(ثقافات)
القراءة المعاصرة: مشروع فكري… أم مشروع تغريبي؟!!
زياد أحمد سلامة
سنتان مضتا على وفاة محمد شحرور (1938 – 2019)، العلامة الأبرز فيما عُرف بتيار قراءة القرآن الكريم قراءة معاصرة، وقد شارك شحرور في قراءته المعاصرة أو في إنكار السنة والفقه وأصوله والثورة على التراث عدد من الكُتَّاب منهم نصر حامد أبو زيد، ومحمد أرغون ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد سعيد العشماوي، محمد عبده ماهر وخليل عبد الكريم وسيد القمني وحسن حنفي وغيرهم.
تقوم فكرة القراءة المعاصرة لا سيما عند محمد شحرور على ما يلي:
-
القرآن كتاب مفتوح ومتاح أمام جميع الناس للنظر فيه وتدبر آياته بغض النظر عن المستوى العلمي لمن يقوم بهذه العملية، وهذا يؤخذ من عدم وجود رجال دين في الإسلام، أو أي سلطة مركزية يمكن الرجوع إليها لتصحيح عملية التدبر والتفسير.
-
القرآن نص إلهي المصدر ولكنه نص تاريخي، وهو نص متطور فما كان يُناسب واقعاً تاريخياً في زمن مضى فليس بالضرورة أن يناسب هذا العصر، أو العصور اللاحقة.
-
يقولون بأن تدبر أصحاب القراءة المعاصرة في هذا الوقت غير ملزم للناس في الأزمنة القادمة.
-
يجب الاستفادة من العلوم الحديثة والمخترعات والمُكتشفات العلمية في القراءة المعاصرة للقرآن.
-
اللغة ابنة وقتها ولهذا فالنصوص متطورة ومتغيرة.
-
يقولون بالانفصال عن التراث بشكل عام، ومن أصحاب القراءة مَن يعلن عداءه وقطيعته من التراث جملة وتفصيلاً، فلا ينبغي التعامل مع السنة النبوية ولا الفقه ولا أصول الفقه ولا السيرة النبوية ولا حتى معاجم اللغة العربية مهما كانت عراقتها، ومنهم من يصرح بأن هذه العلوم هي علوم بشرية استحدثها الناس، فهي مجرد (اجتهادات بشرية) غير ملزمة لأحد.
ومنهم من لم يعلن إنكاره صراحة للتراث كله، ولكن نظرتهم للتراث نظرة سلبية اتهامية، ففي مجال الحديث مثلاً اشترطوا أن لا يتعارض الحديث مع العقل أو القرآن الكريم، وإن كانت هذه الشروط صحيحة في ظاهرها وتوافق ما قاله علماء الحديث منذ القدم، إلا أن الحداثيين هؤلاء يسارعون برفض أي حديث استعصى عليهم فهمه، أو تصوروا مخالفته لنص من القرآن الكريم، أو خالف أفكارهم وأحكامهم.
-
قسَّم شحرور القرآن الكريم إلى أقسام: كتاب القرآن + السبع المثاني + تفصيل الكتاب، ثم قسم الرسالة وهي آيات التشريع، وهي أم الكتاب والآيات المحكمات، وقال بأن قسم التشريع هذا قابل للتبديل والتغيير حسب الزمان والمكان، ويُفرِّق بين التنزيل والإنزال، وغير ذلك كثير.
-
يدعو شحرور إلى إعادة صياغة جديدة لأصول الفقه. وأخرج كتاباً بعنوان “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي” .
-
محمد شحرور يشن ثورة شنعاء على مفهوم الناسخ والمنسوخ ويقول بعدم وجودهما.
-
القول بعدم وجود الترادف في اللغة العربية، أو على الأقل في القرآن الكريم.
-
اعتماد شحرور في استنباط معاني الكلمات على القرآن الكريم فقط متجاهلاً الحديث الشريف والأدب الجاهلي وأدب صدر الإسلام، وادعى شحرور بأنه يعود إلى (معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة 395هـ)، ولكن هذه العودة غير ملموسة في كتبه. التخبط في الاستدلال اللغوي قاد شحرور (أو هو ذهب بنفسه) للقول بأحكام فقهية جديدة كثيرة كالميراث والتبني وأحكام الجلد والرجم والقطع ونظام الحكم في الإسلام وغيرها الكثير
-
يتوسع محمد شحرور في مفهوم (الإسلام) ليدخل فيه اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين. (كتاب الإسلام والإيمان، ص 38)
-
شحرور يقول بأن أركان الإسلام المعروفة: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج، غير صحيحة، وأن أركان الإيمان فقط هي الإيمان بالله واليوم الآخر والقيام بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو كل عمل مادي ينفع البشرية كالطب والهندسة مثلاً. وقال: “المسلم قد يكون مؤمناً [أي مؤمناً برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم] وقد لا يكون، أي أن المؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، قد يكون مؤمناً بالرسالة المحمدية وقد لا يكون، لكن لا بد للمؤمن من أن يكون مسلماً أولاً”. )محمد شحرور: الإسلام والإيمان، ص38و 52(
-
يفرق شحرور بين مقام النبوة والرسالة فإذا ذُكر لفظ الرسول في القرآن الكريم فإن ما بعده تشريع؛ لأن الرسول هو من يحمل التشريعات، فعندما يقول «يا أيها الرسول بلّغ» فهو تشريع، لكن عندما يقول «يا أيها النبي» فإن هذا معناه معلومات لا تشريع، فإن ما يأتي بعد النبي من مضامين فهي تعليمات وليست تشريعات، فهي ليست تكاليف إلزامية للناس بل هي مجرد تعليمات وإرشادات”.
*****
لا نريد استعراض كل محاور نظرة شحرور وأتباعه للإسلام وكتابه القرآن الكريم ونبيه العظيم صلى الله عليه وسلم [الذي يُنكر أن نقول في شأنه إن الله يسلم على النبي، ويريدنا أن نقول فقط: (صلى الله وملائكته عليه) دون أن نقول (صلى الله عليه وسلم) [الإسلام والإيمان ص 43]، فمحاور رؤية شحرور وأصحابه من هذا الاتجاه؛ بشكل كامل مجالها دراسة موسعة، ولكننا هنا بصدد الوقوف على بعض معالم طروحات أصحاب هذه الأقوال.
*****
مع بدايات القراءة المعاصرة:
يقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج في مقال له بعنوان “ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وأيديولوجيا الحداثة” بأن هذه الظاهرة “بدأت مع الشيخ محمد عبده 1849ـ 1905)، حيث شهدنا ممارسة فعلية للتفسير والتأويل مستفيدة من معطيات العصر، وكان محمد عبده قد نعى على العلماء عدم الاستفادة من العلوم الغربية الحديثة، وعندما شرع في تفسيره تأوّل القرآن طبقاً لتلك العلوم، والنظريات العلمية، مما جعل الداروينية مقولة قرآنية! وقد تأوّل المعجزات تأويلاً وضعيا. [في سبيل تقريب الغيبيات إلى الماديات فسر عبده بأن الطير الأبابيل هي مرض الجدري نشأ عن الميكروبات]
كما سنجد امتداد ذلك لاحقاً مع طنطاوي جوهري (1870 ـ 1940) في تفسيره “الجواهر في تفسير القرآن الكريم”، وهو تفسير يبرهن فيه على أن كل العلوم في الغرب موجودة في القرآن! وأن القرآن قد سبق إليها!، ليطمئننا بذلك «إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة”. ثم كان الأمر مع محمد أبي زيد الدمنهوري في كتابه «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن”، والذي صدر عام 1930 والذي خَلُصَ فيه إلى استنطاق القرآن بما يتلاءم مع أفكار العالم المعاصر، في المرأة والحدود، و. الخ، وقد أنکر نبوة آدم وأنکر معجزات الأنبياء عليهم السلام، وأنکر الاستدلال بالسنة المطهرة، وأنکر إقامة الحدود. ويتلخَّصُ قولُه في السُّنة أنها نَكبة على المسلمين، وعلى دِينِ الله -عز وجل-، ويتمنَّى إحراقَها وإعدامَها من الوجود، وتكونُ نُقطةُ بدايةِ التحريق من “صحيح البخاري” و”مسلم” ليرتاحَ الناسُ من شرِّ ما فيهما”(انظر كتاب: كتاب وامحمداه: إن شانئك هو الأبتر لسيد حسين العفاني). ومن مجمل ما كتبه الدكتور محمد حسين الذهبي عن هذا الكاتب والكتاب نستطيع أن نقول بأن الأفكار التي طرحها تشكل الأرضية التي بنى عليها جميع من جاء بعده بما سموه بالقراءة المعاصرة. وقد صنّفه الذهبي تحت «لون التفسير الإلحادي»!. (أعيد طبعه في القاهرة عام 1956م، ثم منع من التداول بقرار من لجنة الأزهر (انظر الذهبي، حسين. التفسير والمفسّرون، القاهرة، ج2 ص522 وما بعدها)
ومن أوائل من أنكر السنة في القرن العشرين (الطبيب محمد توفيق صدقي) ولكنه رجع عن إنكاره السنة.[1]
ومن أوائل من حاول إعادة النظر في حكم الحدود وطبيعتها (مقال نُشر في جريدة “السياسة” الأسبوعية في مصر بعنوان التشريع المصري وصلته بالفقه الإسلامي) [وقد أشار الدكتور محمد حسين الذهبي إلى هذا المقال دون أن يذكر اسم كاتبه في كتابه “التفسير والمفسرون، ج 2، 528] في هذا المقال طالب صاحبه اعتبار الطلب في حدود الزنا والسرقة يفيد الإباحة بدلاً من الوجوب].
تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها “القرآن والتفسير العصري: هذا بلاغ للناس”، الصادر في القاهرة، عام 1970م، (سلسلة اقرأ، 335)، ص38-39. إن هذا التيار ولد في ظروف صعود العلمانية عقب ثورة عرابي، وأنه جاء ردّ فعل “ليريحنا من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف”.
ثم جاء الدكتور مصطفى محمود فكتب كتاباً بعنوان «القرآن: محاولة فهم عصري» حيث بدأ عام 1970م، بنشر مقالات في مجلّة «صباح الخير» المصرية، ثم جمعها في كتاب تحت عنوان: «القرآن: محاولة لفهم عصري»، طبع في العام نفسه.
يُلاحظ ان اتباع هذا التيار قد حاولوا تفسير القرآن الكريم تفسيرات مادية ليقرِّبوا الهوة بين الغيبيات والماديات التي تقدسها الحضارة الغربية أيما تقديس.[2]
بدايات القراءة المعاصرة (الحديثة)
يقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج في مقاله “ظاهرة القراءة المعاصرة للقرآن وأيديولوجيا الحداثة” نستطيع أنْ نقدّر بداية استخدام مصطلح “القراءة المعاصرة” في نهاية السبعينيَّات وبداية الثمانينيات حيث كانت المناهج الأدبية واللسانية قد أخذت حضورها إلى جانب الدراسات الأخرى ـ في العالم العربي، وبدأت تتسرّب إلى كل شيء، فكان لنا أن نرى عام (1979م) «العالمية الإسلامية الثانية» لأبي القاسم حاج حمد، والتي اعتمد فيها على مزيج من المقولات اللسانية والفلسفية، ربما لأوّل مرّة، وفي الثمانينيّات ظهرت محاولة محمد أركون(مفكر علماني فرنسي من أصول جزائرية) في (قراءة) التراث الإسلامي، وتأويل النص الديني، ويعتبر أكثر مَن توسَّع في استخدام المناهج الحديثة وخصوصاً اللسانية، وحسن حنفي الذي حاول أن يؤسِّس لتفسير معاصر اعتماداً على معطيات العصر المنهجية، ثم محمد شحرور في «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة» الذي اعتمد فيه على خليط من البنيوية والتاريخية، ونصر حامد أبو زيد الذي طرح في «مفهوم النّص» منهجه القائم على التأوّلية من خلال نقد تراث علوم القرآن… وغيرهم.
تتميّز القراءة المعاصرة، للحداثيين المعاصرين بالخصائص التالية:
-
مارست «قطيعة» جذرية في مناهج التأويل مع التراث، في حين تواصلت مناهج «التفسير العصري» معه [مدرسة محمد عبده وأشياعه]، إلى حدّ التطابق، وهي «نقلة» سمحت بتجاوز عقبات المنهج التقليدي أمام التأويلات المتعسِّفة. (يقول عبد الرحمن الحاج: إننا نستطيع أن نعزو تلك (القطيعة الجذرية مع التراث) إلى شيء أكثر تأثيراً برأينا، وهو «الرغبة المحمومة» في المعاصرة والأخذ بالجديد).
-
سمحت بتأويل لـ «كامل النص»، من خلال نماذج قابلة للتكرار، أو ممارسة شاملة (محمد شحرور)، في الوقت الذي كان فيه التفسير العصري يتعثّر في ترقيعاته، فليس هنا اجتزاء أو تأملات، بقدر ما هي ممارسة وبحث معرفي يتوسل بجهود ذهنية كبيرة ومنظَّمة.
-
أصحاب القراءة المعاصرة عاملوا النص القرآني الإلهي معاملة النصوص الوضعية، يقول الأستاذ “عبد الرحمن الحاج” في مقاله المشار إليه: أحد عيوب القراءة المعاصرة تجاهلها «للنزعة الوضعية» التي ألحَّ عليها أصحاب تلك المناهج أنفسهم، تلك النزعة التي تناقض بشكل صارخ خصائص النّص القرآني، وتصطدم مع البعد الأهم وهو المصدرية الإلهية بكل ما يعني ذلك من تحرر واستقلال عن ثقافة تاريخية ما. وإمكان إطلاقية أحكام النّص واعتبارها فوق تاريخية.
وحسب “عبد الرحمن الحاج” أيضاً: إن أية قراءة تتجاوز هذه الإشكالية دون حلولٍ، ستقوم ـ بشكل أو بآخر ـ بأنسنة الله (سبحانه)! وإن تحييد تلك المناهج والأدوات عن جرعتها «الوضعية» أمرٌ في غاية الصعوبة؛ ولكنه ممكن. ولا يمكن بحالٍ الاستفادة من تلك المناهج دون ملاحظة هذه الإشكالية ووعيها. فالشرط الأساسي للقراءة بتلك الأدوات والمناهج لتحقق مشروعيتها هو مراعاة خصائص النّص القرآني، أي تطويع تلك المناهج والأدوات لخصائصه كنّص ديني إلهي المصدر.
-
والعيب الآخر الذي تسقط فيه أكثر تلك القراءات المعاصرة، تعاملها مع تلك المناهج والأدوات وكأنها كلها حقائق ثابتة وليست ـ كما هو الحال ـ نظريات لم تستقر، ولن تستقر كونها لا تحتمل القطع. إن الحقيقة التي ينبغي أن لا يُغفل عنها أن استنفادنا لإمكانات النص القرآني دلالياً غير ممكن، بحيث إننا حين نظن ذلك نكون قد استنفدنا أدواتنا، واستهلكنا مناهجنا ذاتها وليس النص! ذلك لأن النص القرآني نزل ليكون «عالمياً» خاتماً، فلابدّ أن لا يتوقف عن إنتاج الدلالة في كل زمان ومكان.
-
التأثر بالمناهج الغربية في موضوع اللسانيات، يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي : «كنت ولا أزال أستهين به، وأشكُّ في قيمته وجدواه» «إن الدعاة إلى العلمانية، ومحترفي الغزو الفكري من يسعى لاهثاً إلى شطب الدلالات التي تحملها نصوص القرآن والسنّة الصحيحة، وحشوها بدلالات ومعانٍ جديدة، باسم (اللسانيات)، وما يقتضيه قانون (اللسانيات)، أي إنهم يحاولون أن يجعلوا من (اللسانيات) هذه بديلاً عن قانون الدلالة العربية المنبثقة عن الاصطلاحات التوفيقية في ربط المعاني بألفاظها الدالة عليها، وبديلاً عن القواعد التوفيقية الأخرى المتبعة في فقه اللغة. وأذكر أن حواراً جرى في أحد المؤتمرات بيني وبين الدكتور محمد أركون وهو أحد الذين يصرّون على الاستعاضة عن قواعد فقه اللغة، وقاموس الدلالات اللغوية، مما يسميه (الألسنية)، ومن ثم فهو يقرر ضرورة تفريغ القرآن من المعاني، التي كانت منوطةً به إلى اليوم، وملئه بعد ذلك بما توحي به قواعد الألسنية هذه، وحسب فهمه وقناعته، وهي نفسها الترنيمة التي يشدو بها دعاة (القراءة المعاصرة)». وإن أعمال بعضهم للسانيات هو «عملُ من يحلم بأن يجعل من هذه التجربة وسيلةً خفيَّة للعبث بحقائق ثابتة في دين الله وكتابه عن طريق العبث بقواعد فقه اللغة». (انظر: مقدمته لكتاب: نبيل خياط، وإذ أعيد قراءة الجهاد، دمشق، دار الفكر، ط1، 1997م، ص12-13).[3]
-
عن تاريخية النص القرآني يقول عبد الرحمن الحاج:” يذهب اللسانيّان المعروفان “وورف” و “سابير “إلى أن اللغة مرتبطة بالثقافة، ولا تنفك عنها. وبذلك حين نفكر فإننا نفكر بلغة، وبالتالي فنحن محكومون بثقافة تلك اللغة، والتي تصبح مع الزمن تاريخاً. كما أن التأوُّلية كمنهج لتأويل النص قام أساساً على مبدأ ارتباط النّص بظرفه التاريخي؛ لأنَّ الوعي الإنساني مموقع في التاريخ ولا يستطيع تجاوزه. كما أن العالِم “فيرث” يرى أن السياق جزءٌ من النّص، والتاريخُ من السياقِ. وقد اعتمد “نصر حامد أبو زيد” على هذه المقولات لإثبات تاريخيّة النّص القرآني (انظر: مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990م، ص24-ص28، والباب الأول من الكتاب يشير إلى ذلك، فعنوانه «النص في الثقافة (التشكُّل والتشكيل)» من ص29-ص112)[4]
-
يلاحظ أن جلَّ الحداثيين هؤلاء لا يجيدون اللغة العربي إجادة تامة، وتجد في كتاباتهم وأقوالهم أخطاء لغوية، لا سيما محمد شحرور، ومع أن شحروراً يعرض كتاباته على مدققين لغويين إلا أن هناك أخطاء لا تخطئها العين، ففي ص 15 وفي “توطئة” يقول: التي شهدها القرن العشرين (والصواب: العشرون)، وفي ص 25 ذيَّل تلك التوطئة بقوله (دمشق: 23 ذي القعدة، والصواب: ذو القعدة، إلا إذا تكلفنا التخريج وقلنا بأنه يقصد: دمشق في …) ومن ذلك على سبيل المثال قوله: ” ونلاحظ أنه لم يقل (والداتكم) ليدل بذلك على عموم شمول الأم الوالدة والأم (الحاملة) والأم الواضعة والأم (المرضعة) والأم المتبنية” [محمد شحرور: الإسلام والإيمان: منظومة القيم” ص 287، وكان عليه ان يقول الحامل والمرضع] ولنقرأ هذه الفقرة من كتاب “جدلية الحجاب” للدكتور صهيب محمود السقار:” ليس عجيباً أن يرفع المهندس المفعول به، ويقول(ذَكرَ الكتابُ فِعْلان)[الصواب فِعلين]، وليس عجباً أن يصرف الممنوع ويقول (يملكون حواساً) [الصواب حواس]، وليس عجيباً أن يرفع المنصوب ويقول (إن هناك كثير)[الصواب كثيراً]، وليس عجيباً أن يجمع له أحد نقاده ثلاثاً وسبعين حجة على أن المؤلف لا يحسن اللغة [يشير السقار إلى كتاب “بيضة الديك” ليوسف الصيداوي فقد جمع من أخطاء شحرور في أبجديات النحو ثلاثة وسبعين لحناً ظاهراً ص 177 تحت عنوان “فاقد الشيء لا يعطيه”] ويكمل الدكتور السقار ويقول: وليس عجيباً أن يشكو نقاد المهندس [شحرور] من عاميته وركاكة أسلوبه. وليس عجيباً أنا لم نسمع المهندس مرة واحدة يتحدث في الفضائيات بالعربية الفصحى! وليس عجيباً أن لا يحسن المهندس تلاوة آية من كتاب الله! إنما العجيب أن يُغير المهندس بهذه العامية على الفصحاء واللغويين ثم يتعالى عليهم ويدعي لنفسه أنه ارتقى في أسلوبه إلى بلاغة عبد القاهر الجرجاني ونهل من مفردات الراغب الأصفهاني”.[5]
نموذج من مغالطات شحرور:
موضوع التبني:
من المعروف أن التبني حرام ، وهذا معروف عند كل المسلمين وعلى مدار التاريخ، والآيات التي تحدثت عن ذلك في سورة الأحزاب واضحة جداً، يقول تعالى:{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * الأحزاب 4و5} ، وقال تعالى في الموضوع نفسه أيضاً: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * الأحزاب 37 ــــــ 40} رغم هذا الوضوح يأتي محمد شحرور ليقول بإباحة التبني، وفي سبيل إظهار صواب رأيه يقوم بالتلاعب بدلالة النص بشكل سافر، فيفهم من قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}، أن الآية منفصلة عما يذكر من أسباب نزولها من إبطال تبني زيد بن حارثة، فيكون معنى الآية عند شحرور: ليس محمد أباً (عقائديا) لأي أحد منكم، بمعنى أنه لم “يتبن أحداً في رسالته ونبوته، وليس ثمة من يحق له أن يقول إن محمداً (ص) [حرف ص من اختصار شحرور] علَّمه أسرار الرسالة والنبوة وأعطاه الحق والقيومية بشرح هذه الرسالة والنبوة للناس من بعده” ويستشهد شحرور بمسألة الأبوة العقائدية بأننا من ملة إبراهيم وهو الذي سمانا مسلمين؟ وحسب هذا الفهم يتساءل شحرور هل جعَل إبراهيم للمسلمين الحق والقيمومة بشرح الرسالة والنبوة للناس، فهو سمانا مسلمين، أي أعطانا الأبوة الروحية العقائدية؟
بنى شحرور حكمه هذا بناء على رفضه الأخذ بمفهوم أسباب النزول، لأنه يرى أن النص القرآني هو نص تاريخي، فلا عبرة لمقولة “أسباب النزول”.
يقول شحرور بأن الطفل بعد انتهاء عاميه الأولين تبدأ ذاكرة الطفل بالتشكل، أما قبل ذلك فلا ذاكرة له البتة. وقال: نقصد بالذاكرة هنا المعلومات التي يتم تخزينها ثم استرجاعها فيما بعد، وقال بأن الوالدين دخلا ضمن دائرة وعي الولد، وأصبح يعرفهما كأبوين أيضاً والفصال (الذي أشار إليه قوله تعالى “وفصاله في عامين” من الناحية العلمية أيضاً يعني الفصل بين الذات والموضوع عند الطفل، أي أن الطفل ابتداء من سن العامين يميز نفسه عن بقية الأشياء (يفصل نفسه) فيميز ذاته أنها شيء عن ذات أمه على أنها شيء آخر. وقال: هنا يتبين لنا أن التبني (اتخاذ الولد) له علاقة وثيقة بالفصال. أي له علاقة بدائرة الوعي ومخزون المعلومات في الذاكرة لدى الولد المتبنى. فإذا تم التبني في سن العامين وما قبل، يكبر الولد وليس في دائرة وعيه وذاكرته إلا أبويه بالتبني، ويكون لهما نفس حكم الوالدين، حتى ولو لم يلداه، لأنهما الوحيدان ضمن دائرة وعيه، ولا فرق بينهما وبين والديه، بالبر والإحسان والحرمة وإبداء الزينة والإرث.
وقال: إذا توفي والدان مثلاً بحادث سيارة، ونجا ولدها الذي لم يبلغ الثانية من عمره بعد، فأخذه رجل وامرأة وقاما بتربيته ورعايته بعد متبنيه، صار المعنيين بوصية الله تعالى بالوالدين في تنزيله الحكيم، وأصبحا مشمولين بجميع الأحكام التي نزلت في الوالدين والأبوين، سواء أرضعته أمه الجديدة أم لم ترضعه، وعلى رأسها أحكام حرمة النكاح في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ..} النساء 23، وأحكام إبداء الزينة في قوله تعالى: {.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن ..} النور 31، وأحكام الإرث في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم .. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ..} النساء 11.[6]
ينطلق شحرور فيم ينطلق من تفريقه بين معاني: الأب، الأم، الوالد، الوالدة
الوالد هو صاحب الحيوان المنوي الذي بدونه لا يتوالد جنين. والوالدة هي صاحبة البويضة التي بدونها لا يتولد الجنين. إذ يقوم تولد الجنين على اجتماع حيوان منوي وبويضة في الرحم، بدون أحدهما لا يتولد شيء.
والوالدة: هي صاحبة البويضة، وهي الأم التي حملته ووضعته، ولهذا قال التنزيل إن المسيح كان براً بوالدته، أي أن البويضة الأنثوية كانت من مريم، وهي التي حملته ووضعته في آيات أخرى. وهي صاحبة البويضة، يليها بعد اللقاح الحمل والوضع فتصبح أماً، {.. وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم *النجم 32.}،{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً* النحل 78 }.
ويقول: بأن الأبوين إذا قاما بالتربية (شرط بدئها قبل سن الفصال ” وهو سنتان”) لهما حكم الوالدين في البر والحرمة ولا إرث. وإذا كان منهما الولادة فقط ولم يقوما بالرعاية والتربية، بل كانا مجهولين والولد لا ضائع ولا مفقود، (لقطاء فقط) فهنا لا بر لهما ولا حرمة ولا إرث. أي هما هنا والدان اسما فقط وليسا أبوين. والسبب كما يقول:” لكننا نرى أن من يرمي وليده في حديقة، أو في حاوية قمامة، لا يستحق لقب أم أو أب، لا من الناحية الأخلاقية ولا الاجتماعية ولا الإنسانية، ورغم أنهما والدان بالمعنى البيولوجي، إلا أنهما لا شيء عند الوليد، لا أحد، وليس لهما بر ولا حرمة ولا إرث”.
الأب: أما الأب فله وضع آخر تماماً غير الوالد. فإذا رعى الذكرُ الوالدُ الأمَّ في حملها وأنفق عليها وساعدها (قصدها وأب إليها) فهو أب، وأما إذا لم يفعل فهو والد فقط.
الأم: يطلق مصطلح الأم على التي تحمل الجنين، لأنها تغذية من دمها وترعاه في بطنها أثناء الحمل، ولهذا فهي أم ووالدة اجتمعت فيها الصفتان بقوله تعالى {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق* الزمر 6} :270 والأم من التغذية والحنو (تؤم جنينها) قبل الوضع وبعده.
الأبوان هما اللذان يقدمان الرعاية والانفاق والتنشئة للوليد بعد الولادة، فإن كان وليدهم فهما والداه أيضاً. وهنا يتضح معنى الأب الذي يقوم بالتربية والانفاق والقصد على تنشئة الوليد، فإن كان والده، فهو أبوه أيضاً. أما إن كان ليس بوالده فهو أبوه فقط. وكذلك الأم التي تقوم على التربية والرعاية، فإن كانت والدته، فهي أمه ووالدته، أما إن كانت ليست بوالدته فهي أمه فقط.
وحَسَبَه: ومن هنا نرى إمكانية أن يكون للإنسان أكثر من أم، أم والدة، وأم مربية، وقد تجتمع أمومة الولادة وأمومة التربية في امرأة واحدة. ولهذا نجد تحريم النكاح في التنزيل شمل الأم ولم يخص الوالدة. وذلك في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم ..* النساء23}
الوليد: يقوم توَّلُد الجنين على اجتماع حيوان منوي وبويضة في الرحم، بدون أحدهما لا يتولد شيء. ثم خروج الطفل هذا من فرج المرأة، فالوليد هو المولود بعد الولادة مباشرة.
اليتيم: من هنا نفهم أن اليتيم ليس يتيم الوالدين، بل يتيم الأب أو الأم أو الأبوين معاً. فالأب من القصد والعناية والتربية، والأم من التغذية والحنو (تؤم جنينها) قبل الوضع وبعده.
الولادة بمعنى التربية: يقول شحرور: قد تأتي الولادة ومشتقاتها بمعنى التربية، وهنا يقول: “ونفتح التنزيل الحكيم لنقرأ قوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا} نوح 27. لنجد أن الولادة في الآية جاءت بمعنى التربية والتشكيل الايديولوجي والعقائدي في المجتمع، وأن فعل “يلدوا” لا يعني مطلقاً الولادة من حمل ووضع وأمومة، لأن الإنسان لا يولد كافراً فاجراً ولا يولد مؤمناً تقياً، كما يتوهم البعض، بل يخرج من بطن أمه صفحة بيضاء نقية بدليل قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً..} النحل 78.
أي أن هناك أولاداً بالولادة، وأولاداً بالتربية، فالتربية هي التي تجعل منهم كفاراً فجاراً، أو تجعل منهم مؤمنين صالحين. والمربون في هذه الحالة هم الآباء وليس الوالدين. فإذا قام الوالدان بالتربية المادية والمعنوية، بالرعاية والانفاق، أصبحا أبوين. وإذا قام غير الوالدين بهذه التربية والرعاية كانا أبوين أيضاً. ومن هنا نجد للآبائية معنيين في التنزيل الحكيم.[7]
وإذا قلنا باختلاف المعنى بين الوالدين والأبوين، إلا أنهما يدوران حول العلاقة بين هذا الطفل ومن أنجبه ورباه، ولا يعني ذلك أيضاً أن تتفرع أحكام لكل من الأب والأم، والوالد والوالدة، لنقول: الوالد مَنْ ولد الجنين وتنتهي مهمته بإلقاء البذرة في الرحم، وأن الوالدة من غذَّت الجنين بدمها ومنها خرج الولد، فإذا ربياه كانا أبوين ووالدين، فإن اكتفيا بالعملية البيولوجية وتركا الولد حديث الولادة فوراً ولم يرعياه خلال السنتين الأوليين فهما مجرد والدين لا حرمة لهما ولا ميراث ولا أي حق، فهذا بعُد عن معنى الأبوة ومشتقاتها، والقول بأن القرآن قال بذلك إنما هو تمحل وشطط.
الخلط بين كلمتي ” أبْ وأبّاَ”: سبب الخطأ الأكبر عند شحرور في تفسير معنى الأب، هو الخلط بين كلمتي: أب (همزة ثم باء واحدة) وبين أبَّا (همزة ثم باء مشددة) ومنه قوله تعالى {وفاكهةً وأبَّا * عبس 31} فالأبُّ هنا غير الأب (الوالد)، فقد جاء في معجم السان العرب:” أبب: الأبُّ: الكلأ وعبر بعضهم عنه بأنه المرعى. وقال الزجاج: الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية. وفي التنزيل العزيز: {وفاكهة وأبا} قال أبو حنيفة: سمى الله تعالى المرعى كله أبا. قال الفراء: الأبُّ ما يأكله الأنعام. وقال مجاهد: الفاكهة ما أكله الناس، والأبُّ ما أكلت الأنعام، فالأبُّ من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان. وقال الشاعر:
جِذْمُنا قيسٌ ونجدٌ دارُنا *** ولنا الأبُّ به والمكرع
قال ثعلب: الأبُّ: كل ما أخرجت الأرض من النبات. وقال عطاء: كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب. وفي حديث أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ قرأ قوله عز وجل: {وفاكهة وأبَّا} وقال: فما الأبُّ؟ ثم قال: ما كلفنا وما أمرنا بهذا. والأبُّ: المرعى المتهيئ للرعي والقطع، والأبُّ: النزاع إلى الوطن. وأبَّ إلى وطنه يؤب أبا وأبابة وإبابة: نزع، وأب يده إلى سيفه: ردها إليه ليستله. وأبت أبابة الشيء وإبابته: استقامت طريقته. وقالوا للظباء: إن أصابت الماء فلا عباب، وإن لم تصب الماء فلا أباب؛ أي: لم تأتب له ولا تتهيأ لطلبه، وهو مذكور في موضعه. والأباب: الماء والسراب.
فبعد أن استعرض شحرور المعاني اللغوية المعجمية لمعنى (أبَّ) دون معنى (أبْ)، قال: ” ونلاحظ في هذا كله أمراً هاماً جداً، وهو أن الأم من فعل أم، والأب من فعل أب، لا علاقة لهما البتة بفعل ولد. ونفهم أن الوالد والوالدة هما المعنيان بفعل الولادة، وأن الأبوين شيء والوالدين شيء آخر”.
فكما ترى فليس من معاني (الأبّ) بالتشديد، ما له صلة من قريب أو بعيد بالأب (الخالي من التضعيف أو التشديد) وهو الوالد، جاء في المعجم الوسيط: الأب: الوالد والجد ويطلق على العم وعلى صاحب الشيء وعلى كل من كان سبباً في إيجاد شيء أو ظهوره أو إصلاحه، والجمع: آباء وأبوة، وفي التنزيل العزيز {واتبعت ملة بائي * يوسف 38}، والأبوان: الأب والأم، قال تعالى: {وورثه أبواه * النساء 11}.
لقد أخطأ شحرور إذ رد الكلمتين لجذر واحد، وما هما كذلك، فجذر أبَّ (أ ب ب) وجذر أب (أ ب و). لقد ظنهما شحرور من جذر واحد، فلا بد إذاً أن يلتقيا في المعنى، ولكن حال بينهما الموج فكان ما استنتجه شحرور من المغرقين. ما بناه شحرور على هذه الاستنتاجات سيكون خاطئاً بالتأكيد: التبني، الميراث، إباحة الزواج وتحريمه وكذلك الاطلاع على العورات.
الصحيح لم يذكر شحرور العلاقة بين الفعل (أب) وقوله إن الأب غير الوالد، وأن الأب تبدأ علاقته بالطفل بعد الولادة مباشرة، فإن رعاه كان أباه ووالده وإن لم يقم بالرعاية والتربية لم يستحق شرف الأبوة. ولم أجد من رابط بين معنى الأب والتربية في معاجم اللغة، ولكني وجدت على موقع “مسجد الشيخ المفتي مصطفى فخار” مقالاً بعنوان -الفرق بين الأَبِّ والأَبِ في القرآن ـ جاء فيه:” الأَبُ -بالتخفيف-اسم، مشتق من “أَبْوٌ”. و”الأَبْوُ” مصدر، تقول: أبا، يأْبو، أبْواً. وهذا المصدر بمعنى التربية والغذو. وسمي الوالد أباً لأنه يربي ابنه ويغذوه، ويقدم له الطعام والشراب، كما أنه يربيه ويغرس فيه الفضائل والأخلاق”. وقال: وهناك فرق بين الأب والوالد، من حيث المعنى الأساسي للجذرين، لأن الأبو فيه معنى الغذو، والولد فيه معنى الانفصال. فالأب والوالد يطلقان على الرجل الذي أنجب الإنسان، لكنه يطلق عليه “أب” عند إرادة معنى التربية والتغذية والعناية والرعاية والاهتمام، ويطلق عليه “والد” عند إرادة معنى التفرع والتناسل وانفصال الفرع عن الأصل”.”. المعاجم العربية واللغات القديمة استخدمت كلمة الأب بمعنى الوالد، وأن الأحكام الشرعية أعطت لهما نفس المفهوم ونفس الحقوق والواجبات، ولو أخذنا رأي صاحب صفحة “مسجد الشيخ المفتي مصطفى فخار” بأن من معاني الأب هو التغذية والتربية، فهل يعني ذلك فصل معنى الأب عن معنى الوالد، وإعطاء كل منهما أحكاماً خاصة من حيث الحل والحرمة والنسب والميراث والتبني؟
دراسة بقية الآيات التي جاءت مع هذه الآية في موضوع التبني تبين أن الأبوة المرفوضة هي أبوة التبني وليست الأبوة الروحية والعقائدية؟ تتحدث الآيات (37 ــ 40) عن حدث معين يبدو فيه خشية المخاطَب (وهو الرسول صلى الله عليه وسلم) أمراً ما، وسبب هذه الخشية ردة فعل الناس (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)، فما هو هذا الحادث يا ترى؟ ثم تتحدث الآيات عن قضاء زيد وطراً منها؟ أي تتحدث عن قصة زيد بن حارثة، وزينب بنت جحش، فالضمير في (منها) عائد إليها، وعرفنا ذلك من:
(1) أسباب النزول.
(2) لا بد للضمير من عائد يعود إليه، وهو هنا امرأة ما (لتكن زينب)، ولأن كلمة (زوجناكها) أفادتنا أنها زينب، فالمرأة التي تزوجها الرسول عليه السلام وكانت لها علاقة زواج بزيد هي زينب بنت جحش، وأما قوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} فالله يريد رفع حرج ما عن المؤمنين، فما هو هذا الحرج؟ إنه (في أزواج أدعيائهم) أي الزواج من نساءـ أزواج ـ أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، والوطر هنا كناية عن الزواج، أي أن مشكلة “ما” كانت هناك في الزواج من زوجات الأدعياء؟ ومن هم الأدعياء؟ إنهم الأبناء بالتبني؟ وكيف عرفنا أن الأدعياء هم الأبناء بالتبني؟ إنه قوله تعالى في مطلع السورة { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * الأحزاب 4و5} فالأدعياء هم من كانوا يُنسبون لغير آبائهم الحقيقيين (البيولوجيين)، وكانت هذه التسمية تطلق على أبناء التبني حصراً، فالآية تتحدث عن التبني حصراً، تختتم الآيات بقوله تعالى {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فالمناسب هنا استمرار الحديث عن الموضوع نفسه، وهو التبني، فتقول الآية، بأن (محمداً) عليه الصلاة والسلام لم يكن أباً (أي والد أحدكم ولم يكن أحدكم ابناً له) لا من صلبه ولا أن يدعيه (يتبناه)، فمن أين جاء الحديث عن الأبوة الروحية والعقائدية، هذه الأبوة مفهوم جديد عند محمد شحرور ألقاه على هذه الآيات محاولاً جاهداً أن يعطينا (قراءة عصرية حديثة)َ!!
أما الآية التي تتحدث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام {ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل * الحج 78} فهي تتحدث عن ملة أبينا إبراهيم، أي عن دينه، والمعنى قريب مما قاله شحرور حول الأبوة (العقائدية) وهذا واضح من كلمة (ملة)، والتي تعني الدين والشريعة، ولكن الأبوة في آية (ما كان محمد ابا أحد من رجالكم) لا تصب في هذا المعنى ولا ما ذهب إليه شحرور:” إن محمداً (ص) علمه أسرار الرسالة والنبوة وأعطاه الحق والقيومية بشرح هذه الرسالة والنبوة للناس من بعده”
وهكذا فليس ثمة علاقة بين أبوة إبراهيم للمسلمين، وأن يكون محمد (عليه الصلاة والسلام) أبا أحد من المسلمين. فالمعنى الذي ذهب إليه شحرور غير موفق لسبب بسيط، لأن الآيات وسياقها التي تحدثت عن هذه القضية تتحدث عن (التبني) وما يلحقه من نسب وزواج مطلقة المُتَبنى، ولم تتحدث عن أبوة أيديولوجية عقائدية أو غير عقائدية، فتؤخذ معاني هذه الآية على ظاهرها وحسب.
يدعي شحرور أن الآية التي تحدثت عن إبطال تبني النبي صلى الله عليه وسلم زيدَ بن حارثة؛ ليس لأن التبني ذاته من حيث المبدأ باطل. وإلا لتناقض هذا الحكم إذا ما أطلقناه وعممناه، مع كل ما شرحناه من آيات في الصفحات السابقة، تعالى الله عن التناقض وتنزه عن التضاد. أي إن التبني في هذه الحالة باطل لأنه تم بعد أن تجاوز زيد السنتين،[8]
اختراق الإسلام لا بد أن يتم على أيدي المسلمين:
استمر الصراع بين المسلمين والعالم الغربي في شكله المسلح، واتخذ في القرن التاسع عشر شكل الصراع الثقافي من خلال حملات التبشير التي أرسلها الغرب إلى العالم الإسلامي لنشر الفكر العلماني والليبرالي والدين المسيحي أيضاً، واستمر الصراع بصور مختلفة إلى الآن، وهنا تحضرنا نظرية صراع الحضارات للأمريكي صامويل هنتنغتون، فقد “كتب المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون مقالاً بعنوان “صدام الحضارات”، وطوره لاحقاً ليصبح كتاباً أصدره عام 1996. يحلِل هنتنغتون فيما طرحه أشكال الصراع التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الصراع في تلك الفترة بين معسكرين أيديولوجيين، كالمعسكر السوفييتي والمعسكر الغربي (الأمريكي-الأوروبي)، كما أنه اتخذ أشكالاً أخرى في صراعٍ بين الدول القومية المختلفة. وهنا تنبأ هنتنغتون أن تكون الصراعات القادمة صراعات “حضارية”، بمعنى أن يكون الصراع على سبيل المثال بين المسلمين ككل وبين الغرب ككل، باعتبار أن العالم الإسلامي رغم الاختلافات داخله إلا أنه يصدر عن ثقافة وحضارة واحدة وكذلك الحضارة الغربية المسيحية. لكن ليست المشكلة فقط في التصوُّر والتحليل الذي قد يبدو منطقياً من ناحية، لكن في اتخاذه موقفاً “معادياً” للإسلام والمسلمين، خصوصاً عندما يتَّهم هنتنغتون المسلمين بما سماه “التطرُّف الإسلامي”، معتبراً إياه الخطر الأكبر أمام السلام العالمي. فيعبر مثلاً عن النمو السكاني عند المسلمين بقوله: “الذين ينجبون أفواجاً من المتطرفين، مجنَّدِين جُدداً للأصولية والإرهاب والتمرد والهجرة[9]“.
ومن أساليب الهجوم على الإسلام والعمل على تفكيكه: اختراق الإسلام لا بد أن يتم على أيدي المسلمين أنفسهم:
هذا ما نقرأه بوضوح في “تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2005″ والذي عنوانه:” نحو نهوض المرأة في الوطن العربي (التقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية، المكتب الإقليمي للدول العربية، ويقع التقرير في 292 صفحة وطبع في الأردن عام 2006)، فتقول الرئيسة الإقليمية لمكتب الدول العربية للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وهي عربية من اليمن إن تقرير “التنمية الإنسانية العربية”:” ليشدد على الحاجة لإزالة بذور التمييز ضد النساء في التقاليد العربية وعلى تنمية الاجتهاد (البحث التأويلي) في المسائل الدينية للتغلب على عوائق التراث الثقافي”.[10]
ويقول د. جوزيف مسعد عن هذا التقرير: وكما يؤمن المؤلفون بأن المقاربات الغربية النسوية الليبرالية هي السبب في تحرر النساء في الغرب، وإن عولمتها وحوكمتها ستؤديان إلى تحرير النساء العربيات والمسلمات، تصبح مهمتهم واضحة وبدهية، أي توظيف النسوية الليبرالية الغربية وحوكمتها لقضايا النساء في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كدليل وكخارطة لتغيير الإسلام والثقافـ (ات) المسلمة والقانون “الإسلامي” والبُنى الاجتماعية (بما فيها إقصاء “العشائرية”) والتقاليد والأعراف”.[11]
وقال د. مسعد أيضاً عن هذا التقرير: “كجزء من تحليلهم لمحور الثقافة فيما يتعلق بالنساء، يسعى مؤلفو التقرير إلى دراسة “أنماط السلوك الاجتماعية المتكررة التي تساهم في تشكيل وضع النساء في المجتمعات العربية اليوم” وتبعاً لذلك فإنها” تُركز على ثلاثة مصادر مركزية مؤثرة: التراث الديني، والثقافة الشعبية، والانتاج الفكري والفني والإعلامي العربي” وعلاوة على شرعنة الاقتصاديات النيوليبرالية عبر استخدام مصطلحات إسلامية باعتبار النيوليبرالية ذات فائدة تعود على النساء، فإن مهمة التقرير الأخرى هي التدخل في الشؤون الثيولوجية، لا سيما الفقهية منها، من أجل التحضير النيوليبرالي”. [12]
ويسعى “تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2005″ التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى:” تناول التحولات في المواقف وإصلاح الإطارات الثقافية. وبالأخص سيقوم بتحديث التأويل والفقه عبر التبني الشامل للقراءات المتنورة للاجتهاد، ويتوجب على الأخير أن ينعتق من عبودية المؤسسات والشخصيات الدينية القائمة ليصبح حقاً وواجباً على كل مسلم متعلم، امرأة كان أم رجلاً، لها وله القدرة على الانخراط في دراسة دينها أو دينه“[13] ويقول د. مسعد: وهكذا فإن دعوة التقرير للإصلاح لا تهدف إلى تقديم قراءات فقهية جديدة للقرآن من قبل مسلمين، بل بالأحرى تهدف إلى جعل القراءات الفقهية الجديدة متماشية مع التشريعات الليبرالية “الدولية”[14]
وقال التقرير في عبارات واضحة القصد في القفز على الفقه (التقليدي) والمجيء بـ (فقه عصري / حداثي):” لقد منح القرآن البشر (نساءً ورجالاً) وضعية سامية على الأرض. وإذا كان الفقهاء المسلمون قديماً أوفياء لاحتياجات أعرافهم ومتطلبات مجتمعهم فإن تلك الأعراف والمتطلبات لم تعد تكفي حاجيات عصرنا ومجتمعنا. ولذا فإن الرجوع إلى القوانين الدولية التي تُقصي كافة أشكال التمييز بين الرجل والمرأة لا تتناقض بأي حال مع المعتقد الديني، حيث إن هذه القوانين أقرب إلى روح النصوص الدينية فيما هي أيضاً أقرب إلى التغييرات التي تَحْدُث في المجتمعات العربية المعاصرة”.[15]
ويقول التقرير أيضاً بعد أن دعا إلى إصدار قانون واحد للأحوال الشخصية في البلدان العربية:” ينبغي على المشرعين العرب أن يعملوا على تبني التأويلات الأكثر تنوراً في الشريعة والقوانين الدينية الأخرى لتحقيق الانسجام مع مبدأ المعاملة المتساوية للرجال والنساء، انسجام يتوافق مع النوايا العامة للقانون الديني الإسلامي وقوانين غير المسلمين”. [16]
التقرير يريد أن يفتح (باب الاجتهاد) لمن يعرف ولمن لا يعرف، فينقل د. جوزيف مسعد عن “تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2005″ التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي: ” وبما أنه “لا كهنوت في الإسلام” فإنه يتبع من ذلك أن مبادرات في التشريع كهذه ينبغي أن تُحرَّر من قبضة المؤسسات والشخصيات الدينية، بل بالأحرى ينبغي أن يُصبح التأويل المستقل حقاً وواجباً على كل مسلم مؤهل، امرأة كان أم رجلاً، لها وله القدرة على الانخراط في دراسة دينها أو دينه”[17]
ويشرح نادر فرجاني الكاتب الرئيس “لتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2005″ موقف التقرير من الإسلام بتكرار دعوة التقرير لتأويلات جديدة للعقيدة الدينية والآراء الفقهية بقوله:” إقامة مثل هذه النهضة في الوطن العربي تتطلب إفساح مجال الاجتهاد الفقهي لوضع قواعد الاتساق بين هذه النهضة الإنسانية بمفهومها الشامل، والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، تجاوزاً لكثير من التأويل الفقهي الذي استشرى في عصور الانحطاط، مكرساً للقهر والاستبداد مورِّثاً التخلف، ومن ثم لاستباحة الأمة من اعدائها”.[18]
ضم فريق التقرير وخاصة المجلس الاستشاري، عدداً من المفكرين الإسلاميين المستنيرين،[19] كما ضم في أحيان بعضاً من غلاة العلمانيين الذين كانوا يرون أن الاعتبارات العلمية والأكاديمية تتطلب عدم الخوض في أمور الدين ولو في علاقته بموضوعات التقرير”.[20]
الغاية من إعادة قراءة القرآن الكريم قراءة معاصرة
على ضوء ما مرَّ، لا سيما في الفقرة الأخيرة (اختراق الإسلام لا بد أن يتم على أيدي المسلمين)، نرى عدم براءة هذه القراءة من مقاصد خفية لها صلة بعالم الاستشراق، والتغريب، وخدمة للمصالح الغربية، وهي بذلك تحقق أهدافاً عدة منها:
-
وقف دخول الناس في دين الله فرادى وأفواجا:
عندما يطرح أصحاب القراءة المعاصرة أن معنى (إن الدين عند الله الإسلام) يعني أن كل إنسان آمن بالله وباليوم الاخر وعمل أي عمل صالح يخدم الناس، فهو مسلم، يعني ذلك أنه سيدخل الإسلامَ المسلمُ والمسيحيُ واليهوديُ والمجوسيُ والبوذيُ والصابئيُ وكلُ صاحب دين، فليس هناك ميزة للإسلام (الذي أُنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، فلماذا إذاً على أصحاب الديانات الأخرى ترك دياناتهم والدخول في هذا الإسلام، ما دام أنهم جميعاً سيدخلون الجنة!!
-
إطفاء جذوة مفاهيم الجهاد عند المسلمين:
يشن شحرور ومن تابعه حرباً شعواء على مفهوم الناسخ والمنسوخ، فلماذا؟ والأمر في حد ذاته مسألة تتعلق بأصول الفقه؟
الجواب: إنهم يريدون الوقوف في وجه كل من يقول بأن قوله تعالى:{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) التوبة} فمن المعروف أن بعض المنتسبين لبعض الحركات الجهادية قد فهموا من هذه الآيات (لا سيما الآية الخامسة التي عُرفت بآية السيف) أنها تأمر بمحاربة جميع الكفار، وأن هذه الآيات نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء . بُنيت هذه الرؤية على مقولات جلِّ علماء الفقه والتفسير الذين يعتبرون أن آية السيف قد نسخت كل آية مخالفة، والنسخ هنا يعني أن تلك الآيات المخالفة قد “سقط حكمها وبقي رسمها” ولا ينبني عليها أي أثر تشريعي.
لذا فهم يريدون الوقوف في وجه كل من قال بأن هذه الآية ناسخة للآيات الأخرى التي قالت بأنها غير ناسخة، فقالوا بعدم وجود النسخ، أي أن الآيات الأخرى التي تسمح بعقد المعاهدات والاتفاقيات مع الأعداء باقية على أصلها وهي التي يجب العمل بها.
إذا ما العمل مع آية السيف هذه؟
لسان حالهم يقول: نعمل بالآيات التي تأمر بالموادعة. وأن هذه الآية لا تنسخ تلك الأحكام.
وماذا سنفعل مع هذا النص؟
سيقولون بأن الآيات والأحكام المتعلقة بالجهاد هي آيات تاريخية انقضى العمل بها بانتهاء أحداثها.
طبعاً هذا تخريج تلفيقي، فكان عليهم (تدبر) الآيات بتمعن والقول بأن هذه الآية بالذات (التوبة 5) خاصة بالتعامل مع الكفار والمشركين في جزيرة العرب الذين تم إعطاؤهم فرصة أربعة أشهر ليمتنعوا عن زيارة البيت الحرام: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} فالحديث عن فئة معينة من الناس.
ولكنهم لا يريدون أن يقتصر الأمر على مشركي جزيرة العرب، إنهم يريدون تعطيل كل أحكام الجهاد.
إذاً: الحديث عن الناسخ والمنسوخ إقحام للموضوع في غير محله.
-
تمييع مفاهيم الإسلام عند الشباب المسلم.
-
رأينا ثمرة هذه القراءة في التشكيك في كل حكم شرعي، وفي كل مصادر الإسلام، الفقه وأصوله، السنة النبوية وعلومها، السيرة النبوية، بل وحتى اللغة العربية بما فيها من معاجم. وأما التاريخ فلا يأخذون منه إلا كل ما هو قتل ودماء وسبايا وملك يمين.
-
رأينا هجوماً مركَّزاً على السنة والحديث، واتهام الأحاديث بأنها تخالف العلم والعقل، بل وتخالف القرآن نفسه.
-
رأينا هجوماً وشتائم على أئمة الحديث تولى كبرها محمود ابو رية في مهاجمة الصحابي أبي هريرة، واستمر الأمر إلى أن وصل محمد عبده ماهر في مهاجمة البخاري ومسلم وبقية علماء الحديث ووصفهم بأوصاف نابية.
-
التشكيك في الفقهاء وأنهم كانوا أدوات بيد الحكام من الأمويين والعباسيين، وكلهم كان يأخذ (من كيس أبي هريرة)!
-
الطعن في مفهوم الصحابة، وترديد مقولة بأنهم اقتتلوا فيما بينهم.
-
وغير ذلك…