أعظم الافتتاحيات في تاريخ الرواية


افتتاحية الرواية هي أصعب جزء في الكتابة،‮ ‬فمنها‮ ‬يدلف الأديب إلى عقل وقلب القارئ،‮ ‬ثم‮ ‬يتسلل عبرها بالتدريج إلى أن‮ ‬يمتلك حواسه كلها،‮ ‬السطور الأولى تشبه ضربة الجزاء في كرة القدم،‮ ‬وهي فرصة قصوى لتحقيق أفضل آداء عبر لحظات ترقب‮ ‬يكاد‮ ‬يتوقف القلب خلالها عن الخفقان،‮ ‬ويعتبرها الواقعيون بمثابة إعلان عما سوف‮ ‬يتبعها،‮ ‬فإما أن تسبب إرباكاً‮ ‬أو خداعاً‮ ‬أو إغراء أو تجتذب القارئ برفق،‮ ‬وذلك هو الجزء الأصعب،‮ ‬الذي‮ ‬يجب أن‮ ‬يتم دون قسوة أو إجبار‮.‬

‮ ‬يميل الأدباء في الغرب‮ ‬غالبا عند كتابة السطور الأولى لرواياتهم إلى تكرار الافتتاحيات المشهورة لأدباء من أمثال جين أوستن وميلفيل وديكنز،‮ ‬وتلك حقيقة معترف بها عالميا،‮ ‬وقد نشرت الجارديان تقريرا حول أهم‮ ‬افتتاحيات الروايات من وجهة نظر الأدباء واختارت من تضمنتهم القائمة الطويلة لجائزة المان بوكر،‮ ‬فحصلت على نتائج‮ ‬غير متوقعة ومتنوعة‮. ‬علي أي حال من‮ ‬يحتاج اللجوء إلى الكلاسيكيات بينما هناك ذلك التنوع الهائل في الروايات المعاصرة؟ على سبيل المثال كانت أول كلمات لدودي سميث في مقدمة روايتها‮ “‬القلعة‮”: “‬أكتب جالسة فوق بالوعة المطبخ‮”‬،‮ ‬وهو قريب مما كتبه قبلها أوسكار وايلد لكن ليس في مقدمة إحدى رواياته قائلا‮: “‬نحن جميعا في الحضيض إلا أن البعض منا‮ ‬يبحث عن النجوم‮”‬،‮ ‬عموما فإن احد مهام الكاتب أن‮ ‬يكون قادرا على الاقتباس،‮ ‬وهذه اختيارات بعض الكتاب لأفضل افتتاحية من وجهة نظرهم‮:‬


‮ ‬اختار جيم كراس صاحب رواية‮ “‬جمع المحصول‮” ‬مقدمة رواية‮ “‬روبنسون كروز‮” ‬لدانيال ديفور التي كتب فيها‮: “‬ولدت سنة‮ ‬1632،‮ ‬بمدينة نيويورك،‮ ‬لأسرة طيبة،‮ ‬وهو ما لم‮ ‬يكن معتادا في هذا البلد،‮ ‬فوالدي كان أجنبيا من برمين،‮ ‬استقر أولا في‮” ‬هال‮”‬،‮ ‬وحصل على مكانة جيدة في مجال التجارة التي تركها بعد ذلك ليعيش في نيويورك،‮ ‬حيث تزوج والدتي،‮ ‬وأطلق عليهما المقربون عائلة روبنسون التي أصبحت من أكبر العائلات في البلاد،‮ ‬و من هذا المنطلق أصبح اسمي روبنسون كريتزنار،‮ ‬إلا أنه مع التحريف المعتاد للكلمات الذي كان‮ ‬يحدث في انجلترا أصبح روبنسون كروز‮”.‬
يقول كراس عن هذه الفقرة‮: “‬إنها فقرة تحتوي ستة مقاطع موزونة بعناية،‮ ‬ومحملة بمعلومات مؤكدة التفاصيل‮- ‬تاريخ ثلاث مدن،‮ ‬مع قليل من الخلفية العائلية،‮ ‬خالية تماما من أي ادعاء،‮ ‬إلا أنها مقنعة ومطمئنة ومباشرة،‮ ‬مثل أن تقول‮ “‬حدث ذات مرة‮”‬،‮ ‬تضمن لك أن هناك رواية جيدة في الطريق،‮ ‬موجهة لي كأنني طفل صغير،‮ ‬لقد أحببت الرواية منذ بدايتها،‮ ‬ولا تزال واحدة من أشد الافتتاحيات قربا مني‮”.‬

نوفيوليت بولاريو‮ ‬صاحبة رواية‮ ” ‬نحن نحتاج أسماء جديدة‮” ‬وهي كاتبة من زيمبابوي اسمها الأدبي زانديل تشيل‮، ‬تقول إن أفضل افتتاحية رواية من وجهة نظرها تتلخص في ثلاث كلمات هي‮:” ‬كنا نريد المزيد‮ “‬،‮ ‬كتبها جاستين تور لروايته‮” ‬نحن الحيوانات‮”‬،‮ ‬وعن حيثيات اختيارها تقول ة كلمات قليلة،‮ ‬تكاد تعبر عن أن مجرد النطق بها أثمن من أي شيء،‮ ‬وأن باقي السطر‮ ‬يدبر الكثير طالما المؤلف‮ ‬يلتقط الحالة الحرجة التي تسيطر على ثلاث‮ ‬أخوات صغيرات،‮ ‬واختلال‮ ‬الواجبات الأسرية نحوهم،‮ ‬كنا نريد المزيد،‮ ‬إلى جانب تقديم هؤلاء الأطفال كوحدة واحدة،‮ ‬يتحدثن في وقت واحد مصطفين حول المطالب،‮ ‬والحاجة،‮ ‬والرغبة،‮ ‬إنها لطمة تتضخم بسرعة نتيجة التكرار كلما سقطنا داخل فوضى الأخوية،‮ ‬الرواية ظلت تتناول أحداث الماضي حتى وصلت إلى حيث بدأنا‮- ‬من بداية السطر ونريد المزيد‮.‬

أما أليسون ماكلويد صاحبة رواية‮” ‬غير قابل للانفجار‮” ‬فتختار هي أيضا جملة قصيرة في افتتاحية رواية‮ “‬المحبوب‮” ‬لتوني موريسون هي‮: “‬124‭.‬‮ ‬كانت حاقدة،‮ ‬ممتلئة إلى آخرها بسم الجنين‮” ‬وتبرر اختيارها بأن الملاحظات الأولى القليلة تشير إلى موسيقي النص الروائي‮: “‬لأنني مثل كثير من القراء تحدث‮ ‬غوايتي من خلال الأذن،‮” ‬حاقدة‮” ‬تحمل تلميحا بالتهديد من داخلها في ذلك الصوت،‮ ‬وسم الطفل تناقض لغوي لايقاوم أسمعه قبل أن أفهمه‮! ‬السطر نصف موحٍ ونصف لغز،‮ ‬من وماذا‮ ‬يكون‮ ‬124‮ (‬124‮ ‬شارع بلوستون هو عنوان منزا سيث،‮ ‬العبد الهارب‮) ‬أطفالها وزوجة ابيها المريضة،‮ ‬طفل،‮ ‬أي طفل؟ نحن محظوظون أن ذلك الشبح طفل،‮ ‬براعتها في أنها بدأت القصة أنه مسكون،‮ ‬ومن خلال الجمل،‮ ‬المحبوب‮ ‬غنية ومفعمة بالحياة‮”.‬

أما إيف هاريز صاحبة رواية‮ “‬الزواج من شاني كوفمان‮” ‬فقد اختارت جملة افتتاحية من رواية هيلاري مانتل‮ “‬استحضار الأجساد‮” ‬كتبت فيها‮: “‬أولاده تساقطوا من السماء‮”‬،‮ ‬وتبرر إعجابها بتلك الجملة القصيرة لأن‮ “‬مانتل تقدم من خلالها صورة‮ ‬غاية في القوة والغموض،‮ ‬أجبرتني علي التوقف عندها حين قرأتها لأول مرة،‮ ‬فهي عبارة محيرة وغامضة،‮ ‬وتُظهر على السطح السياسة المراوغة لتوماس كرومويل وبلاط هنري السابع،‮ ‬حيث لايمكن لأحد أن‮ ‬يحظى بالثقة،‮ ‬ولا شيء‮ ‬يبدو على حقيقته،‮ ‬هل هو حلم؟ لمن هؤلاء الأطفال؟ وكيف‮ ‬يستطيع الأطفال التساقط من السماء؟ بالرغم من أن هذا الكتاب تكملة لرواية مانتل‮ “‬وولف هول‮”‬،‮ ‬مما قد‮ ‬يفترض إن متابعته مهمة عسيرة،‮ ‬إلا أنها،‮ ‬بجملة واحدة،‮ ‬استطاعت توجيه القراء مباشرة نحو عالم ابتكرته ببراعة،‮ ‬عندها أصبح هناك مستوى آخر للقراءة،‮ ‬استمر في القراءة وسوف تدرك أن‮ “‬أطفاله‮” ‬في الحقيقة طيور جارحة للانقضاض من أجل القتل،‮ ‬تعود لسيدها كرومويل وصدورها ملطخة بالدماء،‮ ‬وقد أطلق كرومويل تلك الطيور بعد وفاة بناته بسبب الطاعون،‮ ‬واستطاعت مانتل على الفور خلق تعاطف لدى القارئ بإضفاء الطابع الإنساني على الشخصية الرئيسية فاقدة البطولة‮. ‬

اختارت شارلوت مندرسون مؤلفة كتاب‮” ‬انجليزية بالكاد‮” ‬افتتاحية رواية تشارلز ديكنز‮:”‬بيت قاتم‮” ‬التي كتب فيها‮:” ‬انتهى مايكل مازترم أخيرا،‮ ‬واللورد شانسيللور جالسا في قاعة لينكولن إن،‮ ‬طقس نوفمبر لايرحم‮”.‬
قالت‮: ‬مجد تلك الرواية مثل معظم الروايات العظيمة،‮ ‬يكمن في مزيج الإطار الجريء مع دقة التفاصيل،‮ ‬في آنا كارنينا كانت هناك عضلة ساق فرونسكي،‮ ‬وفي تلك الرواية ظهرت عبقرية ديكنز واضحة وسط الطين والغبار وقلة الراحة لمن حياتهم اليومية مشحونة،‮ ‬مستوحاة من الخوض عبر أمطار شوارع لندن،‮ ‬رواية تحتوي المعرفة والمتابعة الميكروسكوبية المدققة،‮ ‬وكل ذلك موجود‮ ‬في افتتاحية الرواية مما‮ ‬يجعلها تحفة أدبية رائعة‮”.
_____
*(اخبار الأدب)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

تعليق واحد

  1. رائع جدا اعجبتني هاته الافتتاحيات الجميلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *