رسالة إلى أبي

*صالح العامري

1-
أعرف أنها رسالة ناقصة، ومتأخرة أيضا. ناقصة مثل زياراتي الشحيحة لك ولأمّي ولتلك القرية المنسية المرتمية بعيداً عن قلب الغابة المحتدم وطحالها الضاحك، عدا السنوات الأربع الأخيرة التي كنتَ فيها طريح الفراش، حين قرعتْ تلك القرية ناقوس الوشيجة بيني وبينك، وجعلتني أحسّ بالزمن وهو يخترم الأجساد القويّة، وبالمرض وهو يجوس خلال تلك الأجساد، كما تتغلغل الديدان في جوف الثمرة.

أعرف – أيها الأب المشّاء الضاحك، الذي يقلب في طرفة عين، الجد إلى هزل، والهزل إلى جد، كأنّ الدنيا قائمة على شفا معنى منهار، أو على حافة ضحكة متفجرة – بأنني لا أفقه أن أكتب عن مآثر الآباء التي قد ندين بها لهم ولا عن سوءاتهم التي حطمتنا بولاداتنا بسببهم، لكنني أعرف، في مجازفة مغوية لا أتعب منها، أن أمتدح العابرين، وأن أضاعف جنوني بجنونهم، وأن أسقط، مثلما هم يسقطون، في غرام لحظة عارية، حنون، آسرة، متدفقة، نابضة، حيّة، مارقة، عصيّة على الوصف، كسيرة، عاجزة، مدمّرة، مشحونة بقوة، راقصة، متفتحة كنسر صيّاد أو سرّ هائل.

ومثلما لا أستطيع أن أصف تلك القرية التي ولدتُ فيها، بأنها جذري الأول أو لعنتي الأولى، عطالتي البادئة أو احتشادي المُرّ، براعتي أو خرابي، كما لا أستطيع أن أقاربها بأنها فردوس سماويّ أو جحيم أرضيّ، إذ قد تتراءى لي أحياناً بأنها جحيم لا يُحتمل ملقى بصلفٍ في أبعد القارات وأكثرها تصخراً، وأحياناً قد تبدو، بعين من عيون جنادبي الصقيلة، بأنها فردوس غائر ومختزنٌ في قبلة (بضم القاف)، أو في جرح، أو في موعد غراميّ، أو في ضحكة معتوهة، وفي أحايين كثيرة تبدو مجرد أسطورة فكهة، حُلمٌ عَجِل، لعبة من ألعاب السماء.

وإذن فمثلما لا أستطيع أن أحسم أمر علاقتي القلقة مع المكان، بفيوضاته ونضوباته، فإنني ليس بمقدوري، أيها الأب الطيب العزيز، عدا أن أسير بخلخال طفولتي إليك، وأن أتصيّد أعيادي في لطفك وحنانك، وأن يقصد مرحي الهارب مرحك المقيم، وضحكي الأغبر ضحكك الأخضر، وأن تلتمس أهلة نقصاناتي التسيار في أقمار اكتمالاتك، وأن أقضي فصل تعبي في موسم دأبك، وأن تلجأ مراراتي المنقوعة بالشكّ إلى كهف غبطاتك الموصدة باليقين.

2-
كنتَ الصيّاد (إنه العام 1969، وأنا ما أزال قاعياً على كتفيك بعد غروب الشمس، أتمسك بعنقك عائدين من البحر ذي الرائحة الفضية الزرقاء، قاطعاً بي الخور الذي استشاط مده، وأنت تحمل في يدك زادك الوفير من الأسماك التي بالكاد خفتت رقصتها في شبكتك الصغيرة). كنتَ الأجير (الذي أرهفَ السمع لصوت السواقي في «الجازرة» بينما كان الثوران يسحبان المياه من جوف البئر، حيث اللحن الساحر الذي يتردد في أذنيك هو «حانْيايْ حانْيايْ/‏ حانْيايْ حانيايْ/‏ حانْيايْ حانْيايْ»، حتى تندلق المياه في الحوض، ثم يعود اللحن إلى الانبعاث مرة أخرى). كنتَ البيدار (الذي كان يحسم أمره سريعاً في العمل بالأجرة الشهرية أو بربع أو ثلث الغلة وفقاً لروحك المعنوية أو التفاهم مع مزاجك أو ممكناتك في ذلك الموسم أو تلك السنة). كنتَ عامل البناء (الذي يعنف من لا يراه يخلط الإسمنت بالرمل بطريقة صحيحة أو مقترة، حاملاً الرفش، لاعناً الغش والنصابين والمقاولين الجدد). كنتَ العتّال (الذي ما إن قبض حفنة ريالاته في العام 1979 بعد أن فتّت الصخور الجبلية بعتلته الغليظة حتّى اشترى لي في الأول الإعدادي دشداشة جديدة للمدرسة عوض تلك الدشداشة الوحيدة التي حاولت في كل غسلة لها، دون جدوى، أن أزيل منها خط الطلاء الأحمر، والذي اندلق عليها في نزوة لعبية). كنتَ الناطور (الذي بعد أن هده التعب وأضنته الطرقات صار هناك يخفر المحكمة الشرعية في عامين خاطفين أحيل قبل نهايتهما إلى تقاعد الشيخوخة!). كنتَ هذه المهن الهامشية جميعها، رعيتَ معناها كأي فقير بائس يعيش على هامش هذا العالم، دون أن تتحصّل على أي قسط من التعليم، لا بسببك أنت، لكن بسبب الزمن المنحط الذي كنت تعيشه أنتَ ورفاق دربك السادرين في تلك المرحلة الظلامية التي ابتلعتكم جميعاً في جوفها.

أحييك يا أبي، حين لم ترتبك في العطالة، ولم تكن مخلصاً مثلي لعمل واحد، بل كانت الأشغال البائسة تتحيّنك كل مرة وتنتظر جسدك الفتيّ. وحتّى في الأعوام التي قضيتَها بعيداً عن قريتك، عن مسقط رأسك، حين اشتغلت كحال العمانيين آنذاك، في ستينيات القرن المنصرم، في البحرين، في تلك الموجة الطافحة بالأنين والمنفى، والتي أيقظت فيك روح الشاعر، المهاجر من غطيط القرية وفطريتها إلى غوايات المدينة وتشابكاتها، كانت المؤامرة عليك وعلى أمثالك تنسج سخريتها وتدبّر أمرها؛ فالروبيات «الكثيرة» الحمراء التي أرسلتَها مع أحد أصدقائك العائدين إلى عُمان، قد غرقت، وغرق معها رسولها، حيث غرقت بهم السفينة في لجّ البحر. كما لو أنّ خفي حُنين هما الأمل دائماً، والقصيدة لا تكتمل إلا بالخسارة، ولهذا تماماً صرتَ تبدأ من جديد، في كل مأزق ومع أية عقبة، كما لو أنه ليس من كارثة هبطت، أو مصيبة حلّت. لا بأس يا أبي، لم تصل نقودك إلى أمّي بعد، لكنّ شِعراً جميلاً قد وصلنا، ترثي فيه المصابين بإحدى الضربات «التسونامية» آنذاك، في تلك الستينيات الخبيثة، مذكراً بالأضرار الجسيمة التي أحاقت بالأنفس وعرشان القرية البحرية وكراجينها، في قطعة شعرية قصيرة، كانت فيها شدة ألمك تعبّر عن مشهد الأطفال والعجائز وقد ابتلعهم طوفان الربّ، لقد كنتَ (هناك) بعيداً، بينما كنتَ تنصت بقلب واجف مرتعش إلى (هنا).

3-
هل لي أن أمازحك، حين أتصورك في تلك المدينة البعيدة عن قريتك، في العالي، واقفاً (حتّى لو لم تقف فعلا)، مع زملائك في تلك المرحلة، وتحديداً في أواخر العام 1964 في طابورٍ شبقيّ من القطارس أو البطاريق، تنتظر فيه كالآخرين من أبناء جلدتك، دورك للوصول إلى بائعة هوى، إلى غانية، إلى «غرشوب»، لتفريغ الهموم، وجلد تلك المرحلة الآسنة، واضعاً يدك في جيبك، متحسساً بيدك اليمنى بضعة دنانير جديدة، هل هي ثلاثة دنانير فقط؟ أدرها في رأسك، إنها تساوي، منذ أيام قليلة فقط، ثلاثين روبية هندية. إنك تقترب كثيراً من الباب، من لذائذ الحقب، من النشوة المخدرة بالوقت العصيب، لكنك في «العالي»، حتّى لو كان المكان واطئاً جدا!.

ها أنا أمازحك. ولكن هل كنت تمازحني أنت، عندما طرقتَ باب غرفتي في منتصف إحدى الليالي في أواخر التسعينيات، في إحدى زياراتي للقرية، مستعلماً بما يشبه الهمس عمّا إذا كان لدي «صِلْب» سجائر. لقد فاجأتني حقا يا أبي. فلم أعهد منك أنك تدخن قط، رغم أنك كنت مزارع غليون من قبل. مددتُ لك السيجارة، وسحبت منها مُجّتين طويلتين أو ثلاثا، وأعدتها لي، هامساً لي بأن لا أخبر أمّي عن فعلتك «النكراء»، عائداً مثلما جئت، لتكمل نومك، كأنّ فزعاً ما قد استبد بك، أو أن مرحاً قديماً قد أومأ إليك باصطياده في صورة مدخن عجوز.

4-
القطة التي كانت تتبعك، دهستها سيارة عدوانية خلفك تماما، ولهذا جئتَ منتحباً إلينا كأنّ الكون كله قد انطفأ دفعة واحدة ولم يعد ثمة نور أو خير أو حياة.

الضحكة التي لم تكن تبحث عنك، بل هي طائشة ومستنفرة في جبينك وفي خدك وفي أصابعك وفي ساقيك وفي عينيك اللتين كانتا تنطفئان رويدا رويدا. وحتّى حينما عدتَ من المستشفى جثة هامدة، وقد خذلني الأطباء الحمقى في شفائك، تقربتُ من وجهك، اقتربتُ منك، حاولتُ بعينين مغرورقتين بالدموع أن أفتح فمك بكل ما أوتيت من قوة، لكنّ الشفتين كانتا تُطبقان على بعضهما بقوة أكبر من قوّتي، وبلحن سماويّ أشفّ من لحن حزني.

لقد كنتُ حينذاك أتذكر مزحتك التي نثرتها بيننا، قبل سنوات خلت، والتي أخبرتنا فيها بأنك إذا متّ، عليكم أن تفتحوا حلقي وأن تدهنوا شفتيّ ولثتي بالقشطة (الكيمر)، وسوف تنهض من غيبوبتك على الفور ضاحكاً هازئاً بالموت. لقد ضحكتَ عليّ يا أبي، وجعلتني أضحوكة أمام نفسي، لكن بقيتْ مزحتك تهزّ أرجاء القرية، بقيت مزحتك تضحك منك ومني، كأنّها كائن آخر، ليس من لحم وعظم، بل هي طيفٌ مولود الآن، بعد أن مات سيّدها النبيل، طيفٌ حيٌّ ناعم وحريريّ بعد أن غاب أبوها المتيبّس.

التجاور الذي كنت ترعاه بدون هوادة بين الدين والشِّعر، والذي يظنه البعض سماجة أو سفاهة، كان يحميني من الوقوع على رأسي في ميتافيزيقيا غيبية منتشرة حولي، مثل النار في الهشيم، وكان يظللني من حمأة الفقه الكذاب وهجير المعنى الملفق المكتمل.

مرويّات القصائد التي لا أعرف من أي أرض عدتَ بها أو أي شاعر قد أهداك إيّاها وتلقفها لسانك، كانت تتحدث عن التناقضات العميقة التي تجعلك مستغرباً من أولئك العميان الذين يسقون الحقول المتخمة بالماء، ويهملون الأشجار العطشى، أو تتحدث عن ذلك «الدونجوان» الذي انبهر برمانتي صدر فتاة صغيرة، وصار يتوسّل إليها في بيتين من الشعر بأن لا تصده عن قطفهما، وإذ ليس من أخلاق الفتاة أن تصرخ في وجهه أو تستغيث بأهلها أو أن تضربه بكعب حذائها، (هذا إذا كانت تنتعل حذاءً أصلا)، فقد أربكته ثقتها الصافية بنفسها عبر بيتين شعريين هي الأخرى، قضت فيهما قضاءً مبرماً على نزوته الفاسدة، دون أن تعنّفه أو تشتمه، ودون أن تخيّب أمله في خياله الشقيّ، بل أعادته إلى رشده بثيمة الانتظار، كما لو أنّها شهرزاد ماكرة، محرضة إيّاه على أن يهجع في بيت الزمن وأن يتريّث الرُمّان حتّى يكبر ويزدهر، فليس هذا موسم القطاف، وليس هذا أوان الحصاد، إذ المكافأة التي سيجنيها في الانتظار أجزل من الاستعجال البغيض، فالرُمّان نفسه، مع فضيلة الانتظار الشهيّ، سيسّاقط ورداً لا مثيل له. قائلة بما يشبه الزلزلة «أيها المجنون، من يَفْضُلُ الآخر، الرمان الغضّ؟ أما الرمان- الذي لو انتظرته- ممتزجاً بالورد؟».

5-
أيها الأب المرح كما لو أنك تقول إن الحجر يتوجب أن يغني ويكتب شعراً ويرقص، أيها المشّاء كما لو أنّ الحياة ليست إلا ذريعة لخطواتنا وأقدامنا، لم أكن أعقد العزم على كتابة أية رسائل، لا لأنني أعلم بأن رسائلي إليك لا تصل أبداً، أو أنّ هاديس سيتخطفها كما اختطفك من قبل في قاربه، هابطاً بك إلى العالم السفليّ، لكنني فتحتُ الباب منذ قليل، فرأيتُك وجهاً لوجه، وطفقتَ تكلمني، وتردد اسمي بلا توقف، كما لو أنّك لم تجد أحداً أبداً تكلمه في هذا العالم إلاي، وكما لو أنّك خرجت من قبرك للتوّ، منسلاً من حفرتك الضيقة البغيضة، مضيّعاً على الأقدار أن تلتهم ضحكاتك ونداءاتك، ومخرّباً بطشها وجبروتها بشهوة خارقة. ترى هل رشوتَ حراس القبر بقصيدة قصيرة عن العيون القتالة والخصور المستدقة أو بإحدى المسبّعات التي تقطر بالأسى والحنين، أم أنك جئت تشتهي فحسب مُجّة من دخان، ثم ستعود، مثل أي طيف مخاتل، إلى بيتك الترابيّ مرة أخرى؟.

_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *