*عبد العزيز بومسهولي
هل بإمكاننا التفكير في الزمان، أم أنّ الزمان يتعذر التفكير فيه؟ بمعنى أنّ ما نفكر فيه بوصفه زمانًا، ليس إلا شيئًا آخر، لا يمت بصلة إلى الزمان، إلا من حيث كونه دالاًّ على نمط الوعي الذي نحياه في تجربة الحاضر، هذا الحاضر ذاته المتعذر الإمساك به، ما دام هو بؤرة كل ما نسميه أبعاد الزمان، الماضي الذي صار إليه هذا الحاضر، والمستقبل الذي سيغدو هذا الحاضر، وحاضر هذا الحاضر الذي يدوم لا ثباتًا، بل تبديدًا للصيرورة؛ غير أن مشكل الزمان لا يعني الزمان ذاته، هذا الزمان الذي لا نعرفه، بل فقط نعيشه باعتباره زمانية، أي نمطًا لوجودنا، أو نمطًا لحياتنا والتي بقدر ما هي موجزة، أو دنيا مستعجلة، بقدر ما هي بطيئة من حيث كونها إنجازًا للفعل الذي نختبر فيه زمانيتنا، ونعيش به تجربة الحاضر، من حيث أنّ هذا الحاضر، هو ما يجعلنا زمانيين، يستعجل فينا مهمة إنجاز الفعل في الحاضر؛ أما البطء فلا يرتبط سوى باستشعارنا المهمة التي تجعلنا لا فحسب نسعى للحفاظ على وجودنا، أي من خلال “الكوناتوس”، إنّما لكي نمارس فن العيش، الذي يعلي من قدرتنا على الابتهاج بالحاضر، ومن ثمّ يتعذر علينا الإمساك بالزمان، بما أنّه ليس من حيث هو زمان سوى أثر ميتافيزيقي، أما من حيث كوننا نعيش ما نسميه الزمان، فليس سوى نمط للكينونة، أي انكشاف لأثر الزمان فينا، هذا الذي نسميه “الزمانية” إذن.
فإذا تأملنا الزمان بما هو زمان، فإنّنا قد نجازف بالقول: إنّ الزمان لاشيء؛ أي أنّه لا يوجد، بل هو لا يغدو حتى مجرد وهم إن لم نفترض وجود الإنسان، فالوهم بحد ذاته من قبيل ما هو إنساني، وليس شيئًا آخر.
فهل الزمان هو العدم ذاته، أي أنّ الزمان والعدم هما الشيء ذاته؟ هذه قضية قابلة للتأمل، وقد تفضي بنا إلى محاولة يائسة، وهي إثبات العدم. وكما أنّنا لا نستطيع قط إثبات العدم، فكذلك لا نستطيع قطعًا إثبات الزمان.
العدم بما هو عدم لا يوجد وجودًا “كائنيًّا”، أو على نمط كائن يوجد، فما يوجد ليس إلا الوجود ذاته وليس شيئًا آخر، أي الوجود الذي يعطي الموجودَ الكائنيةَ ويسلبها. فأنا بوصفي موجودًا “كائنيًّا” لا أمتلك قط أيّ إمكانية لإثبات العدم، ومن ثمّ لإثبات الزمان مادام كل من العدم والزمان ليسا من قبيل الكائنية، فهما لا يقبلان التعين ولا التحقق في الموجودية، فهما باعتبار هذا المنظور مستحيلان ميتافزيقيان، فالوجود وجود بالضرورة أما العدم أو الزمان فهما ليسا في الحقيقة إلا مفهومين لكيفيتين من كيفيات صيرورة الوجود وتتمثلان في “الكائنية” المعطية وفي “العادمية” السالبة، ولذلك فإنّ ما بإمكاني إثباته ليس سوى هذا الوجود ذاته الماثل أمامي الذي لست موجودًا إلا بفضل “كائنيته” المعطية، والذي لست فيه سوى عنصر كائني من بين عناصر لا متناهية من الكائنات التي يرعاها الوجود أي يمنحها الكائنية، وكأنّ الكائنية هي روح الوجود المعطي، والتي يجدد بها وجوده، بـ”الكائنية” يكون الكائن كينونة متناهية منفصلة وحائزة لوجودها المستقل، وبـ”العادمية” يسترد الوجود الكائن المتناهي ويعيده إلى جوف اللامتناهي، ويسلبه ما يقوم كينونته الحية، فالسلب أو ما تواضعنا على أنّه عدم لا يقوم إلا بإتلاف الموجود وإخفائه في جوف الوجود. ومن ثمّ نستطيع القول إنّ الموجود الذي كان لا ينعدم انعدامًا محضًا وإنّما يتلاشى في جوف الوجود، يعبر الوجود عن نفسه بالكائنية المعطية للكينونة وبالعادمية التي تسلب الكينونة أي تعدمها، وبذلك فالوجود ذاته هو العادم، وليس العدم ذاته بما هو عدم محض، فمادام العدم بحد ذاته عاجزًا عن أن يوجد بما هو عدم محض، فإنّه إذن عاجز عن التعديم. التعديم من نسيج الوجود وليس من نسيج العدم .
ليست الكائنات / الموجودات المتناهية في لحظات كائنيتها إلا وجه الوجود، ومظهره أو سطحه، وبما أنّها قابلة لسلب الكائنية أي للتعديم بما هو تلاش وليس بما هو فناء محض، فإنّها قابلة للطي فسرعان ما يطويها الوجود ويدخلها الى جوفه، فهي تنعدم لا لأنّها تصير عدمًا، وإنّما تصير عناصر متلاشية تغذي قوة الوجود وقد تصير بتحولها الى ذرات بداية لانبثاق موجودات أخرى، وتحمل معها بما هي آثار مطوية أو بما هي ذرات متحولة في جوف الوجود قصة هذا الوجود ذاته، ومعنى ذلك أنّ الوجود لا يلقي بكائناته إلى العدم، بل يلتهمها ويحتفظ بها ذرةً متلاشية، ولكنها تظل في تحللها حيوية مادام الوجود يحيا بها. ومعنى ذلك أيضًا أنّ كل موجود لا يصير عدمًا خالصًا بالنسبة إلى الوجود وإنّما قوتا وتغذية لصيرورة الوجود. أو بمعنى آخر فالموجود يموت لا لأنّه يصير عدمًا وإنّما يموت ليصير متشظيًا مطويًّا في لاتناهي الوجود. الموت هو المعنى الكلي الدال على التحول من الانفتاح البراني الذي يسمح بنشوء الكائن على سطح الوجود إلى الانغلاق الذي يطوي كل كائن في ثنية الوجود.
يتعلق الأمر أيضًا بالكائن الإنساني القابل للموت، والذي لا يدل موته على العدم المحض، بل هو يدل على نمط تبدل صيغة الموجودية من نمط الكائنية إلى نمط التلاشي بما هو نمط إخفاء يسيطر به الوجود على حركة الموجود فيعيده إلى جوفه، ذلك لأنّ الموجود وهو يموت إنّما ينفصل عن كائنيته التي تجعله كائنًا برّانيًّا متخارجًا ظاهرًا فوق سطح الوجود، فالموت يلقي به في لامتناهي الوجود أي يعيده إلى الطيّ، والطيّ هو حركة الالتحام بالكلية، باللامتناهي، فإذا كانت ولادة الإنسان هي الكائنية المتناهية الزمانية-المكانية، أو هي انبثاق الجسد الإنساني انفصالاً يتزمن، فإنّ موته هو عودة إلى محايثة الكلية، إلى الضرورة التي تصون لا تناهي الوجود.
إذن فالموت ليس إلا واقعة تحكي قصة تناهي الكائن بما هي انكشاف للكائنية التي تمنح الحياة وتسمح بانبثاقه زمانًا وللعادمية بما هي سلب الموجودية، غير أنّ واقعة الموت هذه هي دليل على لاتناهي الوجود، فالوجود هو اللامتناهي الدائم الذي يلتهم المتناهي في جوفه ويطويه في المحايثة الكلية، فما من موجود “يوجد” أي يكون بانفصاله عن كلية المحايثة إلا لأنّه من جنس ينتمي إلى نمط البرانية، ذلك لأنّ البرانية انفصال آني، فهي كيفية من كيفيات ظهور الوجود من خلال الموجود، أي أنّه يتمظهر من خلال منح الكائنية بما هي تخارج الموجود. ففي البرانية تترعرع الكينونة وتصير وجودًا هنا والآن، وجودًا إمبريقيًّا متخارجًا أو متحققًا عينيًّا بما هو زمان، وبالتالي تصير البرانية هي كيفية انبثاق الزمان بما هو زمان الكينونة المتناهية، وليس بما هو زمان كلية الوجود، ليس ثمة زمان في الوجود اللامتناهي، لأنّ الزمان إنّما ينبثق في المتناهي الجسدي الإنساني لا غير. ومن ثمّ فالزمان ليس شيئًا ولا يعني أي شيء بالنسبة إلى الوجود، لأنّ منبع دلالته هو الإنسان ذاته، فليس الزمان سوى حدس الكينونة لذاتها في تخارجيتها، في انفصالها وظهورها البراني في العالم. والعالم هو من نسيج الكينونة المشتركة أو هو الفضاء البيإنساني، أي أنّه من نسيج الإنسان وليس من نسيج الوجود. في صلب هذا العالم كما يقول “هيدغر” ثمة زمانية بما هي أساس أنطولوجي لوجود الكينونة. إذا كانت الزمانية تشكل المعنى الأصلي للكينونة “للدازين”، وكان الأمر يتعلق بالنسبة إلى هذا الكائن في كينونته بحد ذاتها، فإنّ العناية تحتاج إلى الزمان وبالتالي تضع الزمان في الحسبان.[1]
يعني هذا حسب “هيدغر” أنّ استشراف معنى الكينونة بعامة يمكن أن يتم في أفق الزمان.[2] غير أنّنا بالمقابل يمكننا أن نقول بكيفية مغايرة بأنّ استشراف معنى الزمان بعامة يمكن أن يتم في أفق الكينونة. الزمان ينتسب وفق هذا التأويل إلى الإنسان بوصفه أساس ما نعطيه معنى الزمان.
بإمكاننا أن نقر مع “هيدغر” بأنّ الزمانية هي قوام كينونة “الدازين”، وأنّ التاريخية من حيث هي كينونة خاصة بـ”الدازين” هي في الأساس زمانية، غير أنّه إذا كانت الزمانية ليست من الزمان في شيء كما يزعم “هيدغر” في موضع آخر، فإنّ ذلك كما يتضح في تأويلنا يدل على أنّ معنى الزمان إنّما ينبع في كيفية انكشاف الكينونة وأنّ الزمانية هي نمط هذا الانكشاف، ومن ثمّ يغدو الزمان ذاته من نسيج الكينونة بما هي كينونة متزمنة، فما يتزمن ليس هو الزمان بل هو الكائن/الزمان = الإنسان. إذن ثمة معنى للزمان ينكشف في أفق كينونة متزمنة، أي في أفق كينونة منشغلة ليس بالزمان وإنّما بمشروعها الزماني. لا يتجلى الزمان بوصفه معنى إلا في أفق كينونة إنسانية يقظة تخط لذاتها مشروعًا زمانيًّا أو تاريخيًّا. تمنح الكينونة الزمان وتقوله وبذلك فهو معطى لها، لا بما هو كائن بل بما تكونه هي ذاتها بوصفها هي حقيقة الزمان. لكنها لا تكون حقيقة الزمان إلا إذا كانت كينونة حرة، وكان الزمان هو الحرية عينها، وهو ما يعني أنّ الزمان ينبثق في الكينونة من حيث هي حرية. فإذا كان الإنسان وحده يوجد أي إذا كان بما هو إنسان هو ذلك الكائن الذي تكون كينونته معلنة في الكينونة، انطلاقًا من الكينونة، وذلك من خلال الوقفة التي تلح على أن تظل مفتوحة أمام انكشاف الكينونة كما يقول “هيدغر”[3] فلأنّ هذا الكائن هو وحده القادر على الوجود الحر في العالم، فنمط وجوده الأصيل لا ينفتح إلا حريةً بما هي زمان. تكمن من ثمّ ماهية الزمان في الحرية. ليس الزمان شيئًا سوى حرية الكينونة. ومن ثمّ فهو لا ينكشف إلا في أفق عالم إنساني واع بإنسانيته وبوجوده على نحو الحرية. فما ليس حرية ليس زمانًا، ومن ليس حرًّا لا يتزمن، وإنّما يمتد في الضرورة أي في الكلية اللازمنية أو في أبدية المحايثة العمياء. بالزمان والحرية يصوغ الإنسان نمط وجوده الأصيل فيعطي لذاته عالمًا هو عالم القيمة فيحيا من خلالها بوصفه كينونة مستقلة ويبني فيها أفقه الفسيح.
بما أنّ ماهية الزمان تكمن في الحرية، وبما أنّ الحرية هي ماهية الإنسان بما هو رغبة واعية بذاتها، فإنّ الزمان ليس بما هو زمان ولكن بما هو”أثر ميتافزيقي” هو عطاء الرغبة. إذن ثمة ما نسميه “الزمان” لأنّنا كائنات راغبة في رغبة أخرى. وتوالي الرغبات هو أساس تحقق “الزمانية” مضيًّا وانصرامًا وتجربةً للحاضر العيني الذي يستعيد الماضي ليتجاوزه باتجاه المستقبل. نحن لسنا زمانيين لأنّنا نعيش في الزمان، ولكننا زمانيون لأنّنا نعيش وفق رغبة توقظ وعينا اليقظ بكينونتنا القادرة على أن تكون حرة، غير أنّنا لسنا قطعًا زمانيين حينما نعيش عاجزين عن الحرية، مفصولين عن الرغبة وفق موجودية غفلية لا تاريخ لها. إذن لا يعني الزمان شيئًا سوى أن نكون. مع ذلك فالتفكير في الزمان بما هو زمان يظل بالرغم من كل تأويلاتنا متعذرًا، غير أنّ ما هو قابل للتفكير ليس سوى زمانيتنا الخاصة بما هي تعبير أو حال من أحوال الوجود، ومن ثمّ فنحن عندما نصير سبينوزيين لا على سبيل التمذهب، بل على سبيل التعبير عن حال كوننا مشاركين في الوجود، سنقول بأنّ الوجود هو الجوهر الوحيد الذي نسميه وجودًا ضروريًّا وحقيقيًّا، وأما ما عداه فليس سوى أنماط للوجود، ولنردد مع “دولوز” بصدد “سبينوزا”: نحن لسنا كائنات، بل نحن فقط “كيفيات” من كيفيات الوجود، أو نحن مجرد تعبير عن صفة من صفات هذا الوجود. وما دمنا كذلك فما يشكل نمط كينونتنا هو اقتدارنا على الارتفاع بقوتنا لأجل بعث الزمان فينا، أي أنّ ما نستطيعه هو ما يصيرنا جديرين بأن نكون نمط عيش فريد في العالم.
[1] مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي – بيروت، 2012، ص 427
[2] نفسه، ص 428
[3] نفسه، ص 688
___
*مؤمنون بلا حدود