من حكاياتي: يا مدارس… يا مدارس

من حكاياتي: يا مدارس… يا مدارس

* سهير سلطي التل

إكتشفت مؤخراً أنني ورثت حكاية الأرشفة والجمع من والدي رحمه الله، فقد وجدت بين أوراقة ملفا كاملا يجمع معظم ما يتعلق بمسيرتي الدراسيّة، من المدرسة حتى مرحلة البكالوريوس أما بعد ذلك- الماجستير والدكتوراه- فقد تكفلت أنا بها….

من طرائف ما وجدت، شهادات الصفوف من السادس الابتدائي حتى الثاني ثانوي ( من الأول الى السادس كانت في دمشق وأظنها ضاعت من ضمن ماضاع بعد دمشق) التي تؤكد تفوقي، وتنتهي كلها بما كان يعرف بملاحظات مربيّة الصف، ومديرة المدرسة، لتشير في معظمها الى أنني مجتهدة ومؤدبة، وغير ذلك من الصفات الجيدة، كنت بالفعل متفوقه حتى شهادة المرحلة الإعدادية( المترك) على الرغم من كراهيتي للكتاب المدرسي، والهرب منه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لكنني كنت فتاة شقيّة، لعبتي المفضلة (الكلول أو الدواحل) عدا الشعبطة على الشجر في كرم جدي علي نيازي، وأحيانا ظهر بغلة جدي صالح المصطفى، وكان مكاني المفضل رأس شجرة التوت في بيت جدي صالح ( بيت عرار حاليا) للهرب من عقاب، او الإختلاء بالنفس بعيدا عن ضجيج الاقران، كان لقبي المعتمد بين أولاد وبنات الجيران والأقارب (حسن صبي)

اذكر جيدا علاقتي المضطربة بمدرسات ومدرسي مادة الدين الاسلامي، وكنت لا أرتاح لهذه المادة، لأنني لا أستطيع حفظ أي مادة غيبا، وأعكس ذلك بنوع من التحايل والشغب، كانت ذروته في الصف الثاني الثانوي في ثانوية اربد للبنات، اذ وضعت على منضدة الاستاذ فرخ ثعبان – حصلت عليه من احد اولاد الحارة بعد قلع أنيابة- فقامت قيامة الصف، وأربكه صراخ البنات، ولم يستطع التصرف، حتى تقدمت وأمسكت بالثعبان الصغير، ووضعته بكل شماته في حقيبتي، طبعا قامت قيامته، وأرسلني الى المديرة الفاضلة سعاد أندراوس، التي تحترمها وتخافها كل مدارس اربد، ولما سألتني أجبتها بكل برود، أن الثعبان هرب من حقيبتي، وأضفت بنزق، هو يكرهني ويشكوني دائما الى شيوخ العائلة في المضافة، لإحراج والدي، وأنا أرد عليه، فإنفجرت ضاحكة، وأعادتني الى الصف بعد توبيخ رقيق، وكنت اعلم بسري ان الامر يعود الى موقف تعلق باخراجي الطالبات من حصته للمشاركة في مظاهرة كبيرة سنة 1968

لم احفظ بحياتي مادة غيبا، وكان هذا الوضع ينسحب على الشعر والعروض – كنا ندرس عروض الشعر كمادة مستقلة، – في منهاج الصف الاول الثانوي-، لذلك لم تكن درجاتي في مادة اللغة العربية بالقدر المناسب لطموحات الوالد الشاعر، أما الرياضيات والعلوم والتاريخ والقضية الفلسطينية، فقد كانت موادي المفضلة، لكن هذا التفوق لم يستمر، وكاد ينتهي بكارثة عدم إجتياز إمتحان الثانوية العامة عام 1970، نتيجة إهمال الدراسة لصالح العمل الطلابي، اذ صار لنا إتحاد طلبه، وصرنا نشارك بالمظاهرات والإعتصامات وأحيانا نخرج إلى قواعد الفدائيين القريبة، ونرفع شعارات اليسار الجديد، أذكر جيدا يوم تحولت ساحة اربد إلى ساحة حمراء، تضج بالأعلام الحمراء وهتاف (كل السلطة للجماهير) وغير ذلك من قصص الانتقام لهزيمة 67، وهكذا إجتزت الامتحان بمعدل علامات (على الحافة) مما دفع والدي اليائس من التزامي، ونحن على مشارف ( أيلول القاتم) الى شحني خارج البلاد، تمهيدا لإيجاد جامعة تقبلني بهذه الدرجات المتدنية

من طرائف هذه المرحلة، من بيّن ما وجدته بين أوراق الوالد، صورة عن طلب مقدم لمكتب التنسيق الموحد للجامعات المصرية، وكان من بين الخيارات الاولى، المعهد العالي للاقتصاد المنزلي (ولو يا بابا إقتصاد منزلي وفي القاهرة) …. أعرف ان هذا الامر لو تحقق، لن يكون بقسوة الشحن إلى يوغسلافيا بهدف الدراسة من دون رغبتي، لكني شحنت، الامر الذي غيّر مجرى حياتي، ودفعني الى التمرد قبل فوات الأوان، والعودة بقرار ذاتي منفرد الى دمشق قبل إنتهاء السنة الأولى دون إعلام احد،

للرحلة الليلية بالقطار وحيدة، من بلغراد الى إستنبول، ومنها الى أنقرة ثم حلب واخيرا دمشق، بالحافلات، وعمري الذي تجاوز الثامنة عشرة باشهر قليلة، قصة تحكى ….

كانت كارثة ايلول ( ماغيره) قد وقعت، ولم يكن أمامي سوى بيروت للالتحاق بجامعة بيروت العربية، وهذه المرة في كلية التجارة تخصص محاسبة، أعترف هنا أنها كانت رغبة الوالد، وأنا لم اقو على الإعتراض، فقد سببت له الكثير من الإحراج والمتاعب ……

ملف جامعة بيروت العربية يقول أنني تخرجت بقدرة قادر، فقد كانت الدراسة آخر همي، إعادة سنوات وحمل مواد، ووغير ذلك من قصص الدراسة المتعثرة، التي تاهت بين مقاهي الفاكهاني والتداعيات السياسية والتنظيمية لاحداث ايلول، والانسحاب من الاردن الى لبنان ،وبخاصة إنسحاب فصيلنا من إربد من دون دفاع عنها، ثم التحول إلى العمل الصحفي واكتشاف بيروت خارج الفاكهاني، والحرب الاهلية، ومغادرة بيروت والعودة اليها مع استمرار الحرب، تخرجت ولا أعلم كيف…. طبعا لم اعمل بالمحاسبة إطلاقا، وكنت قد احترفت العمل الصحفي وأغلق هذا الباب، لكن ليس الى الأبد

أقول الحق سنوات طويلة مرت، وأنا أشعر بغصة تأتي وتذهب، لم أتحدث عنها إلا نادرا، فالبنت المتفوقة لم تغب عني وغصة فقدان حياة جامعية ككل الطلاب، حقيقة أنني لا أحفل كثيرا بالشهادة ومسمياتها، وطالما عبّرت عنها بمفردة( الكرتونه) ربما أعطتني الحياة ماهو أكثر إتساعا وعمقا، لكن هاجسي بعدم تصحيح مساري العلمي بقي قائما، وكان علي فعل ذلك، بعد تصحيح مسارات كثيرة شخصية ومهنية، وهكذا عدت الى مقاعد الدراسة الجامعية- كطالبة دبلوم عالي دراسات فلسفية-، وأكملت المشوار حتى الدكتوراة في الفلسفة، وهذه المرة من ملفاتي التي تقول أوراقها انني اصبحت ختيارة على ممارسة الحياة الجامعية كما ينبغي …….

بالمناسبة ما زلت أقول (كرتونه) ولا أحب لقب دكتورة ……

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *