جلد الذات أو رصدها في مرايا الآخرين




• جهاد الرنتيسي



خاص ( ثقافات )


بدت المشاركة العربية في السجالات الدائرة حول واقعة “كولن” وتداعياتها المستمرة على ملف اللجوء للغرب أقرب إلى مدعاة لاستعادة طرح أسئلة “الأنا والآخر” من زاوية “حوار الطرشان” الذي يبيح التسرع و الانفعال وإسقاط المواقف المسبقة ولا يعطي أهمية تذكر للوصول إلى نتائج تترك اثرا في المفاهيم وأنماط السلوك التي أدت إلى جرائم التحرش الجنسي وما يمكن أن يبنى عليها من سياسات وممارسات غربية واعتبارات تطال صورة المجتمع الشرقي وثقافته .
تنقسم أشكال مشاركات المتساجلين العرب كما ظهرت في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي إلى قسمين أحدهما يعبر عن عقل باطن أو وعي حقيقي رافض لحدوث ممارسات التحرش فيما يحاول الآخر ركوب موجة السلوك الحضاري بالانسلاخ عن واقعه وجلد ذاته التي باتت عبئا عليه لسبب أو لآخر ولا شك في أن مثل هذا التعاطي العابر والسطحي حينا والمبتذل في انبطاحيته احيانا يضيع فرصة نبش ملفات عالقة وتجاوز النزوع لتسطيح المفاهيم المتعلقة بجوانب مرتبطة بما حدث .
أسهبت بعض الكتابات في الحديث حول عيوب في مكونات الثقافة العربية التي لا تخلو من مبررات ـ خجولة على الأغلب ـ لمثل هذه الممارسات حين يتعلق الأمر بالمرأة سواء بالعودة إلى ذهنية الغزو التي أخفقت الديانات والقوانين الوضعية في تهذيبها أو العقلية الذكورية التي توفر أرضية ملائمة لتواطؤ القوانين والإجراءات مع المتحرشين في البلاد العربية والإسلامية ولم تخل من تأشيرات إلى أن ما حدث في كولون امتداد لممارسات كادت أن تكون شبيهة أبرزها الحوادث التي جرت خلال تجمعات ميدان التحرير في القاهرة .
كتابات أخرى تعاملت مع الموقف من زاوية “طفل الخطيئة” الذي تشكل هويته عقبة أمام ولوج عالم آخر يشعر أصحابها بسويتهم الاجتماعية، ووفق هذا الفهم الذي تحول إلى سلوك وجد هؤلاء في حادثة “كولون” فرصة لتبرئة الذمة من الجلد المسلوخ، وقالوا في العرب وثقافتهم ما لم يقله أبناء المدينة الغاضبين من الواقعة المستفزة لوعيهم ونمط حياتهم الذي باتت معظم تفاصيله مطلبا لقطاعات واسعة من العرب والمسلمين يبوح بعضهم به ويخشى الغالبية مآلات البوح . 
اختلاف المنطلقات لم يمنع الجانبين من الالتقاء عند إدانة الواقعة وكان ذلك طبيعيا حين يتعلق الأمر بتوحش الممارسة وتخلف ممارسها ودونية نظرته للجنس الآخر وربما وجود نزعات اجرامية في سلوكياته وطريقة تفكيره لكن من غير الطبيعي أن يلتقي الجانبان عند فوبيا الحديث حول الخلفيات والظروف لا سيما وأن الدوافع النقدية للأول مختلفة عن دوافع الثاني .
أي نقاش موضوعي للواقعة يفترض أن يسلم بادئ ذي بدء بأن ماجرى في كولون وبعض المدن الألمانية الأخرى تعبير عن تشوهات ثقافية لا يمكن إنكار وجودها أو مجرد التفكير في التجاوب مع محاولات بعض المعلقين العرب الذين تعاملوا مع الحدث باعتباره مسألة طبيعية أو إلقاء المسؤولية على عري الفتيات الألمانيات كما فعل بعض رجال الدين .
في المقابل لا يمكن تجاهل رفض المجتمعات العربية لمثل هذه الممارسات، ظهر ذلك واضحا في الإدانات والانتقادات الواسعة لواقعة التحرش في ميدان التحرير وتدخل رأس الدولة المصرية عبدالفتاح السيسي لمعاقبة المتحرشين والحيلولة دون تكرار مثل هذه التجاوزات، ولم يكن الرفض بأوجهه الشعبية والنخبوية والرسمية نبتا شيطانيا بقدر ما هو تعبير عن ثقافة مجتمعية .
ولم يخل الأمر من نضال اجتماعي خاضته قوى يسارية وليبرالية وظهور رائدات نسائيات على مدى عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات للارتقاء بالذهنية والخيال العربيين باتجاه فهم حضاري لقضايا المرأة .
غاب عن معظم متناولي واقعة كولون اإهم يتحدثون عن كائنات يصعب الجزم بسويتها وهي تفر من الحروب وتركب البحار وتعبر الغابات وتعيش الجوع والحرمان وفقدان الأمان علاوة على انتمائها لبنى اجتماعية متخلفة تحكمها على الأغلب أنظمة بوليسية عجزت عن بناء الدول وتوفير الاستقرار لشعوبها . 
كما تم تغييب دور هذه العوامل وغيرها في مراكمة المبالغات حول صورة مجتمع الرفاهية الغربي في أذهان الذاهبين اليه بحثا عن الخلاص .
لا يتوقف التجاهل والتغييب سواء كان مقصودا أم غير مقصود عند هذه الحدود فهو يشمل أيضا إغفال حرمان العرب من دورة التحضر المفترض أنهم مروا بها خلال الحكم العثماني وزمن النهب الاستعماري وتوفير الغرب مظلات حماية لنظم سياسية كابحة للتطور في مختلف أشكاله بما في ذلك التطور الاجتماعي .
ثغرات الفهم التي تساهم في حدوث التجاوزات متبادلة، لا تتوقف على قطاعات في المجتمعات العربية، ففي التفكير الغربي بالشرق اختلالات أوسع وأشمل، ممتدة إلى مراحل تاريخية أبعد من منظور المجتمعات الشرقية المغلوب على أمرها.
من غير الممكن مثلا تجاهل النظرة التي شكلتها صورة النساء الشرقيات في رسومات أوائل المستشرقين الغربيين حيث جرت العادة على ظهورهن شبه عرايا في أوضاع مغرية وكأن الشرق يخلو من غير الغواني وحريم السلاطين .
كما يفترض أن تحضر في سياقات النقاش استنتاجات فرانز فانون حول العنصري الأبيض الذي يسقط الرغبات الحميمية المقموعة “السادية والمازوشية”على “الأسود” ويحول السيطرة إلى فانتازيا جنسية بعد إخضاعه الشعوب الافريقية واستعبادها .
ولا يخلو تضخيم ما حدث في كولون من صدمات الغربيين الراغبين في تبرئة ضمائرهم من إرثهم الاستعماري وما بعد الاستعماري مع اكتشافهم عقم أدوات تفوقهم التي يندرج في سياقها استقبال اللاجئين وانكشاف الخراب الذي تسببه السياسات الغربية في المنطقة، كما وضع اللجوء الذي زادت الأزمة السورية من كثافته الغربيين على محكات قيمهم وجديتهم في تمثلها وتحويلها إلى ممارسة حقيقية حين يتعلق الأمر بفواتير تفوق قيمتها ما يريدون التصدق به على مقهوري الشرق، وقد يفسر ذلك اتساع حضور القضية في لعبة السياسة الداخلية .
الاحصائيات المتداولة في ألمانيا مثلا تفيد بأن نسبة كبيرة من الذين يتم استطلاع آراءهم يرون في اللاجئين تهديدا لاستقرارهم ، كما تعاني نسب مرتفعة من رهاب الأجانب ولا سيما المسلمين منهم، وتفيد بأن تأييد حركة “بيغيدا” العنصرية عابر للايديولوجيات، كما أن هناك زيادة في الاعتداءات على دور رعاية اللاجئين ، والواضح أن هذه المعطيات تفرض نفسها بشكل متزايد على السياسة الألمانية تجاه اللاجئين حيث تراجعت المستشارة انجيلا ميركل عن طروحاتها المتساهلة وتعهدت بترحيل السوريين فور استقرار الأوضاع في بلادهم لتتلاشى تنظيراتها حول قيمة اللاجئين المضافة للمجتمع والاقتصاد الألمانيين .
تحول السياسات الرسمية تجاه اللاجئين أخذ أشكالا أسرع في دول غربية أخرى استبدلت خطابها الإنساني بالاستفاضة في الحديث عن قدراتها الاستيعابية وطرد طالبي اللجوء و تشديد القوانين للتهرب من منحهم حقهم المفترض كما حدث في الدانمرك التي تحول تغيير الديانة فيها إلى سبيل للالتفاف على القانون، وفرض بريطانيا “السوار العنصري” على اللاجئين وطلاء منازلهم باللون الأحمر لتمييزهم ، ووضع دول أوروبية اخرى حدودا لأعداد اللاجئين المستعدة لاستقبالهم ، وإبداء مسؤولين أوروبيين مخاوفهم من زيادة أعداد المختلفين عن ثقافتهم، وعدم التوقف عند اختفاء آلاف أطفال المهاجرين في أوروبا على أيدي عصابات تتاجر بهم لأغراض جنسية .
بشاعة ما جرى في كولن وغيرها من المدن الأوروبية يعبر عن تشوهات في الوعي والثقافة واختلال السلوك لكن ذلك لم يكن معزولا عن خلفيات تاريخية ومظاهر عنصرية غربية يتحمل مسؤوليتها التفكير السياسي الغربي وإفرازاته في المنطقة الامر الذي غاب عن قراء المشهد المجزوء والباحثين عن صكوك غفران لذنوب لم يرتكبوها على أمل التماهي بالآخر الغربي بعد العجز عن الاندماج في مجتمعه وساهم غيابه في توفير مدخل للتجاوزات الأوروبية على طالبي اللجوء . 
_____________
• كاتب من الأردن 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *