الرقص الشرقي.. تاريخ الجسد المتمرد

الرقص الشرقي.. تاريخ الجسد المتمرد

 

*لبنى ورشل

 

 

من منظور نسوي، يبدو الرقص حقاً سيادياً للمرأة على جسدها. وكما يراه البعض وسيلة للإغواء والتقرب إلى الرجل أو السيطرة على رغباته، فإنه يعد أيضاً أداة لتمكين المرأة ومساعدتها لرؤية تجربتها وجسمها من منظورها هي وليس من منظور الآخر، وأن ترقص لنفسها لا للآخر. فريق ثالث في العصور الحديثة قد يعتبره نوعاً من تنميط الأنثى وتسليعها.

قد يتهم المجتمع المرأة الراقصة ويعمل على وصمها بالخلاعة والاغراء. هناك خوف من الجسد الأنثوي حين يتحرك. للموضوع علاقة بالجنسانية sexuality ولا نستطيع أن نفصل ذلك عن كل تاريخ قهر المرأة واستعبادها وتملكها من داخل النظام الأبوي الذي تتعاون النساء لتنفيذه أيضاً.

لبنى ورشل

في كتاب نورا أمين الذي يحمل عنوان “رقص المضطهدين” والصادر بالألمانية عن دار النشر Matthes & Seits Berlin نرصد محاولة لإعادة النظر في تاريخ الرقص الشرقي من منظور نسوي ونقدي، يربط نسق التفكير الأبوي بالأفكار الاستعمارية والرأسمالية، وكم هي ناجحة هذه المنظومة في التعاون بعضها مع بعض.

في هذا الكتاب، عملية تفكيك للخطاب الاستعماري الذي يرى الرقص الشرقي فعلاً إيروتيكياً مستوحى من صورة العشيقة أو الحريم، لأن كل الهويات المحتلة هي هويات أدنى ومكرسة لخدمة السيد، وغالباً هي حالة من الاستعباد، والرقص والمرأة هما جزء من هذا السياق. بكلمات أخرى، فإنه في كل مرحلة من تاريخ الرقص الشرقي والكوريوغرافي والحركات والتصميم نرى أن كل حركة وتصميم رقص مرتبطان بصورة معينة للمرأة والحُكم.

وتقول نورا أمين: “فريدة فهمي التي كانت ترقص في زمن عبد الناصر والاشتراكية جسدت الأنوثة بطريقة مختلفة عن نعيمة عاكف وراقصات جيلها اللواتي انطلقن من كازينو بديعة مصابني. هن يظهرن لاهيات وغير جادات مقارنة بصورة المرأة العاملة من وجهة النظر الجامدة، ولكنهن كنّ رائدات أعمال في منظومة إنتاجية متكاملة ويوفّرن دخلاً للفرقة بأكملها”.

الشاهد أن للرقص الشرقي أهمية في تحرير المرأة إذ يخلق علاقة بين المرأة وجسمها، وهذه العلاقة لا تتحقق غالباً في أشكال الرقص الأخرى. اللافت للانتباه أن الرقص الشرقي يعطي مركزية لمنطقة الحوض، وأيضاً لفكرة الأنوثة، وبعض الأفكار التي لها علاقة بوصم هذه المنطقة في جسم المرأة، ويعمل كنوع من أنواع التحرير، فهو أيضاً يعتمد على إظهار شخصية الراقصة.

على أننا يجب أن نقر بأن مهنة الرقص كانت لفترةٍ طويلة بمنزلة الجسر الثقافي للتبادل المعرفي بين الشرق والغرب، وأن الراقصات –كما تقول شذى يحيى في كتابها “الإمبريالية والهشك بشك: تاريخ الرقص الشرقي” الصادر عن دار ابن رشد في القاهرة- كُنَّ يومـاً هن التمثيل المرئي الوحيد للمرأة الشرقية في الذهن الغربي؛ لأنهن النساء الوحيدات اللاتي كان مسموحاً للغربي برؤيتهن في بدايات القرن التاسع عشر. وشكَّل الرقص الشرقي منذ حملة نابليون وما تلا ذلك من الهوس والولع الذي أصاب الكُتّاب والرحالة بالراقصات إطاراً معرفياً للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب.

لم تخلُ الكتابات الاستشراقية في القرن التاسع عشر من وصفٍ واقعي نوعـًا ما للغوازي عند إدوارد لين أو وصف آخر يشط في الخيال مثل رسائل فلوبير. وباستثناء رسوم بعض المستشرقين المتخيلة عن الراقصات في الشرق أو رسوم إدوارد لين لملابس الغوازي، لا نعثر على أي سجل تفصيلي ودقيق لحركات هذا الرقص أو الغناء المصاحب له.

قبل ذلك بزمن طويل، ونعني بذلك مصر الفرعونية، كان الناس يرقصون في الجنازات لتوديع الموتى وفي مواكب الاحتفال بعودة المسافرين، وكان الفرعون نفسه يرقص أحيانـاً مع الكهنة في المعابد ضمن طقوس الصلوات.

على جدران المعابد في مصر الفرعونية يمكن أن ترى بعينيك صور الراقصات والراقصين في كل أنواع المناسبات القومية والعائلية، من موسم الحصاد إلى استقبال الجنود العائدين منتصرين.

ونجد في النقوش الفرعونية التى يزيد عمرها عن خمسة آلاف عام رسومات بارزة لراقصات يرتدين أزياء كاشفة عن مفاتنهن بمصاحبة فرقة آلات موسيقية. إن تسجيل جدران المعابد لظاهرة الرقص أو رقص المرأة بمصاحبة الموسيقى يعني أن ظاهرة الرقص في الحضارة المصرية لم تكن مرتبطة بتسليع المرأة (الأمر الذي سنراه في منطق الجواري والرقص الشرقي)، بما يعني أن الرقص الفرعوني كان عنصراً من عناصر الطقوس الدينية وإلا لما سجلته جدران المعابد.

فقد ارتبط الرقص بالنساء بسبب علاقته بالخصوبة وممارسته كنوع من التقرب من الآلهة طلبـاً للمطر أو المحصول الجيد أو الأبناء. والرقص الشرقي تحديداً-بالخصور والأذرع والسيقان وحركة الجذع والبطن واهتزاز الأرداف- كان طقسـاً تمارسه النساء معـاً تشجيعـاً للمرأة الحبلى، وحركات الرقص الشرقي المعاصرة تشبه كثيراً حركات الكاهنات في معابد عشتار وغيرها من الآلهة القديمة.

 ارتبط رقص البطن بالأنثى بحكم أنه تعبير عن الخصوبة. الإلهات “حتحور”، و”عشتار” و”فينوس” وغيرهن كُنّ رمزاً للخصوبة والنماء؛ لأن المرأة كانت تعتبر مصدر الحياة والتكاثر، ولكن عندما بدأ الرجال في السيطرة والزعم بأنهم أصل العائلة والخصوبة والسلطة وكل شيء، جرت مطاردة حتحور وعشتار وفينوس وتحطيم تماثيلهن وربطهن بالانحطاط والرذيلة.. إلى آخر ما نراه ونسمعه اليوم على ألسنة آخر المجتمعات المتمسكة بتفوق وهيمنة وسيطرة الذكور.

لاشك أن تسليع جسد المرأة بشكل فني راقص يجد سوقاً رائجة في الواقع المحكوم بقيم العصور الوسطى الإسلامية؛ حيث تشديد الخطاب الشرعي على منطق أن (المرأة عورة). في ظل هذا الواقع المكبل بالقيود وجدت فكرة تقديم المرأة كسلعة إغرائية طريقاً لها؛ بمعنى أن الرقص هنا لم يكن متعة شخصية بالنسبة للراقصة وإنما كان شكلاً فنياً لإشباع رغبة النظر لدى الآخر (الرجل).

ويمكن الإشارة إلى الوصف “المحافظ” الذي تلازم مع الرقص الشرقي وهو رقص الجواري؛ وهذا يشير ليس فقط إلى قضية النظرة الاجتماعية إلى فن الرقص الشرقي، ولكن أيضاً إلى الأصول التاريخية لنشأة هذا الفن.

فقد عرفت العصور القديمة والوسيطة تجارة الرقيق؛ وبطبيعة الحال نشأت مهنة ذات أصول تبتدئ دائرتها من جلابين العبيد والجواري إلى تجار الجملة، وقام بعض هؤلاء التجار بتربية وتعليم هؤلاء الجواري صناعة العزف على العود والغناء والرقص ورواية الأشعار وفنون المسامرة قبل إعادة طرحهن في سوق الطبقة الميسورة المترفة التي تمتلك السلطة والقصور.

من هنا نشير إلى الدور المهم الذي لعبته الجواري في الحياة السياسية والاجتماعية في العصور الوسيطة وتجدر الإشارة هنا إلى الحضور اللافت الذي احتلته شخصية الجارية المتعلمة في بعض حكايات “ألف ليلة وليلة”، والمعنى أن المسرح المصري في بداياته وجد مادة تسويقية وشائقة في رقص الجواري فأخرج (هذا اللون من الرقص) من قصور الطبقة المترفة إلى منصات المسرح التجاري.

ويقول ياسر ثابت في كتابه “حروب الهوانم” الصادر عن دار اكتب، إنه في مطلع يونيو 1834 أصدر والي مصر محمد علي فرمانـًا بمنع الدعارة ورقص “النساء العموميات”، وفرض عقوبة على المرأة المخالفة بالجلد خمسين جلدة للانتهاك الأول والحبس لمدة عام أو أكثر إذا تكررت الانتهاكات، أما الرجل فيجلد بالعصا على أخمص قدميه عند ارتكابه مثل هذه الأفعال المشينة.

تم رفع الحظر بالتدريج عن الراقصات في عهد عباس الأول (1848-1854) وعادت النساء من الجنوب لممارسة نشاطهن في العاصمة، وساد لقب “العالمة” على كل راقصات المدينة، وأصبحت “الغازية” هي صفة أو لقب من ترقص في الموالد والمناسبات الريفية ومكان إقامتها خارج العاصمة . وفي منتصف ستينيات القرن التاسع عشر تم رفع الحظر رسميًا، وجرى فرض ضريبة على الراقصات عام 1866، ليبدأ عصرٌ جديد في تاريخ الرقص ألا وهو عصر المقاهي في الأزبكية، التي راجت فيها أماكن الرقص ودور الدعارة.

بالنظر إلى تاريخ السينما المصرية، فإن الأفلام الغنائية والاستعراضية في عصر “الأبيض والأسود” احتلت مكانة بارزة في صُلب صناعة هذه الأفلام كشكل من أشكال الترويج المضمونة.

ونحن لا نستطيع أن نفهم سر إلحاح هذا الشكل من السينما دون أن نعرف كيف بدأ تسليع الرقص الشرقي على المستوى الجماهيري. وهذا يقتضي نظرة أبعد إلى المسرح المصري، بداياته وتطوره.

من الثابت تاريخياً أن عروض المسرح المصري التي اتخذت شكل مسرح العلبة الإيطالي في بداياته، بدأت مع أبو خليل القباني؛ فبواكير المسرح تشير بقوة إلى إسهام الشوام في بلورة ظاهرة المسرح المصري. وبالتعرف على بدايات هذا المسرح، نجد أن فن الاستعراض الراقص على النمط الغربي الإيطالي (فن الفودفيل) يشكل عصباً ترويجياً مهماً لهذا اللون من المسرح. والفودفيل لا يعتمد في الأساس على تسليع الرقص، ولكن يعتمد بالدرجة الأهم على تسليع جسد المرأة، الأمر الذي نلاحظه من خلال متابعة التابلوهات الراقصة الفودفيلية المصنوعة على نسق الفودفيل التي تعج بها الأفلام المصرية القديمة، والتي تعتمد أساساً على الزي الكاشف الذي ترتديه الراقصات في هذه اللوحات الاستعراضية.

يجدر التنويه إلى أن بعض مخرجي السينما قد اتكأوا على بعض أشكال وأنماط التعبير الشعبي كفن الأراجوز أو صندوق الدنيا كما نجد ذلك لدى المخرج المصري الواقعي المعروف صلاح أبو سيف في فيلمه “الزوجة الثانية”؛ حيث إنه يتناول موضوعه المهم الذي يناقش فيه الاستبداد والظلم والقهر الإنساني وردود فعل المقهورين أو أشكال مقاومتهم المتاحة لهذا الظلم الذي يقع عليهم من خلال محاكاة صندوق الدنيا الذي يقدم من خلال فكرة الموضوع الأساسية.

نأتي هنا إلى سؤال ملح تطرحه نوعية الراقصات اللاتي كن يقدمن التابلوهات في الأفلام المصرية القديمة؛ وهي كما أشرنا صدى لعروض الفودفيل التي كان يقدمها المسرح المصري السابق في ظهوره وبداياته التاريخية على السينما المصرية كانت تسوّق في المنطقة العربية بأثرها آنذاك، فقد أدى ذلك إلى شدة الاهتمام بعنصر الرقص الشرقي بتابلوهاته المختلفة كعنصر جذب وتسويق مضمون.

والسؤال الذي أشرنا إليه هو: لماذا تكون دائماً عادةً أطقم الراقصات من الأرمن؟ لتأتي الإجابة من خلال المنظور التاريخي والاجتماعي؛ إذ إنه نظراً لانفتاح ثقافة الأرمن بالقياس للثقافة المحافظة في منطقة الشرق الأوسط؛ لذ، فقد وجدت نساء الأرمن في الرقص سوقاً رائجة لهن.

غير أن هناك علامات رئيسية في فن الرقص الشرقي، ومن هؤلاء تحية كاريوكا، التي كانت كما يقول المفكر إدوارد سعيد في كتابه تأملات حول المنفى” (ترجمة: ثائر ديب) الصادر عن دار الآداب في لبنان “مزيجـًا من (العالمة) و(الراقصة) بالمفهوم الحديث الذي وضعت أساسه فنانة قادمة من بلاد الشام هي (بديعة مصابني) افتتحت صالة ونقلت الرقص من مهنة اجتماعية أساسـًا.. مكانها شارع خاص.. إلى حالة فنية أقرب إلى الاستعراض، ومن المؤسسة القديمة في حي العوالم إلى مؤسسة حديثة تدير علاقتها مع صناعات أقوى في المسرح.. وفي السينما أصبحت العالمة نجمة بمفهوم جديد. والعالمة أساسـًا تعني الراقصة التي وصلت إلى رتبة القيادة، تتحرك حولها جوقة من العازفين غالبًا من الرجال.. وفريق من الراقصات المساعدات”.

مقابل راقصات أخريات من خريجات مدرسة بديعة اللاتي لمعن وخفتن سريعًا، مثل ببا عز الدين وحورية محمد وحكمت فهمي، استمرت تحية كاريوكا وزميلتها سامية جمال في تقديم الرقص الشرقي طوال عقدين تاليين.

وإذا كانت السينما قد عرفت أسماء أخرى في مجال الرقص الشرقي وحتى الاستعراضي، مثل نعيمة عاكف، وببا إبراهيم، وكيتي، ونجوى فؤاد، وسهير زكي، ونعمت مختار، وزيزي مصطفى، وعزة شريف، وهالة الصافي، وفيفي عبده، وصولًا إلى دينا، فإن قليلات منهن أتقن التمثيل، وأبرزهن تحية كاريوكا ولوسي.

الرقص الشرقي موجود، بل وتنافسُ فيه الآن نساء من مختلف الجنسيات والأقطار، لكنه يظل علامةً رئيسية على تناقضات ثقافية ومجتمعية واضحة، وليس أدل على ذلك ما جرى من الضجة التي أحاطت ببرنامج “الراقصة” الذي شاركت فيه الراقصة دينا، وعرضته قناة “القاهرة والناس” في عام 2014 قبل إيقافه.

يبقى الرقص الشرقي بما له من دلالات ثقافية وتاريخ قديم، ملفاً مفتوحاً على المزيد من الجدل والنقاش، الذي يتأرجح بين المنظور النسوي، والمفهوم الاستشراقي والإمبريالي، والميزان الديني. إنه المادة الأولى لحكايات الجسد الأنثوي، في شرقٍ محكوم بالتقاليد والمحافظة، لكنه في الوقت نفسه يتوق إلى “الفُرجة” والاشتهاء.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *