أتذكّرني، في التاسعة عشر عاما (إلا شهرين)، قبل نحو 37 عاما، أطرُق باب مكتب الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الأستاذ في دائرة اللغة الإنكليزية في جامعة اليرموك (كنت فيها طالبا في الصحافة والإعلام)، فيأذن لي بالدخول، ثم أعرّفه عليّ، وأطلب منه موعدا لمحاورته في مقابلةٍ صحافية للنشر. كان قدومُه للتوّ أستاذا في الجامعة، واسمُه معلومٌ جيدا لدي، مترجما وناقدا. ثم صارت المقابلة، ونُشرت في الملحق الثقافي لصحيفة الرأي الأردنية. جاءت إليّ، أخيرا، تلك البهجة التي ما زالت فيّ، لمّا “ظفرتُ” بالجلوس إلى الأستاذ العراقي، مترجم بعض شكسبير وإليوت، وزميل السياب ونازك، والقادم من هارفارد وكامبريدج، لمّا صادفتُ أخيرا أستاذَنا يذيع، في تدوينةٍ، إصدارَه كتابيْن مترجميْن، ويكتب “ليكن ما أعمله مساهمةً صغيرةً في خدمة ثقافتنا العربية، على الرغم من بلوغي التسعين ربيعا”. تعدّدت، تاليا، لقاءاتي مع شيخ المترجمين العرب في عمّان ودبي والدوحة، غير أن لتذكّر لقاء اليفاعة ذاك، هذه المرّة، مذاقا خاصا، ربما لأن مسرّةً موصولةٌ بتلك البهجة البعيدة ألقاني فيها لعبور الدكتور لؤلؤة الربيع التسعين، وهو مشمولٌ بأضمومات محبّةٍ بلا عدد، وصلت إليه في مقامه في كامبريدج، و”أبو بشّار” ليس في وُسعك إلا أن تحبّه، وأن تأنس إليه، وأن تفيد منه. يجتمع حسٌّ عالٍ من الظرافة الرائقة مع كثيرٍ من عميق المعرفة والصواب والدقّة. ولم يكن الشاعر سامي مهدي يتزيّد، لمّا كتب، مرّة، إن عبد الواحد لؤلؤة “…، واضح الأفكار، نافذ الملاحظة، دقيق المصطلح”. ولمّا تقرأ مقالاته المنتظمة، في الزميلة “القدس العربي”، تغبط أستاذَنا المجدّ على ما يحتشد فيها من أناقةٍ ورهافةٍ وخفّة روحٍ، وعلى علوّ الذائقة في تحسّس جمال النص الأدبي.
وفاءٌ مدهشٌ للعمل والإنتاج، وإخلاصٌ رفيع ودؤوبٌ للمعرفة. 66 كتابا (في عدٍّ متعجّل)، منها نحو 40 ترجمةً من الإنكليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنكليزية. بعضُها في النقد، وفي البحث والدرس، وفي طرح أفكارٍ وتصوّراتٍ في أسئلة الكتابة والأدب والترجمة وأحوال الراهن العربي ثقافيا واجتماعيا، وفي العلاقة مع المُنتج الإبداعي الآخر، وفي شؤون التعليم والعلم. وفي رمي الاستسهال والتهاون في الترجمات المتسرّعة والناقصة الدقة. وفي الأثناء، لا يستحسن عبد الواحد لؤلؤة تسميتَه ناقدا كبيرا، كما فعل لمّا أوقف مدائح له من شاعرٍ كان يُحاوره في مقابلة. قال إنه كبيرٌ في السن، وإنه ليس ثمّة ناقدٌ عربيٌّ منذ عبد القاهر الجرجاني (!)، ويؤشّر إلى طه حسين إنه لم “يدّع” إنه ناقد. وفي غير مناسبةٍ، يشدّد صاحب “مدائن الوهم” على هذا. وهو يطلب (أو يشترط؟) من المترجم أن لا يكتفي بإجادة اللغتين، بل أيضا بمعرفة تاريخهما، وإحاطةٍ بلغاتٍ تجاورهما، وبأن يتّصف بالتواضع، فيستشير غيرَه من العارفين إذا شكّ في شيء. ويأتي لؤلؤة على أمثلةٍ وفيرةٍ من أخطاء مترجمين شهيرين، عربٍ وأجانب، منها طريفٌ ومنها يدلّ على جهل. ولا يطرح أستاذُنا ترجماتِه خلوّا من مقدماتٍ ودراساتٍ وتحليلاتٍ وشروحات ومقارنات. وعندما يترجم لإليوت “الأرض اليباب” (وليس الخراب) يعرف مساوئ ترجمات سابقيه وخطاياها وأخطاءها.
ارتحالاتٌ في جامعاتٍ في الغرب والشرق، أستاذا ومعلما وباحثا، وتطوافٌ مديدٌ في آداب ومعارف ومفاهيم وأفكار (ترجم من “موسوعة المصطلح النقدي” ما ترجم)، وتجربةٌ غنيةٌ شاسعةٌ في الحياة في غير بلد، واشتباكاتٌ في غير مسألة، وأنشطةٌ وأعمالٌ بلا عدد، لكن صاحب “منازل القمر” لا يستطيب استرسالا منه في حديثٍ عن نفسه. ولمّا كتب عن محطّات في سيرته في “حكايات الزمن الضائع” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020)، اختار في 140 صفحة أن يأتي على ماضٍ بعيدٍ في مدينته الموصل، في أيام طفولةٍ وشبابٍ أول، وأن يسرد “سيرةً عراقيةً لأحداثٍ بلا أسماء”، ما يجيز لنا، نحن قرّاؤه وتلاميذه ومحبّوه، أن نطلب منه أن “يجود” علينا بكتابٍ في السيرة أعرضَ وأكثر انكشافا، فيه رؤىً وخلاصاتٌ من التسعين ربيعا. وهنا أتذكّر سؤالي، التقليدي طبعا، من صاحب “النفخ في الرماد”، في المقابلة، المنشورة شتاء العام 1984، أن “يحدّثنا” (يا لسوء ما كنت أكتب!) عن “حياته العلمية والأكاديمية والتدريسية”، فيجيبني باقتضاب، بعد أن يوضح أنه يحسب السؤال “مما يوجّه في العادة إلى نجوم السينما ومحترفي الظهور على شاشات التلفزيون” .. ثم في التسعين، ما زال عبد الواحد لؤلؤة يقيم على تواضعه الرفيع، وعلمه الكثير، ودفء حضوره، وعطائه الغزير القيمة. .. كل عام وأنت بألف خير أستاذنا.
* عن موقع ضفة ثالثة
مرتبط
إقرأ أيضاً
في الصّمت*عبد السلام بنعبدالعاليلا يدعونا شيوران إلى الخلود إلى الصّمت وإنما إلى محاكاته، أي إلى بلوغ…
في العيد*بسمة النسورتتردّد في الفضاء، يوم العيد، تكبيراتٌ بإيقاع خفيض، سرعان ما تعلو، فتحل في الأرواح…
-