بين طيّات الزمان

(ثقافات)

 بين طيّات الزمان 

(قصة قصيرة)

أفلين الأطرش

  تمكّنتْ من الاهتداء إلى رقم هاتفها الأرضي بعد محاولات متعدّدة، ولم تكن هي من أجابت. ذكرتْ اسمها ومكان إقامتها للمجيب، وطلبت تكرّمه بمحادثتها. أصابتها الرعشة الأكبر لسماع صوتها، فتهدّج صوتها هي أكثر لتغيّر رنّة صوت تلك الطفلة التي تعيش في وجدانها، وكأنها نسيت لحظتها بأن أكثر من ستين عاماَ تفصلهما. ومما لا شكّ فيه أنّها تعاني أكثر من تغيّر نبرة الصوت بتعدّد الأسباب، لكنها لم تُشِر لأي من الملحوظتين. اختلطت مشاعرها أكثر للتنقّل بين لحظات الحزن والفرح، بين ألم البُعد وسهولة الاتصال، بين إغفالٍ لكل تلك السنين وإمكانيةٍ لاستعادة تلك الطفلة.

   لم تكن المرأة المُهاتِفة قد أعدّت أيّ سؤال في ذهنها، بعد اطمئنانها على أنّ المرأة الأخرى لا تزال بخير من قريبين لصيقين لكل منهما، عبر كتابة صمّاء على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي البعيدة كليا عن كلتيهما. فقط، سيطرت عليها إرادة الرغبة في إعادة الحياة إلى واقعها، بسماع صوت يجسّد صاحبته. بادرتها بذكر اسمها وبسؤالها في ما إذا لا تزال تذكرها، لتجيبها  الثانية بما لم تتوقّع، بأنها لن تنساها مطلقا  فهي لا تزال تحفظ لها قربها منها. لكنها رمت أمامها حفناتٍ من ثلوج تلك السنة البعيدة وما تلاها، في ابتعادٍ كليّ عن بياض الثلج واقترابٍ أشدّ من قسوة صقيعه، كبوح متأخّر لما كانت تداريه بصمتها غير العادي وبانغلاق نفسها.

  علا الوفاء لتلك الأيام على صوت كلّ سؤال، من شان إحداهما معرفة إجابته من غيرهما، إذ تبقى جميعها في إطار المعلومات العامة التي من الممكن التزوّد بها من أهل بلدة واحدة. كانت لهفة الصديقة المستعادة لمعرفة ما ذكّر صديقتها القديمة بها، بعد كلّ هذه السنوات الموغلة في الزمن، وكيفية اهتدائها إلى رقم هاتفها الأرضي لأجل محادثتها رغم تباعد الأمكنة، مربكة ومؤلمة، لكنّها حميمة. لم تعاتبها مطلقا لأنها انشغلت عنها طويلا، بهموم حياة قد تتشابه في قليلها، وقد تختلف كثيرا في تفاصيلها باختلاف مُعطيات العيش اليومي. ولتوضح لها أمر تذكّرها ومبادرتها الاتصال الهاتفي بها، شرحت  لها المرأة المهاتفة كيفية حضورها الطاغي، وصعودها إلى أعلى قمة في الذاكرة، حين ورد اسم عائلتها في سؤال وحيد من أحد أبنائها، فكتبت عنها ونشرت على صفحة ابنتها لتهتدي إليها، فهي صلة وصلها بالعالم الرقمي.

 تُدرك تماما أنّ الكتابة وسيلة هامة للاتصال البشري، تسبقها غاية التواصل الإنساني؛ فكَتبت عن أقلّ القليل، مما لمسته من عيش تلك الطفلة وما أحسّت به تجاهها  في سنة دراسية وحيدة جمعتهما وهي في العاشرة من العمر، قبل انزياح الاهتمامات والمتابعات في الزمان والمكان. أحاطت، مع كلّ ألم وقسوة مردود نبش ذاك التاريخ، بتفصيلات عيش حالة لم تكن مفرداتها اللغويّة بالتأكيد، قد وصلت إلى مسامعها  ومداركها  تلك الفترة كالاغتراب عن المكان، والحجر الطوعي الذاتي أو المفروض، والألم الناتج عن حبس مكنونات النفس  لقسوة مفروضة لا تسمح بالبوح، ومسؤوليات كثيرة لا يحتملها عقل، وقلب وجسد طفلة، وشرود يفرضه الإنكار المجتمعي، فيُقابل بمزيد من إنكار الذات وانشداد إلى المسؤوليات بإدراك ذاتي محض .

   بعد مصادقته على حكاية وصلته  بلفت نظره  إلى نشرها على صفحة التواصل تلك، وإيضاحه لجزئيّات هامّة منها هي لا تعرفها، وإضافة تفصيلات لم تكن تُذكر أمامها، تكرّم قريبها، من هو ابن أخيها، والذي صار صلة الوصل بينهما بإرسال صورتين دالتين على  ذلك المنزل، قبل إزالته، والذي تذكره هي كشاهد على أحداث كثيرة مما روت بقدر معرفتها. فالمنزل بالنسبة إليه يروي تاريخ عائلته هو، وهي لم تأته إلا زائرة ذاك العام بعدد مرّات قليلة. ابتأست كثيرا، فها قد أزيل شاهد على آثار خُطاها في ذاك المكان، ولم يتبقَّ إلا ما عَلق بذاكرتها وذاكرة تلك المرأة بفعل اندثاره.

   وليكمل حكاية بدأتها هي، أَرفقَ  نصّا مكتوبا يصف شوارع بلدتها القديمة بحوانيتها وأصحاب محالّها الذين تذكر كل واحد منهم باسمه، وتخصيص المنطقة المحيطة للمسير فقط للحفاظ على قيمتها المتوارثة. قرأت وبكت لغياب معظمهم  كما الكثير غيرهم ممن لم يذكر. فهي تحتفظ بشوارعها، التي لا تبتعد عن وصفها “ازقّة” من حارات تسمي ناسها، في روحها وفي تجاويف قلبها. فتلك الشوارع لم تكن إلا  طريقها اليومي  صعوداً من منزل أهلها الذي تبتدأ به تلك الأزقة،  لتستقلّ مع جمع الطالبات حافلة إلى مدرستهاً من سن الحادية عشرة وحتى سن  الخامسة والعشرين، كطالبة في صفوفها ابتداءً وكمعلمة لصفوفها انتهاءً، وانحداراً لها في طريق عودتها إلى بيت أهلها. توالى اجتيازها اليومي لها في زيارات قصيرة متقطّعة، بعد زواج وإقامة بعيدة عنها.

   لم يعرف بالتأكيد ابن أخيها ذاك وصلة الوصل بينهما، ما أحدثه في نفس المرأة الأولى من حزن وفرح تقاسما اللحظة ذاتها، لذلك لم تردّ على كرمه الشديد أو كرم من تواصلوا معها تلك المرة. فقد سيطرت عليها حالة من الضعف العاطفي البحت، بعلوّ صوت  اقتراب المرأة الثانية  منها على كل الأصوات. مع بقائها في صورة وحيدة حفظتها لها، ولا تنوي استبدالها أو تغييرها على الإطلاق. فقد تميّزت عن من هنّ في مثل عمرها ذاك العام الذي يحفظه الزمان بين طيّاته.

* أديبة أردنية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *