شغف السؤال**… يلقي ضوءً على عدي مدانات
-
عزيزة علي
* : عدي مدانات قاص وروائي أردني، يرى أن مهنة المحاماة أوصلته إلى الناس على اختلاف مراتبهم.
بداية، دعنا نسأل عن مهنتك وأثرها في إبداعك الأدبي؟
-أنا محامٍ، ولكنني تكوّنت ككاتب قصة قبل امتهاني المحاماة، وأخذت زادي من الحياة، وتدرّبت على اقتناص اللحظات الإنسانية الغائرة في النفس، والمطمورة تحت ركام من المظاهر المُصطنعة والمُخادِعة، خارج المهنة، وعلى امتداد أعوام عمري السابقة لها. غير أنني لا أنكر أن مهنة المحاماة أوصلتني إلى الناس، على اختلاف مراتبهم وظروف عيشهم، وأطلعتني على أسرارهم وخفاياهم، وأدخلتني قصورهم وأكواخهم، ومكّنتني من رؤية الصفات الإنسانية على تنوعِّها، مجسّدة بالبشر؛ وهكذا عرفت نماذج بشرية مختلفة، عفّة النفس وكِبَرها، ضعف النفس وضِعتها، وألق النفس وانطفاء ألقها، أصالة النفس وزيفها، نُبل النفس وانحطاطها، مكر النفس وصدقها.
*: أنت من كتّاب الواقعية، برأيك، هل بالضرورة أن يكون الواقع منبعًا لهذه الكتابة، أم أنك تلجأ الى المتخيّل؟
ـــــــــــ كتابتي معروفة بالواقعية، وهذا صحيح ما دمت اخترت كتابة القصة القصيرة ثم الرواية، فإن لم تكن الحياة مادتي، فلماذا اخترت القصّ؟ ومن أين آتي بقصصي؟ إن لم يكن الإنسان منبع قصصي، فلمن أكتب؟ كتابة القصص؛ أكانت قصة قصيرة أم رواية، هي مادة جمالية، ولكنها مادة إنسانية، ورسالة لفضح القبح والشر والمكائد واستلاب إنسانية الإنسان من جهة، ولتسليط الضوء على الجميل والعفيف والباهر والرهيف من جهة ثانية. هي سلاح جمالي في معركة الإنسان للقضاء على بذور الشر فيه، والارتقاء به إلى أنبل ما لديه.
في هذا الخصوص، تلعب المخيّلة، ويلعب الخيال، دورًا أساسًا في الخلق القصصي، فمن دونهما تصبح الكتابة نقلًا بليدًا للواقع من دون روح. غير أن المخيّلة والخيال لا ينفصلان عن الواقع، ولا يسبحان في فضاءات مجهولة، فهما نتاج الواقع، والحذر بهذا الخصوص واجب كل كاتب.
*: يرى بعض النقاد أنك تأثرت كثيرًا بالأدب الروسي، وتحديدًا بأدب تشيخوف، وكيف تنظر إلى مسيرتك الأدبية الآن؟
– تأثرت بالأدب الروسي في مرحلة مبكرة من حياتي، وهذا صحيح، وبخاصة تشيخوف، فشغفي كان دائمًا بكل أدب إنساني يكشف دواخل الإنسان ومنعطفاته، وما يثقل عليه وما يأسره، وما يتوق ويصبو إليه، ولكن بلطف ومقدرة. وفي هذا الخصوص تأثرت بكل أدب إنساني آخر رفيع، أينما وجدته. وفي مجال القصة القصيرة بالذات، تأثرت، على سبيل المثال، بجي دي موباسان، وجاك لندن، وجون شتاينبك، وإرنست همنجواي، وإدغار ألن بو. وأغرمت بقصص تضمنتها قصائد، مثل ناظم حكمت وكافافي وجاك برفييه، وكثيرين غيرهم. أنا الآن في السبعين من عمري، ولا بدّ أنني بلغت في تجاربي أن صرت أحمل نكهتي الخاصة.
*: لماذا تأخرت في النشر؟ وهل الكتابة تحتاج إلى النضج؟
– تأخرت في نشر الكتب، وهذا صحيح أيضًا، ولكنني لم ألج الكتابة متأخرًا، فلقد كتبت القصة الصالحة للنشر، ونشرت البعض منها في صحف سورية، مثل الطليعة والرأي العام، وأنا في الثالثة والعشرين من عمري، ثم توقّفت طويلًا، ولذلك أسباب قاهرة تتعلّق بنشاطاتي الحزبية وما جرّت علي من صعوبات، وعدت للكتابة بعد خمسة عشر عامًا، ونشرت عددًا من القصص في جريدة الرأي، في عهد محمود شقير، ثم توقفت من جديد تسعة أعوام، لأبدأ بهمّة عالية وأنا في الخامسة والأربعين وأكتب من دون انقطاع.
* : أنت أحد مؤسسي رابطة الكتاب الأردنيين، حدّثنا كيف تأسّست؟ وما دور صديقك تيسير سبول في هذا التأسيس؟
– فكرة إنشاء رابطة للكتاب الأردنيين ولدت من رحم إجماعنا نحن أصدقاء تيسير على تحقيق حلم طالما راوده وعمل من أجله، وهو تأسيس هيئة معلنة ومعترف بها، تجمع الكتاب في إطار قانوني، وكان ذلك في بيت العزاء، بيتي. فُتح بيتي للعزاء من غير تدبير، من لحظة دويّ الخبر الصاعق بإطلاق تيسير رصاصة على رأسه، ووصول صداه لكل من عرفه وأحبه.
سارع محبّو تيسير للاجتماع في بيتي، وكان من بين الذين ثابروا على الحضور، سليمان عرار، صالح الجيرودي، عصام العجلوني، أسامة شعشاعة، سالم النحاس، جمال أبو حمدان، عز الدين مناصرة، حسين حسنين، راكان المجالي، إحسان رمزي، الدكتور رضوان مسنات، المناضل عوني فاخر وآخرون. كانت تجمعنا فجيعة واحدة، ويأسرنا حزن واحد، ويقرّب الواحد منا إلى الآخر.
اقترح عليّ الحضور، في اليوم الخامس للعزاء على ما أذكر، قراءة قصائد تيسير. وفيما كانت القراءات تتوالى ولدت في نفسي فكرة متابعة حلم تيسير بإنشاء هيئة تضمّ الكتّاب تخليدًا لذكراه. قوبلت الفكرة بالقبول، وتمّ في الحال اختيار لجنة تحضير ومتابعة، ضمّتنا أنا وسالم النحاس وعز الدين مناصرة وجمال أبو حمدان وأسامة شعشاعة وحسين حسنين، وتولّيتُ أنا إعداد النظام الداخلي، وبعد ذلك تداولنا أسماء أعضاء الهيئة التأسيسية، وحرصنا على ضمّ أسماء كبار الكتّاب، ولم أشأ أن يَرِد اسمي من بين المؤسسين، لأنني كنت معروفًا بانتسابي للحزب الشيوعي المحظور، وكلّ ما أردته هو النجاح بترخيص الرابطة من دون عوائق. أما لماذا تعدّدت الروايات، فمردّ هذا أهواء الأنفس…
أما لماذا أُقيم العزاء في بيتي مع وجود بيت عزاء آخر لعائلة سبول، في بيت شقيق تيسير، المرحوم شوكت سبول، فهذا ما لا أستطيع تفسيره، وأترك أمره لمن خصّوني بالعزاء، وهذا ما يجعل الحديث عن علاقتي الحميمة بتيسير يسبق غيره.
وفي هذا المقام، لن أطيل الحديث، على الرغم من أن سيرة صداقتنا الحميمة تحثّني على الإطالة، فلكم تحتشد الذكريات في نفسي وتحفّزني على إطلاق العنان لها، ولكن المجال لا يتّسع، ولذلك سأُجهض رغبتي، وأختصر وبنفسي كمد، فقد امتدّت علاقتي بتيسير وازدهرت وتمتّنت، وخضعت للتجارب، وصادفت حلو الحياة ومرّها على امتداد عشرين عامًا، والتفصيلات الصغيرة الحميمة هي التي تحمل النكهة.
تعود علاقتي بتيسير إلى مرحلة الدراسة الثانوية، وإلى الأعوام الخمسين من القرن المنصرم. جمعتنا في البداية مدينة الزرقاء وحافلة عسكرية، كانت تقلنا في باكورة الصباح من مساكننا في مدينة الزرقاء إلى مدارسنا في عمان، وتعود بنا في المساء. كنا صغارًا في السن، غير أن زادنا من الثقافة الأدبية كان كبيرًا، وهكذا قُيّض لنا أن نلتقي ونتبادل أحاديث الثقافة، على خلاف ما كان يحدث لدى الآخرين من انصراف إلى الشقاوات والدعابات.
كنا متفّقين في المزاج والذائقة والمثابرة على القراءة، ومختلفين في الانتماء الحزبي، فقد كان تيسير قومي النزعة، بعثي الانتماء الحزبي، وأنا ماركسي شيوعي الانتماء، غير أنه لم يكن لهذا الاختلاف أن يباعد بيننا، فقد كان ما يجمعنا أقوى. كنت أقرب إلى تيسير من رفاق حزبه، وكان هو أقرب إليّ من رفاق حزبي.
غير أن مأزق الاختلاف الحادّ الذي تجاوزه تيسير بسعة قلب، وأناة نفس، وصفو ودّ، حدث في دمشق مع قيام دولة الوحدة العربية. توافرت آنذاك أسباب للخلاف بيني وبين تيسير، وأخرى أكثر منها، أدقّ وأرقّ، للوفاق، فقد كان لكل منّا رأي مختلف حول تلك الوحدة على النحو الذي قامت عليه، ولذلك تفصيلات تُظهر معدن تيسير الأصيل لا مجال للخوض فيها. غير أن ذلك الخلاف، على شدّته، لم يفتّ في عضد صداقتنا، ولم يطغَ على ما يجمعنا وما يؤلّف بيننا.
كنا على صلة يومية، نقرأ كتب الأدب، ونناقش مضامينها وأساليبها، فنتّفق أو نختلف بشأن بعضها، ولكنّ ذلك الاختلاف ما كان إلا ليزيدنا شغفًا في النقاش ومدًا به. كتب تيسير الشعر ونشره، وأقام صلات مع الأدباء السوريين، ولم أكتب أنا القصة القصيرة وأنشرها، إلا بعد حدوث الانفصال، وانفراج أزمة الحزب الشيوعي، وكان تيسير سعيدًا وفخورًا بما كتبت، فجمعني إلى الروائي الراحل هاني الراهب الذي كتب أول أعماله “المهزومون”، وصار مسكن هاني الراهب مكان لقاءاتنا.
عاد تيسير إلى عمان بعد تخرّجه، فيما بقيت أنا في دمشق، وتعيّن عليّ أن انتظر العفو العام الذي صدر في شهر نيسان/ أبريل 1965، لأعود بعده بعام ونيف إلى عمان. لم ينقطع تيسير عن دمشق، ولم يتخلّف عن زيارتي كلما زار دمشق، وبذلك تواصلت لقاءاتنا. عدت إلى عمان، غير أنني لم أملك حريتي، فقد فُرضت عليّ الإقامة الجبرية، ومُنعت من العمل. ثم التحقت بنقابة المحامين، فيما استقرّ تيسير موظفًا في الإذاعة الأردنية، بعد أن جرّب حظه في المحاماة ودائرة ضريبة الدخل.
ومنذ أن عدت إلى عمان، ما عدنا نفترق، حتى بعد زواجه من صديقته الدكتورة الأديبة مي اليتيم التي كان لي حظ معرفتها في دمشق بصحبته، فقد صرت صديق العائلة أصحبها في الرحلات والنزهات، كان منها رحلة إلى الضفة الغربية قبل احتلالها بقليل. كنا نلتقي صباح كل يوم في منزلي، وقبل توجّهه إلى الإذاعة، نحتسي القهوة ونتحدث قليلًا، ثم يصطحبني إلى مكتبي، ويواصل سيره إلى الإذاعة، ونلتقي في منزله في المساء، ونبقى هناك إلى أن تأوي زوجته إلى الفراش، ثم نخرج معًا لنلتقي مع كل مهتم أو ضالع في الكتابة.
كانت لنا أماكن جلوسنا في النهارات؛ مقهى شهرزاد، ومقابله مطعم جبري في وسط عمّان، ومطعم الدبلومات في جبل عمّان قرب الدوار الأول، والريفيرا سناك قرب الدوار الثالث، حيث كتب روايته “أنت منذ اليوم”. أما في الليالي، فقد كنا نسهر مع الأصدقاء في منازلهم؛ راكان المجالي، جمال أبو حمدان، مصطفى أبو علي، سليمان عرار، صالح الجيرودي، سالم النحاس، وهاني الراهب في دمشق، وحليم بركات وأدونيس في بيروت. كان حديث الأدب يغلب، وإن لم يغِب حديث الشأن العام.
تعرّض تيسير لغوايات تسلّم مناصب حكومية رفيعة، فأعرض عنها، منها منصب مدير دائرة الثقافة، وعضوية في قيادة حزب الاتحاد الوطني الذي ابتدع فكرته مصطفى دودين وترأسه إبراهيم الحباشنة، غير أنّ أصدقاء تيسير، ممن سبق لهم أن شاركوه الهمّ الثقافي، انتقلوا إلى مواقع متقدّمة في ذلك الحزب، ومن ثم في وزارات الحكومة، فمال تيسير إلى الكآبة التي نشبت أظافرها في نفسه، ثم جاءت حرب 1973، ونجاح إسرائيل بعد تقهقرها في استعادة أجزاء من الجولان وسيناء، لتفتّ في عضده وتُفقده الأمل بالانتصار العربي.
تزوجت أنا في أول الشهر السابع من ذلك العام الذي فقدنا في نهايته تيسير. وكان هو بطبيعة الحال، من أوصل العروس بسيارته إلى الكنيسة، حيث كنت أنتظر. غير أن زياراته الصباحية لاحقًا صارت أقل، كما أنني لم أعد أتأخر في السهر. في هذه الأثناء أُخذت من تيسير وظائفه التي كانت تشغل وقته، ونُقل إلى غرفة بعيدة عن الآخرين وخالية، إلا من طاولة مكتب ومقعد، ومن دون هاتف، وهو الذي كان مرشحًا لأعلى المناصب.
قبل الرصاصة القاتلة بأيام، جاءني تيسير إلى المكتب، وعرض عليّ فكرة تأسيس جمعية ضدّ الحزن، ولمّا سألته عمّن أوحى له بهذه الفكرة وسمّاهم، قلت إنّ هؤلاء بالذات من يحترفون الادعاء بالحزن، فحذار منهم. قبل الرصاصة القاتلة بيوم، زارني في الصباح وأقلني إلى مكتبي، ولم يحدثني عن الحزن، ولكنّه كان حزينًا. أمّا نهار الرصاصة القاتلة فلم يزرني، وكنت انتظر زيارته، فلم أغادر المنزل إلى أن جاء صالح الجيرودي وأبلغني بالخبر الفاجع.
إن خسارتي بموت تيسير لم تُعوّض. فقدت نعم الصديق، ورفيق الدرب، وشقيق الروح، ومحرك الخيال، ومنمّي المعرفة، ومجمّع الصَّحب.
ـ( توقفت الأسئلة، فأُسدل الستار على البوح ) ـ