يا ليُتم الدار..!

( ثقافات )

* رانة نزّال

أن تفتح ذراعيك لتحتضن الزوّار صار أُمنيةً لا يمكنك تحقيقها خوفاً منهم على عليهم وهذه حقيقة يفرضها فيروس كورنا المستجد وتفاصيل الحياة الجديدة في معتادها الجديد، ولكن العُرف الّذي نتوقه أن تفتح دور النشر التي توزعت بين أركان معرض الشارقة للكتاب الدولي الذي شكّل حدثاً استثنائياً وفرحاً حقيقياً ومهرجاناً ثقافياً نلتقي فيه الأحبة والغُيّاب ولو بعد حين لم يحصل، في القاعة رقم ثلاثة الجناح رقم 9 كانت يتمية الدّار يتماً موجوعاً حين وصلتها الأربعاء 4/11/2020 تمام الثامنة مساءً وكانت خالية، تلفتت يميناً ويساراً علّه هناك يُلقي التحية كعادته ببشاشة وتواضع لا يخلوان من ثقةٍ وزهو، إلا أنّ الأروقة الفارغة من الروّاد بسبب الإجراءات الاحترازية حالت دون عثوري عليه، قُلتُ لعلّه يأتي بعد قليل وتحت إبطه كتابٌ كنز كما كان يقول حين يقعُ على كتاب مميّز ويُعدّ عدته ليباشر حفرياته فيه، ولتبدأ آليات الكشف عن المكنون الدلالي، والبعد الثّقافي الذي طالما متعنا به من خلال ترجمته الفذّة، وهكذا كان وقفتُ داخل غرفة العرض وتصفّحت العناوين مأخوذة بها، سعيدة بقدرتي على تعويض ما فاتني ذات غياب امتد خمس سنوات لدراسة اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية، ذات تيه.

وما هي إلا دقائق معدودة تلك التي فصلتني عن صوت المسؤول عن الدار للمعارض الأخ أسامة أبو طاعة وهو يقول: معقول! وكدتُ أسأله عنه، لما شعرتُ بالحقيقة لأوّل مرّة أواجهها فجّة وحقيقية فقلتُ: يسلم راسك، ورحمة الله عليه.

يا ليتم الدّار! يا للعناوين الأخيرة التي وزّعها بين كتابين عن رحلته في الكتابة بين عشبه الأرعن في حديقته الخلفية حيث يقول:

“الكتابة مرآتي وأنا الذي فوق وجهها المتعرّق ….. أخطّ حروفي بإصبعي، سريعاً وملهوفاً، قبل أن يتبدّد الندى، فأمّحي أنا إذ تتوه الذاكرة، وتسيح إذ تتغبّش الذاكرة وتشيخ”

ويحكي فيما يحكيه فيه عن منزله إذ لكل منزل حديقته الخلفية “وهذه حديقتي الخلفية حيث يصير للعشب الأرعن أن ينمو في غافلة عن مقصّات التشذيب”.

هو إلياس وأن أمسك بكتابيه هذين آخر ما نشر قبل موته، رفعتُ عيني عن الكتابين وكدت أقول قبل غفوته، فشعرتُ روحه تطلّ من عُلٍّ وتقول لا بأس أن سأصحو وأنتِ تقرئين، دمعاً سأحضر في كُلّ عين تقرأ حروفي، وسأناقش من يرغب في نقاشي وهذا الفارق الافتراضي مؤجل

ومؤقت ولن يطول، وجدتني أبتسم وأنا أقرأ بعد أن عدت إلى الكتابين في صفحة من “سهوة السماء عني” الجزء الثاني من الكتابين

“كما لو أنّنا الدّخلاء علينا

كما لو أنّنا الخارجون بأحلامهم

نبذرها في سهوب المضاجعِ

كالأضاحي

فيجمعها أولئك من بعدنا

شيلواً شيلوا

ويغصّون”

وإذ يضم الكتاب في سهوة السّماء عنه بين دفتيه توثيقاً وأرشيفاً واسعاً ومهماً للحراك الثقافي بأسئلته الحاذقة ورواده القائمين عليه، وفي واحدة من منصاته الورقية ذات أوان ملحق مشارف في جريدة “العرب اليوم” هذا السّجال حول الشّعر ماهيته؟ ومسمياته، وحداثته يثير الجدل المنفتح الموّار حين يقول: “لا تعتبر أشكال القصائد المتوارثة والمستجدة المتداولة، بذاتها معياراً على شعريّة النّص، فالأشكال تتحوّل بينما الشّعر أو الشّعريّة أو ماهيتها في النّهاية تبقى ثابتة وهي الأساس الذي تُبنى عليها بالانسجام معها، وبالتالي فإن الشكل ليس مقدساً” هذا الجدل الذي أدار ويظل يدير من خلال حروفه وصوته الحاضر يؤكد أن لا غياب للمثقف الحقيقي “وأن قد غلبتك الفنون يا موت”.

وها هو معرض الشّارقة الدولي للكتاب يطلّ علينا وقد غاب عنه أعلام ورواد وشعراء وكتّاب انتقلوا إلى هناك إلى حيث يقول الصديق حسين دعسة: “لقد نجوتم!” وإلى حيث يظل حضورهم في بعده السّابع تأكيدٌ حيٌّ وناطق على أن الحرف في معجزة ابتكاره وتحويله من رسم إلى رمز لهو دالة على استمرار بعد فناء أدوات حضوره الجسدية من أصابع وفكر وعلم إلى أدوات ديمومته من حضور حيّ يقظ على الحجم الورقي وفي عقول/ المتلقين.

وإننا لنغصّ يا إلياس بغيابك، وإن كنا فرحن برؤية أزمنتك برؤيتها، بحلمها، بأملها، بوعدها، وراياتها ما زالت حاضرة تتنفس أو تحاول، ليتها لا تغيب كما غبت أنت عنها ويتمتنا.

عليك الرحمة يا إلياس

عليك السّلام!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *