“السيلفي” أو حبّ الذات حتّى الموت!

“السيلفي” أو حبّ الذات حتّى الموت!

عيسى مخلوف

 

الصورة الذاتيّة الأولى في المرآة، العام 1910

“الكتابة عن الصورة الفوتوغرافيّة هي كتابة عن العالم”، تقول الكاتبة الأميركيّة سوزان سانتاغ. هذا “الإحساس الطاغي بسرعة زوال الأشياء”، يدفعنا إلى التقاط اللحظة الهاربة وتثبيتها داخل إطار، والاحتفاظ بها كأنّها الدليل على عبورنا المُسرع في الوقت العابر. هذا الكلام ينطبق على الصورة الفوتوغرافيّة أكثر ممّا ينطبق على السيلفي. صُوَر السيلفي تختلف علاقتها بالوقت، لسهولة التقاطها ونشرها وتوزيعها. كأن ثمّة صوراً قليلة نختارها ونحتفظ بها لأنّها توقظ فينا ذكريات لا نريد أن ننساها. لكن، أين سنجد هذا النوع من الصُّوَر الآن، في قلب طوفان الصور المتدفّق أمامنا. صورة تلي صورة أخرى وتلغيها، كأمواج البحر المتلاحقة يأكل بعضها بعضاً إلى ما لا نهاية. ويغيب عن بالنا أنّنا، من فرط ما نستعرض الشيء ونؤكّد على وجوده، نُغيّبه ونمحوه.

حتّى بدايات القرن التاسع عشر، لم يتعرّف البشر إلى وجوههم إلاّ في انعكاسها على المرايا (وكانت المرايا حكراً على الأغنياء) أو على صفحة المياه. في العام 1839، بعد سنتين من اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي الأولى في فرنسا، كان المصوّر الأميركي روبير كورنيليوس أوّل شخص يلتقط صورة ذاتيّة. في خمسينيات القرن التاسع عشر عبّر الشاعر الفرنسي شارل بودلير عن سخطه على الطبقة البورجوازيّة التي بدأ أبناؤها يتوافدون إلى محلاّت التصوير الفوتوغرافيّ في باريس لتخليد ملامحهم. أمّا الصورة الذاتيّة الأولى في المرآة فالتُقطت في العام 1910. في القرن العشرين، أصبحت اللقطات الذاتيّة جزءاً من الفنون التشكيليّة مع فنّانين ومصوّرين محترفين من أمثال أندي وارهول ومان راي وماريا لاسنيغ. في منتصف تسعينات القرن الماضي أيضاً، دخل التصوير الذاتي المرحلة الرقميّة وصار استعماله في متناول الجميع. كلّ ثانية، هناك أكثر من ألف صورة سيلفي في العالم، أي أكثر من 60 ألف صورة في الدقيقة، وأكثر من 86 مليون صورة في السنة. هناك إحصاءات تذهب أبعد بكثير من هذه النسبة. ويبقى السؤال: إلى أيّ مدى يظلّ الوجه مُلكاً لصاحبه عندما تصبح صورته مادّةً لانتشار عابر للقارّات؟

في السنوات الأخيرة، تحوّلت صُوَر السيلفي إلى أداة تسلية وفنّ وتَواصُل، لكنّ الوجه الآخر لهذه الظاهرة يتمثّل في إساءة استخدام هذه الوسيلة الجديدة من خلال التقاط الصور الذاتية وتوزيعها ونشرها بطريقة محمومة في وسائل التواصل الاجتماعي، ممّا يؤدّي، وفق المتخصّصين، إلى حالة مَرَضيّة تحتاج إلى معالجة لا سيّما حين تبلغ ذروتها وتتحوّل إلى نوع من الإدمان، عند الأشخاص الأكثر هشاشة. وهذا يعني أنّ التهوُّر في التعامل مع السلفي يشكّل خطراً على الصحة الجسديّة والصحّة العقليّة. فهناك من يتنافس في التقاط اللقطات الأكثر إثارة وخطورة، في المرتفعات والمحيطات والغابات، وفي حدائق الحيوانات المفترسة، أو بالقرب من قطار مُسرع. إنّها، هنا، صور السيلفي التي تقتل، ولقد تجاوز عدد ضحايا هذه الظاهرة في السنوات الثلاث الأخيرة الأربعمئة شخص. لذلك، استنكرت منظّمات غير حكوميّة إدراج بعض الشركات السياحيّة في برامجها استعمال واسطة التصوير هذه، لتشجّع السيّاح على التقاط صور مع حيوانات مفترسة، كما حدث في البرازيل. والحال هذه، بات من الأفضل أن يتلهّى السائح بالتقاط صورة ذاتيّة مع اللوحة التي دخل إلى المتحف من أجل رؤيتها ونسيَ أن يراها، بدلاً من أن يعرّض حياته للخطر.

لقد أصبحت صُور السيلفي، في أحد وجوهها، مرادفاً للنرجسيّة، صورة لعشق الذات المرضي. في كتاب “التحوّلات”، يروي الشاعر الروماني القديم أوفيد، قصّة نرسيس، الشخصيّة الأسطوريّة التي تعود، في صيغتها الأبعد، إلى القرن الثالث قبل الميلاد. نرسيس الذي أطال النظر إلى صورته في الماء وغرق في أوهامه. فور ولادته، ذهبت والدته إلى العرّاف تيريزياس لتسأل عمّا تخبّئه الحياة لابنها، وعمّا إذا كان سيبلغ سنّاً متقدّمة، فأجابها: “سيبلغها إذا لم يعرف نفسه”. كان نرسيس يتمتّع بجمال خارق فأُغرم به كلّ من رآه، لكنّه فضّل الأيائل التي يصطادها في الغابة. ذات يوم، وكان متعباً من الصّيد، انحنى فوق نبع ماء ليروي عطشه، فرأى انعكاس وجهه في الماء وعشقه. وبقيَ جامداً في مكانه أيّاماً طويلة، متأمّلاً في ذاته، يائساً من عدم القدرة على اللحاق بصورته.

  • عن نداء الوطن

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *