رسالة إلى رجاء عليش

(ثقافات)

 

رسالة إلى رجاء عليش

*  أنس الغوري

إلى رجاء عليش

يا صديقي، أنتَ قلت: “لا تولد قبيحًا” وأنا أضيف: لا تولد قبيحاً وضعيفًا.

أنتَ قلت: “كلهم أعدائي” وأنا أقول: كلّهم قتلة.

صديقي، أنتَ لاتعرفني، لكنني أعرفك حق المعرفة وأعرف كُلَّ خلجات الشعور التي مَررت بها، إذ أنّي تشربتُها؛ لأننا نتشابه وكأننا توأم. سكنني كُلَّ شعورٍ لك مع كُلِّ موقفٍ آثم منذُ بدأ في تعرية واقعك إلى رحيلك البطولي.

فاتني أن أُعرفك بنفسي، أنا: أنس، ثلاثينيٌ هرِم.سأرسمُ لك ملامِحي بالكلماتِ كما يعرفها الكثيرون وذكرتها سابقًا.

وجهٌ نحيلٌ بشدّة، أنفٌ حادٌ يصلح مثالًا كبيرًا لبينوكيو، عينان جاحظتان يسكنهما رعبٌ أزليّ، أسنانٌ منخورة تصلح تمائم لعجائزنا المُنتظرة على عتباتِ الفراغ، أذنان متوسطتا الحجمِ خاليتان من معالم التميز، رقبة دقيقة تبرز منها تفاحة آدم بشكلٍ جليّ، صدرٌ من شدةِ بروز قفصه يصلُح مادة جيدة لطلابِ الطبّ الجُدد، يدان نحيلتان كأعواد كبريت يؤدّيان عدة مهام وأهمُها حكاكة ظهر، ساقان أشبه بأعواد ملوخية يابِسة. لا أمتُّ للوجود الأنسانيِّ بصلة.

أصحو كُلَّ صباح وأجدُ الموت يكتنف ما حولي كما كُلَّ يوم. أظلُّ ثقيلًا، مُبللًا بالتفكير العويص، خفيفًا بجسدي المُتهالك، سابحًا في فضاءات الكواليس.

أدفعُ جثتي لذاتِ الروتين المُعتاد على عُجالة لأتابع تتمة مشهد الفِرار. ولأنّني كائنٌ مسكونٌ بالرعب والقلق أقصد الشوارع الخالية لأصل وجهتي بأقل الخسائر، لأنّه يؤلمني ويذبح روحي مشاهد الحياة اليوميّة. وكأنَّ قاطني هذه البقعة المُدنسة يقرأون ما خُط على ألواح دخيلتي!

ازدحام الباص، رائحة الديزل المختلطة بكافة عطور الركاب تدفع بي للغثيان، الجلوس جانب أحدهم واحتلاله لمساحتي الصغيرة يخدش قلبي، زعيق السائق المُستعرض لقواه، استعراض الشباب لقوتهم من خلال ضحكاتهم العالية وأحاديث مشاجراتهم الهوليودية أو البوليودية؛ لتفريغ حنقهم وترجمتها على أيّة ضعيف. كُلَّ هذا يؤذيني!

بُكاء طفلٍ ما وتقريع أمه له.

تبرُج الفتيات الفائض عن المُتعة الجمالية من خلال طلاءات الوجوه التي تُشبه طلاءات حينا العشوائي، تجرح عينيّ.

محاولات لفت الانتباه لكلا الجنسين يُشعرني كذلك بالحزنِ على خواء عاطفتهم.

معاكسة الشباب للفتيات تؤلمني.

عرضُ الأزياء كُلَّ صباح هنا، ماهو إلا مشهد مُفزع ووئدٌ للبساطةِ والجمال الصادق.

اعتداء حيوان قوي على آخر ضعيف، يؤلمني.

مواء قطة تستنجد بي يدفع بي للبكاء.

هروبي من الجرذ وهروبه مني قبل تمكني بإخباره أنّي باغي سلام، يوسع فجوة الحزن.

سخرية أخي الكبير مني واتهامه الدائم لي بالسذاجة “أهبل” شرَّع الباب  للأغيار على الهزء المستمر.

مقاطعة بقية إخوتي لي وتبرئ أحدهم منّي، رفضُ أمي وأبي لي يجرُّ روحي للمقصلة.

نظرة الحرمان في عيون الصغار؛ تسحق قلبي في قعرِ قاع الجحيم.

فرحُ صاحب العمل بذكائه وفطنته بقبولي ساعات العمل الطِّوال مقابل أجرٍ مُجحف ومنتهك صارخٍ للحقوق وهو يجهلُ أنّيَ أتابع هروبي الدائم.

تلّوث العلاقات الأنسانيّة.

النفاق الثقافي من خلال الاستعراض العقلي لكمِ المعلومات، تعالي القرّاءِ واستكبار الكُتّاب، أنانيّة الناشر، وجلّهم يستظلون مظلّة النفاق.

ياصديقي، كُلَّ ما هاهُنا يجترُ الفجيعة من ناصيتها!

يُتخمني هذا القلبُ بالذلِّ والهوان كُلَّ أوان يا صديقي البعيد، وكلّما حاولت أن أوصد أبوابه، يركل ضلوع صدري ويفرُّ بحثً عن أيّة عاطفة ولو كانت زائفة أو محضُ تخدير.

ياصديقي، قد بتروا كلتا يديّ؛ لكثرة ما تسولت الحُبّ!

الآن لا أستطيع تسلق حبال صوتي لأصرخ، لأصرخ من الألم الذي يرشَح مِن نسغ روحي!

ذات القلب، ضاعف الإيلام الآن بعد شلل لسانه!

ما أصدق ريلكه حينما قال: “إنّ الحياة أثقل من ثِقل الأشياء كلّها”.

قبل أن أنهي كلماتي لك، أود أن أخبرك شيئًا حدث بالأمس. الأمس القريب، اكتشفت عائلتي فقدان مبلغٍ صغيرٍ للغير كبيرٍ لنا، وبهذا المبلغ اشتريتُ ساعة به، نعم!

لا أظنك ستتعجب كما الآخرين، لأنك تُدرك كيف تُسيّرنا تلك التفاصيل المُتجسدة بأمانيّ لطفولتنا المؤجلة، العالقة بجيوب الذاكرة الأولى. أكالوا لي التُهم ولم أستطع التبرير!

لا زلتُ أسيرًا مطواعًا لتلك التفاصيل الصغيرة.

قبل أن أُنهي كلماتي المشوهة والملتوية كالأفعى، أود إضافة بعض الحروف غيرُ القابلة للطلاء وتزيينها. صديقي،أنَّ جذر جذور الألم حينما يكون بداخلنا الكثير.. الكثير من الكلام المُتراكم، والذي يتكاثف ويتشّكل كطبقاتٍ فوق طبقات على القلبِ حتى يكاد يقتلُنا ولا نجدُ له مخرجًا طارئًا!

سنلتقي، نعم، عندها سأحملُ معي معول وأحرثُ لا وعيي وأقتلع جميع الحوادث والأحاديث العالقة، سنتحدث ببساطةٍ وانسيابية ماء عن كُلِّ ماهوَ مُهمش ومطموس.

الآن، سأحاول ارتجال مشهدًا يُلائم خرابي وخراب ماحولي بِصحبةِ “المسلة” لِنبيل سليمان، معري آخر، مُعاصر، كما جاء في “تقرير الهدهد” لِحبيبنا؛ حبيب عبد الرب سروري.

لا أدري كيف ستتقاطع طُرقنا وفي أيّ عوالم، ربما طريقي هو “الطريق الرابع” وهذا الطريق استعارة مِن قبلي لصاحبة العمل: نتالي الخوري غريب، حيثُ لكُلِّ شخصٍ طريقه الذي ينشده.

يامن غادرت قويًا أنتظر صديقك الضعيف والجبان!

يتحتم عليّ أن أتوقف الآن وعاجلًا، إنّني أرتجف!

* شاعر من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. يا أنس أنت الوحيد الذي عندما تكتب تبوح بما أعجز انا عن بوحه، وصفة، التعبير الدقيق عنه.
    هذه الرسالة عظيمة، عظية جدا. تصف بها معاناه يومية بنظر الكثير أمور تافهه، لكنها تأكل قلبي و روحي و تقتلني ببطء.
    يا أنس أنت خُلقت لتكون مُبدعا، كما بحتُ لك سابقاً صفاتك هذه و عقلك و ترفعك النبيل عن كل حماقات و ظلم العالم، كل هذا بنظري هو ربُّ الجمال.
    إنك تملك شيئًا نادرًا عليك أن تدرك أهميته، أتمنى من كل قلبي أن تُرضى و ترضى عنك الحياة.
    محبتي و إحترامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *