*عبدالعالي نجاح
( ثقافات )
مما لاشك فيه أن المسار الفكري لجيل دولوز قد تميز بدراسات فلسفية أساسية حول مفكرين كبار كدافيد هيوم ونيتشه وكانط وبرغسون وسبينوزا و ليبنتز، حيث تندرج هذه الدراسات الفلسفية ضمن اهتمامه بتاريخ الفلسفة الغربية. ويرى جيل دولوز أن الاعتقاد السائد حول الفلسفة يتمثل في أن المعرفة الفلسفية معرفة تجريدية، وأن تاريخ المعرفة الفلسفية تاريخا تجريديا من درجة ثانية، حيث يتمثل في تشكيل أفكار تجريدية حول أفكار تجريدية. كما نلفي في رسائل فان غوغ نقاشات حول البورتريهات والمشاهد، قضايا ليست من طبيعة واحدة. ويتمثل تاريخ المعرفة الفلسفية في نظر جيل دولوز، كما هو الشأن في الصباغة، في فن البورتريهات، حيث نقوم ببورتريه ذهني وروحي، إنه بورتريه روحي. ويندرج هذا النشاط الفكري كجزء لا يتجزأ من المعرفة الفلسفية نفسها.
إن ما يثير بشكل عميق في الأعمال الفنية لفان غوغ وغوغان في بداية مشوارهم الفني ذلك الاحترام الكبير وكذا الخوف والهلع أمام اللون، حيث نجد في أعمالهم الإبداعية الأولى ألوانا داكنة، مما يعني عدم الاستعداد التام لتناول الألوان في إبداعاتهم الفنية. وقد تم الشروع في تناول الألوان داخل أعمالهم الإبداعية بعد عمل شاق وجهد كبير دام سنوات عديدة، مما يدعو بالضرورة إلى التفكير في هذا الاحترام وهذا التريث قصد تناول هذا الشيء الذي هو اللون بالنسبة للفنان التشكيلي؛ الشيء الذي يذهب حد الحمق وحد اللاعقل. ويتمثل تاريخ الفلسفة في فن البورتريهات الفلسفية، والذي يخول للفيلسوف إمكانية العمل الذؤوب قصد تناول ذلك الشيء الذي ندعوه فلسفة.
ليست الفلسفة شيئا تجريديا، لأن الفيلسوف لا يتأمل ولا يفكر في مجال الفلسفة، بل تتمثل وظيفة الفيلسوف في إبداع المفاهيم. لقد أبدع أفلاطون مفهوم المثال الذي يعني الشيء الذي لن يكون شيئا آخرا، أي الشيء الذي لن يكون إلا ما هو عليه.
إن العدالة وحدها، بالنسبة لأفلاطون، عادلة؛ لأن العدالة وحدها ليست شيئا آخرا غير صحيحة. ونفترض أن هذه الوحدة التي ليست إلا ما هي عليه، فكرة الشيء بصفته خالصا والذي ندعوه مثالا، إلا أن هذا الشيء المثال يظل تجريديا. إن القراءة المتمعنة لأفلاطون تكشف أن إبداع مفهوم المثال ليس اعتباطيا، بل هناك ضرورة متمثلة في وجود دعاة، بمعنى أناس يدعون الأحقية في هذا الشيء.
يعرف أفلاطون السياسي بأنه راعي الناس، أي الشخص الذي يعتني بالناس. فنلاحظ عدة أشخاص يدعون السياسي باعتبارهم يعتنون بالناس كالتاجر وراعي الغنم والطبيب… بعبارات أخرى، هناك متنافسون. إن القارئ الجيد لأفلاطون يكتشف أن السبب الأساس لإبداع مفهوم المثال يتمثل في وجود شتى أنواع الدعاة حول الشيء موضوع الدعوة، وأن المشكل الأفلاطوني يتمثل في اختيار الدعاة، وفي كيفية اكتشاف من بين الدعاة من هو الأصلح، وأن الشيء في حالته الخالصة هو الذي يسمح بهذا الاختيار. لا يمكن إيجاد المشاكل إلا من خلال المفاهيم التي يبدعها الفيلسوف. ولماذا يبدع أفلاطون مفهوم المثال في المدينة “الديمقراطية” الإغريقية؟ ففي الحقبة الإغريقية، يعين الإمبراطور موظفين سامين لشغل وظائف داخل جهاز الدولة، بحيث أن المدينة الآتينية تعد مسرحا لمنافسة الدعاة، وأن المواجهة بين المتنافسين تظهر باستمرار؛ من أجل ذلك أبدع اليونان الألعاب الأولمبية.
يحيل كل مفهوم فلسفي على مشكل ما، ويتمثل المشكل الأفلاطوني في اختيار المتنافسين. كما هو الشأن في صراع أفلاطون ضد السوفسطائيين، حيث يدعي السفسطائيون شيئا ليس من حقهم. من يستطيع تحديد حق ولا حق الداعية؟ تتمثل الفلسفة في إبداع المفاهيم، ويتم إبداع المفاهيم في علاقة مع عدة مشاكل؛ وبالتالي القيام بتاريخ الفلسفة يعني إعادة تأسيس هذه المشاكل.
لقد أبدع ليبنتز مفهوم الموناد، والذي يعني الفرد بصفته يعبر عن كلية العالم؛ وبتعبيره عن كلية العالم، فإنه لا يعبر بشكل واضح سوى عن جهة صغيرة من العالم، أي مجاله، أو ما يدعوه ليبنتز بقسمه. إذا وحدة ذاتية التي تعبر عن العالم كله، لكنها لا تعبر بشكل واضح إلا عن جهة، وعن قسم من العالم. لكن لماذا يبدع ليبنتز هذا المفهوم؟ يطرح ليبنتز مشكلا أساسيا متمثلا في أن الأشياء في العالم لا توجد إلا على شكل منحنيات؛ وأنه يرى العالم كمجموعة من أشياء منحنيات الواحدة في الأخرى. إن المادة منحنية على نفسها؛ وأن أشياء الروح، أي الرؤى والأحاسيس، توجد على شكل منحنيات داخل الروح. وبما أن الرؤى والأحاسيس والأفكار توجد على شكل منحنيات داخل روح ما، فإن ليبنتز يؤسس مفهوم الروح التي تعبر عن العالم كله، بمعنى الروح التي يوجد بداخلها العالم كله على شكل منحنيات.
يعني القيام بتاريخ الفلسفة عملا دؤوبا، حيث يتم العمل على تأسيس المشاكل وعلى إبداع المفاهيم، وبالتالي إمكانية تناول ما هو لونا في الفلسفة. وقد عملت وسائل التواصل الحديثة على استعارة طرائق التفكير الفلسفي قصد إبداع مفاهيم التسويق التجاري، إلا أن هذه المفاهيم لا ترقى إلى مستوى الإبداع الفلسفي. كما عمل بعض الفلاسفة على إعلان موت الفلسفة وكذا تجاوزها، إلا أن إبداع المفاهيم في علاقة مع مجموعة من المشاكل والقضايا يظل عملا فلسفيا بامتياز.
وتعرف المشاكل والقضايا الفكرية تطورا مستمرا، حيث يمكن للفيلسوف المعاصر أن يكون أفلاطونيا أو كانطيا أو ليبنتزيا، بمعنى أن بعض المشاكل والقضايا التي طرحها هؤلاء الفلاسفة تظل راهنية على حساب مجموعة من التحولات، وأن إبداع المفاهيم يتم في علاقة مع مجموعة من المشاكل التي تطرح في الحاضر. كما أن تطور المشاكل والقضايا الفكرية لا يخضع فقط إلى القوى التاريخية والاجتماعية، بل أيضا إلى صيرورة الفكر وتطوره، حيث أن طرحها يتم بطرائق متعددة متتالية، وبالتالي الدعوة المستعجلة التي تعمل على ضرورة إبداع مفاهيم جديدة. إن هناك تاريخا للفكر الخالص، والذي يدعو بالضرورة إلى إعادة كتابته.
لقد اهتم فلاسفة القرن 17 بمشكل أساسي متمثل في الحيلولة دون السقوط في الغلط، وبالتالي البحث عن كيفية تجاوزه. بينما عمل فلاسفة القرن 18 على تبديد الأوهام؛ حيث أن الروح لا تسقط فقط في الأوهام، بل إنها تعمل على إنتاجها. ويتمثل المشكل الرئيسي في طرد الأوهام التي تحيط بالروح. في حين، اعتبر فلاسفة القرن 19 أن الإنسان بصفته مخلوقا روحيا لا يكف عن قول الغباء، وأن المشكل الأساسي يتمثل في محاربة هذا الغباء. ويمكن القول أن مشكل الغباء جاء نتيجة القوى الاجتماعية الصاعدة والمتمثلة في البورجوازية في القرن 19، والتي جعلت من مشكل الغباء مشكلا مستعجلا.
إذا، لا تهتم الفلسفة بمسألة الصواب والخطأ، وبالتالي فإنها لا تبحث عن الحقيقة، حيث يعد إبداع المفاهيم في علاقة مع مشاكل معينة مسألة معنى. وتتمثل الفلسفة في إنشاء مشاكل وقضايا ذات معنى، وفي إبداع المفاهيم التي تساعد على التقدم في حل هذه المشاكل والقضايا الفكرية.
ويتمثل القيام بعمل فلسفي مشابه لعمل فيلسوف كبير في إبداع مفاهيم في علاقة مع المفاهيم التي أبدعها وكذا طرح مشاكل وقضايا فلسفية في علاقة وفي تطور مع تلك التي طرحها في أعماله الفلسفية. كما عمل سبينوزا ونيتشه على رفض الكليات، بمعنى رفض المفاهيم ذات قيمة كلية؛ وعلى رفض العالم المفارق، بمعنى الهيئات التي تتجاوز الأرض والبشر؛ إنهم فلاسفة الخلود.