار الإنساني الإبداعي الفني البهي ليس سهلا، ولن يفيه قدره.

 لكن رغم هذا، فإن خلدون الداود لا يمكن أن تفصله بأي حال من الأحوال عن وهج قلقه بمحاولة مقاربة العالم مع بلدته، هو أحيانا يغيب لكنه لا يطيل الرحيل، غير أنه في هذه الغيبة يكون قد رصف طريقا بين نهر الأردن ونهر النيل، أو وثّق جانبا من نقوش البتراء، وقد ينبش في قبرص أي خيط وصل مع عمان، صار عنوانا لتلك الروابط التي يجدلها بذكاء الخبير وروح الفنان، وهو رغم ارتحاله وعودته لا يهادن في قضيته التي أعلنها دفاعا عن الثقافة والتراث والأبنية القديمة في بلدته الفحيص، عشقا للموروث والتاريخ والذاكرة فيها، وقد كانت لديه القدرة أن يجمع الكثيرين حول فكرته، هذا ما تلمسته، فعنده يجتمع السياسيون والاقتصاديون مع الفنانين والمثقفين والأدباء، يوائم لقاءاتهم، ويجلس بينهم كأنه الضيف وهم أصحاب البيت، هو هكذا خلدون الداود، لا تستطيع إلا أن تحبه، ففيه بعض رائحة النار، وعبق الهيل، ورغيف الطابون، كأنه يرصف شحوف الحجارة طرقا ومداميك، أراه حاملا فانوسه بفرح يتمشى في دروب الفحيص، يتلمس دفء الناس، يستعيد قصصهم، يطارد فراشات كان يرقبها أيام زمان، يحاول أن يستعيد خيوط النور المتسللة من شقوق النوافذ، ملامحه تشي بذاك الباحث المشتاق الذي لا يعرف إلا الأمل والفن والمحبة ولمّة الأهل والأصدقاء.. كل هذا وأكثر هو خلدون الداود.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

تعليق واحد

  1. ونعم الجار
    اجمد العتيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *