محمد الأسعد
بيت الألواح، هي التسمية الشائعة للمكتبة في العصور العربية القديمة، في عصر الحضارة البابلية خاصة، ليس لأن ألواح الطين هي صحائف الكتاب آنذاك، أو أن البيت مجمع هذه الألواح، بل لأن البيت، كما أظن، كان الوعاء الذي يحتوي الناس وأشياءهم، كان الكون المصغر، وكذلك كان البيت الذي تجمع فيه حكمة الماضين والراهنين والقادمين، أي قوام العالم كما عرفته مختلف الحضارات.
تعرفت إلى عبارة بيت الألواح متأخراً، ولكنني مررتُ قبل ذلك بتجربة أن تكون مكتبتي هي العالم أو العكس، واكتشفتُ هذا المعنى دون أن أجد التعبير المناسب عنه. واليوم أشعر بامتنان بالغ لأولئك الذين أطلقوا هذه التسمية القريبة من القلب أكثر من غيرها. أولئك الذين كانوا يعكفون في العصور الغابرة على ألواحهم الطينية وبيدهم أقلام من القصب مدببة ينقشون بها حروف أقدم الأبجديات، الأبجدية المسمارية، على الألواح، متجولين في الأزمنة والأمكنة كما تجولتُ بالفعل في زمني هذا، قراءة وكتابة، بعدهم بآلاف السنوات.
جاءني الكشفُ الذي لا يُنسى مصادفة، ذات يوم طلبت مني زميلة هوايتها القراءة عدداً من الروايات التي أحتفظ بها في مكتبتي، فالتقطتُ لها عدداً يقارب العشر روايات، وقبل أن أقدمها كتبتُ عناوينها على ورقة. وهنا حدثت المفاجأة: كانت أماكن وأزمنة الروايات متنوعة بتنوع مؤلفيها وبلدانهم، كانت هناك روايات يابانية وإفريقية وروسية وأمريكية لاتينية وفرنسية.. إلخ، وبعضها عربي بالطبع. وكانت كلها تقريباً مما حصلتُ عليه أو جاءني خلال سنوات وسنوات. وتساءلتُ: هل كنتُ أتجول وأرحل في كل هذه الجغرافيات الإنسانية والطبيعية من دون أن أدري؟.
أدهشني اكتشافي، وتذكرتُ ملحوظة محددة تكاد تكون واحدة على ألسنة عدد من أصدقائي، تقول إن هناك جهداً وعمقاً غير عادي في كتاباتي، وكانت هذه الملحوظة تثير حيرتي، لأنني لم أكن أبذل جهداً في الكتابة، ولم أكن أعتقد أن هناك عمقاً غير عادي فيها. هنا، وفي ضوء عناوين الروايات العشر التي سجلتها، أدركتُ سر ما لاحظه الأصدقاء؛ لقد كنتُ طوال السنوات الماضية، أي منذ أن بدأتُ أقتني وأقرأ الكتب، أو الألواح إذا شئتم، قبل خمسين أو ستين سنة، أتجول في العالم وأعرف عنه في ماضيه وحاضره، ومستقبله ربما، من دون حاجة إلى مغادرة بيتي. أو هذا ما نبهني إليه على الأقل سطرٌ من سطور الكتاب الصيني، «سواء السبيل والهدى»، المشهور في الترجمات العربية الغبية باسم «كتاب الطاو»، للمعلم «لاوتسو»، السطر الذي يقول: «يمكن للإنسان أن يعرف من دون أن يغادر بيته». وأخذتني مقولة الكتاب الصيني إلى دهشة الأمريكي «هيرلي جلسنر كريل» (1905-1994) في كتابه «الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماوتسي تونغ»، حين سأله راهب من أتباع مذهب «لاوتسو»، رث الثياب وحافي القدمين، في أقاصي الصين «إلى أي جانب ستنحاز أمريكا في الحرب القادمة؟»، في وقت لم يكن فيه أحد في العالم، والغربي منه خاصة، يتوقع أن حرباً عالمية ثانية ستندلع.
إذاً، هنا كان سر العمق، في بيت الألواح الذي لم يكن سوى بيت انطوى فيه العالم الأكبر. ولكن الجواب الذي اكتشفته، أن الكتاب كان وسيلتي للتعمق في الجغرافية الإنسانية والطبيعية، مكاناً وزماناً، لم يكن كافياً كما سيخبرني بعد ذلك الفيلسوف «رتشارد رورتي» (1931-2007)، صاحب كتاب «الفلسفة ومرآة الطبيعة» المكرس لنقض نظرية أن العقل آلة ناسخة لظواهر العالم المحيط بنا، بقدر ماهو آلة «تمثّل» و«تمثيل». فما هي نوعية الكتب التي تسمح لنا بالقول إننا «نعرف» حقاً؟ ماهي الكتب التي تجعلنا شخصيات مستقلة، منفتحة وغير متعصبة؟ أي شخصيات إنسانية؟
في أيامه الأخيرة يمجد «رورتي»، وفي ضوء كتاب مدرس إنسانيات هو «هارولد بلوم» (1930) عنوانه «كيف تقرأ.. ولماذا؟»، فنون الخيال، الشعر والمسرح والرواية، ويفضلها على كتب الفلسفة والتاريخ والسياسة وبقية العلوم التي يضعها تحت مسمى الكتابات الإيديولوجية. وتضمنت سلسلة محاضرات له تأملات في عوالم الأدب والنقد يمكن أن نعدها انقلاباً فكرياً حوّل الفيلسوفَ الناقد للمناهج الفلسفية إلى داعية إلى استبدال الأعمال الأدبية الإبداعية بأعمال الفكر والتمعن والجدل والمناظرات، مستنداً في ذلك إلى تأملاته وتأملات من وجده يشاركه اتجاهه هذا.
فما الذي قاله «بلوم» واجتذب هذا العقل صاحب كتب تفكيك وهدم كل ما هو ميتافيزيقي في التراث الغربي؟ الجواب بسيط كما يشرح، إنه تمجيد الجواب على السؤال عنوان الكتاب: كيف تقرأ ولماذا؟. تمجيد يأخذ هذا المنحى: «إن الجواب النهائي على سؤال لماذا تقرأ؟ هو أن القراءة العميقة والدائمة فقط هي التي تؤسس وتعزز استقلالية ذات الإنسان». ويعني «بلوم»، كما يقول، «بالقراءة» قراءة الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والقصائد. ولا تتضمن عشرات الكتب التي يقول لنا كيف نقرأها أي كتاب فلسفي. المقدمة المنطقية الضمنية لكتاب «بلوم» هي أن الأدب الإبداعي، أدب الخيال، لا الأدب الجدلي هو أكثر الطرق فعالية لتحقيق استقلالية الذات. «القراءة» هنا تعني قراءة كتب لا تجادل، وبذلك يمارس «بلوم» ما يدعوه رورتي «الثقافة الأدبية». إن معظم نصحه يدور حول كيف نقرأ والحاجة إلى تجنب ما يدعوه «الإيديولوجيا».
هي دعوة إلى بيت ألواح محدد، إلى كتب الملاحم والروايات والمجموعات الشعرية والمسرحيات. ويمكن أن يختلف كثر مع هذه الدعوة، فيثير بعضهم حاجة الإنسان إلى كتب العلوم والفلسفة والتاريخ وما إلى ذلك، ويثير بعضهم اعتراض أحد فلاسفة المنطق الوضعي، «زكي نجيب محمود» (1905-1993)، الذي نظر إلى فنون الأدب والتصوير والنحت نظرته إلى ألعاب مارستها البشرية في طفولتها، ولكن لا أحد يمكن أن يختلف في أن رتشارد رورتي وهارولد بلوم كانا ينطلقان من أفق أوسع بكثير من أفق السياسيين والعلميين، كان أفقهما يتجاوز حاجات هذا الجيل أوذاك، أو هذه الجغرافية أو تلك. كانا ينطلقان من حاجة إنسانية ملحة، بعد أن أتخم سكان هذا العالم أنفسهم بأسلحة دمار لا تكفي لتدمير كوكب الأرض فقط، بل وتدمير المنظومة الشمسية، إلى أن يعود الإنسان إلى الجوهر فيه؛ إلى أن يفهم الاختلاف والتعدد، وأن يتفهم أن كيف يكون رفيقاً أو صديقاً لأخوته من بني الإنسان، وهذه الأرض التي لم تمجدها الشعوب القديمة عبثاً، ولم ترفعها إلى مرتبة سامية لهواً.
هنالك علامة أخرى يمكن أن أضيفها إلى فكرة بيت الألواح، تلك هي فكرة العالم حين يكون بيت ألواح أيضاً، أي حين يتحول في عين الرحالة والجوال إلى كتاب. مثل هذا الكتاب قد يكون مفتوحاً أحياناً، وقد يكون مغلقاً في أحيان أخرى. هو مفتوح حين يتعلم القارئ كيف يقرأ.. ولماذا؟ كما يطالب هارولد بلوم، وهو مغلق حين تقيم أمة من الأمم جداراً بينها وبين العالم المحيط بها، كما يطالب الإيديولوجيون بمختلف نزعاتهم. معنى العالم/الكتاب هو امتداد فكرة الكتاب إلى ما بعد الأبجدية. إلى قراءة العلامات التي قد لا تكون صوتية بالضرورة، بل مجرد صور. وأعتقد أن الدعوة إلى تمجيد أدب المخيلة وفنونها هي في العمق دعوة إلى تمجيد الصورة لسبب مهم، هو أنها لا تفرض علينا زاوية نظر محددة، لا تحاول إقناعنا، لا تقودنا إلى مسرب واحد كما تقود نملة أسرابها. الصورة توحي، والإيحاء يعني بالنسبة إلى الإنسان أنه حر، وأن أمامه خيارات لانهاية لها، تماماً كما في إحدى قصص الفيدا الهندية؛ تسأل كائنات النور وكائنات الظلمة ويسأل البشر الإله عما يفعلون بحياتهم، وكيف يسلكون ليرضى عنهم، فيكون الجواب للأطراف الثلاثة كلمة واحدة هي «دا..» ويفسر كل طرف هذه الكلمة في ضوء وضعيته، ويكمل هذين الحرفين، فيقول البشر إنه يدعونا إلى أن نكون كرماء، وتقول كائنات النور إنه يدعونا إلى عدم الإفراط، وتقول كائنات الظلمة إنه يدعونا إلى أن نكون رحماء. وحين عرض هؤلاء تفسيراتهم على الإله أجازها كلها. وفي تفسير هذا المعنى يقول أحد المعلمين الهنود: «لم يخلق الله البشر مثل جرار يضعها صانعها في الفرن ويخرجها مكتملة السمات والألوان، بل خلق كائنات حرة».
يتحرر الإنسان بالقراءة، والقراءة العميقة، وينتمي إلى العالم من حوله، أو يجعل العالم ينتمي إليه، وهذا هو المعنى النهائي لهذا الفعل: اقرأ، أي تحرر من ضيق الأفق والعصبيات بأنواعها، وتحرر من الرائج والمبتذل من القول، وكن أشبه بإنسان أول يكتشف الكون لأول مرة، نضراً وبهياً كما كان، وكما سيكون دائماً.
_____
*الخليج الثقافي