الكتابة… حدود الوصاية

د. رامي أبوشهاب 

لطالما شكلت الكتابة عنصراً مُقلقاً للآخر، ولاسيما القوى المحافظة بمظهريها المؤسساتي أو الفردي، إذ هي غالباً ما ترى في الكتابة نوعاً من التهديد فتجعل منها أداة للإدانة، أو المساءلة عبر إخضاع تلك النصوص إلى واقع ثقافتها، وأيديولوجيتها، وفي بعض الأحيان تربيتها، ونشأتها، وربما إلى رؤية ماضوية، أو إلى ثقافتها المكتسبة، في حين هناك من يمارس رغبة في إقصاء أي محاولة للتعبير، بغض النظر عن قيمتها أو جديتها بدافع ذاتي محض أو خالص.
لقد شكلت الحرية أحد أهم القضايا الأكثر جدلية في تاريخ الإنسان، وللآن لم ننجز شيئاً -على مستوى الثقافة العربية – في تكريس مفهوم الحرية بوصفها قيمة في حد ذاتها. فالحرية في العالم العربي تعدّ من أضعف المستجدات التي تنزع نحو إيجاد فعل رقابي داخلي يتمظهر على شكل توجّس دائم من قبل الفنانين والكتاب، تجاه ما يخطونه، أو ينتجونه، غير أنّ السؤال الأكثر إشكالية يتمثل في الآتي: ما العوامل التي تجعل من البعض وصياً على الكتابة؟
من أبرز الأمثلة على هذه الوصاية، ما نراه من تدخل السلطات أو أجهزة الرقابة في بعض الدول لمحاولة منع كتاب أو حجبه بدافع سياسي، أو بداعي اقترابه من منطقة محرمة تمسّ بعض الرموز، أو الحقبة التاريخية المتنازع على تأويلها، خاصة إذا خالفت مروية الخطاب الرسمي، في حين ثمة سلطات تحجب الكتاب أو النص أو الخطاب نتيجة قوى ضاغطة ينتمي معظمها إلى تيارات راديكالية، فتسعى السلطة لتبديد أي محاولة لإثارة الرأي العام، الذي لم يصل بعد إلى مستوى الوعي القادر على إدراك أهمية الحرية، وأن الفن أو الكتابة مستوى آخر للتعبير لا يحيل إلى شيء خارجه، إنما يحيل إلى مستوى من التفكير، والتمكين للبحث والتساؤل، ولكن الأهم بيان المختلف في وجهات النظر، أو بيان تصور ما، فالكتابة لا تنتهي إلى معنى منجز، إنما هي صيغة مستمرة في تمكين توالد المقصديات الدلالية، وهنا تكمن جمالية الأدب، والأهم دور اللغة.
وفي بعض الأحيان هناك من يمارس الوصاية عبر نقد فعل الكتابة، ومن ذلك ازدياد أعداد من يكتبون الرواية – على سبيل المثال- حيث يرون أن هذا أفسد المشهد السردي، وأن الكل بات روائياً… غير أن هذا حقيقة يتأتى من إحساس البعض بأنه وصي علوي على الثقافة، في حين أن وظيفة الناقد أن ينتقد لا أن يطلق الأحكام بالنبذ أو بالتذمّر، ممن يكتبون بداعي الكثرة أو القلة، فالكتابة بغض النظر تعدّ ظاهرة صحية، ولاسيما لدى ثقافة لا تؤمن بالتعدد أو الحوار كونها أدمنت اللجوء إلى الاقتتال، والحروب للتعبير عن الاختلاف، ولا أكاد أستغرب هذا النهج في مجمعات يتوارى فيها الحوار بشكل كلي، في حين تعلو أصوات المدافع في كل بقعة فيه، نتيجة غياب ثقافة الحوار في المناهج التعليمية، والتربية المجتمعية، والأسرية.
لا يمكن أن ننكر حق الناقد في مقاربة أي نص من حيث تقبله أو رفضه، ولكن أن ينتقد كثرة الروائيين، أو يتذمر من ازدياد أعداد الشعراء، أو المنشورات التي تصدر كل سنة، فهذا لا يمكن تفهمه، على الرغم من أن البعض يصدر الإصدار تلو الإصدار، ومن هنا فإن مفاهيم الوصاية في تكوينها هي شكل من أشكال القمع، ولعل من يمارس هذا الدور يتناسى أنه عرضة هو الآخر للتشكيك، والنيل مما يخط، أو ينقد، أو يكتب.

ومن اللافت انتقاد ضعف مستوى المحتوى العربي، بالإضافة إلى قلة النشر في العالم العربي، وعدم قدرته على إنتاج ما يوازي إنتاج دولة أوروبية صغيرة، ولكن هناك من يأتي ليذهب إلى التأكيد على نوعية ما ينشر، من منطلق أن ليس الأمر بالكثرة، وهنا نحيله إلى أن نوعية ما ينشر يتصل بالفضاء الحر الذي ينتج عن غياب الرقابة، ففي العالم الحر ثمة كتابات تتصل بتوافه حياة الإنسان، غير أنها تسعى لأن تخاطب القراء حسب ميوله، واهتماماته، وهذا ما يعزز الثقافة القرائية، مع خلق مجال رحب من الحرية، التي تتيح تقبل كل ما ينشر حسب تنوع القراء تبعاً لثقافتهم، وميولهم، وأجناسهم وغير ذلك، ولكن الأهم تمكين الحراك الحيوي لفعل القراءة والكتابة على حد سواء، وهنا نؤكد على هذه المزاج العام لتمكين النتاج الثقافي بصورة صحيّة، في حين أن التذمر والشكوى من كثرة الشعراء أو الروائيين، وبأن ما ينُشر يأتي في نتاج جو قمعي، وغياب كامل للحرية، ما يفسر الرداءة، كما أنه يعدّ مظهراً من مظاهر الإحباط لكل من يرغب في التعبير عن ذاته.

وبعيداً عن التحليل التقويضي، بالإشارة إلى غياب الحقيقة المطلقة، يمكن الإقرار بحق منتقدي ازدياد أعداد الروائيين، خاصة مع بروز ظاهرة الجوائز العربية، ولكن يبقى السؤال الأهم يتحدد بآلية التعامل النقدي، ومنطلقاته، إذ تكمن الإشكالية حين ينطلق بعض النقاد أو المنتقدين من استيهامات، أو تصورات تتصل بزمنهم، أو بحنين لحقب ألفوها، وكانوا جزءاً من فضائها، فيبغضون ما هو جديد، ويرون فيه مرحلة انحطاط، أو تراجع، أو لعله إصرار على منهجيات، وطرائق تجاوزها الزمن، ومبعث ذلك الشعور بالاغتراب في تعاملهم مع المستجد، فيحكمون عليه بالفساد لأنه لم يستند إلى معيارية ما. وهذه معضلة اختبرها السابقون، وشكلت مصدر اختلاف، بوصفها نزعة قارة في الذات البشرية، حيث أشار ابن قتيبة إلى هذا الجدل من حيث ثنائية الحديث والقديم حيث يقول: «فإني رأيت من علمائنا مَن يستجيد الشعر السخِيف لتقدُّم قائله، ويضعه في متخيَّرِه، ويرذل الشعر الرَّصِين، ولا عيب له عنده إلاَّ أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله، ولم يقصِر الله العلم والشعر والبلاغة على زمنٍ دون زمن، ولا خَصَّ به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتَرَكًا مقسوما بين عباده في كلِّ دهر، وجعل كلَّ قديمٍ حديثا في عصره».
وفي الختام، فإن الوصاية على الكتابة تعدّ مظهراً من مظاهر الرجعية الحضارية، سواء ارتبطت هذه الوصاية بمؤسسة سلطوية، أو بوجهة نظر ذاتية، وبغض النظر عن قيمة الجودة، وما يتصل بها تبقى الكتابة الممارسة الأكثر تعبيراً عن توجهات حضارية ينبغي أن تُدعم، بل إنها تعدّ مرحلة من مراحل الوصول إلى نتاج ثقافي يتميز بجودة عالية، فالثقافة فعل تراكمي يعتمد على الدينامية والحيوية، لا على الإقصاء والوصاية.

كاتب أردني فلسطيني

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *